الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التخوم و الحدود : ملاحظات حول الجغرافيا السياسية في القدس

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2017 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


يلخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رؤية المجتمع الإسرائيلي للقدس حين يقول "أورشليم[القدس ]هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، المدينة التي أعيد توحيدها كي لا تنقسم مرة ثانية ... إن انجذاب وألفة شعبنا الذي لا مثيل له لأورشليم امتد لآلاف السنين، وهي أساس نهضتنا القومية. لقد وحدت شعبنا، العلماني والديني على حد سواء "(1) ..مثل هذا القول هو إيمان شائع بين الإسرائيليين الذين يرون في "القدس الموحدة" فضاء عمرانيا ثابتا وموضوعا مفترضا للسيادة الإسرائيلية وللتطلعات و المطامح الإثنية-القومية .ومدينة القدس [أورشليم],برغم ما سبق, تم تصنيعها[فبركتها] عن طريق الممارسات الجيوسياسية بما في ذلك ليس الاحتلال العسكري فحسب ,بل أيضا عبر سياسة التخطيط والهندسة الديموغرافية وإنتاج الجغرافيات المتخيلة. بيد أنه غالبا ما يتم تحليل هذه المجالات من الدراسات كل على حدة، وتجاهل أهمية التخطيط العمراني في الدراسات المتنامية و المتعلقة بالجغرافيا السياسية . ناهيك عن أن النقاش النقدي حول الجغرافيا السياسية والصراعات الإثنية يميل إلى التركيز على حدود الدول والأراضي القومية ويتجاهل أهمية تحليل الحقل العمراني. ووفقا لهذا تحاول هذه الورقة مناقشة التخطيط في القدس على ضوء الأدب المتنامي للجغرافيا السياسية.وعليه ستركز على أهمية الجغرافيا السياسية لدراسة التخطيط، التي نعني به ليس مجرد مناقشة العلاقات الدولية والصراع أو أدوار الأعمال العسكرية والحروب في إنتاج الفضاء المكاني ( 2 ) .بل أن الجغرافيا السياسية تشير إلى ظهور خطابات وقوى مرتبطة بتقنيات السيطرة، وأنماط الهجرة الداخلية للأفراد والجاليات المحلية، وتدفق الثقافات ورأس المال مثل مقاربة يوسف جبارين (3) الذي يحلل ,بموجب مقاربته هذه, الطرق التي استخدم بها التخطيط العام في إسرائيل للتأثير الدراماتيكي على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لتحقيق الغايات الجيوسياسية. ويلمح جبارين بأن التخطيط في القدس استند إلى استراتيجيات جيوسياسية الهدف منها هو السيطرة على الديموغرافيا وتوسيع نطاق السلطة القضائية للمدينة عبر مصادرة الأراضي الفلسطينية واستبعاد السكان الفلسطينيين في المدينة من أي تخطيط استراتيجي. وأقترح , في هذه الورقة البحثية, المزيد من البحث عن العلاقة بين التخطيط والجغرافيا السياسية من خلال اقتراح أن الجغرافيا السياسية للمدن لها علاقة كبيرة بعبور المقاييس من مستوى الحي إلى مستوى المدينة ومن ثم إلى الجهاز الاستعماري للدولة. ويتعلق هذا بتأثير الحدود والإقليم، الذي لا يتناقص دوره ,وعلى الأصح ,وكما يجادل نيومان( 4), يمكن التعرف على مقاييس جديدة للحدود والانتماءات الإقليمية التي قد تكون مرنة ولكنها لا تزال تعتمد على نطاقات جغرافية مختلفة - وهي حجة تمهد الطريق لقراءة التخطيط بصورة جيوسياسية .
التخطيط والإنتاج الكولونيالي للقدس:
بداية سنقوم بمقاربة تستهدف تقديم لمحة موجزة عن تخطيط القدس كأداة لتشكيل الجغرافيا الاستعمارية للمدينة, ومثل هذه المقاربة لاتعد أمرا اعتباطيا, حيث يجادل فوكو ,ضمن سياق نظري أوسع (5 ) ,بأن العلاقات بين السلطة والتخطيط تمضي من خلال تغيير كبير يتزامن مع صعود النزعة القومية. وبات التخطيط ,منذ القرن الثامن عشر انضباطا لمظهر سياسي جديد ،يبرز الدولة كمؤسسة تفرض نظاما إقليميا واجتماعيا وسياسيا وإدراكيا، الذي يقولب القواعد والأحكام عن طريق آليات الهيمنة والإقصاء والإدماج. وبأخذ هذا بعين الاعتبار , فقد غيرت حرب 1948 (وإقامة دولة إسرائيل) وبصورة كبيرة جغرافيا وديموغرافيا القدس والسياسات إزائها فقبل كل شيء تميز فصل المدينة بين إسرائيل والأردن بجدار ساهم بخلق منطقة حدودية. ولكن حرب 1948 والصراع القومي حولت أيضا التنمية العمرانية بشكل كبير ,فتشكلت القدس اليهودية من خلال عمليتين؛ فقد انكمشت المدينة خلال تلك الفترة لجهة مناطقها "الآمنة" ,في حين تمددت من مناطقها الغربية النائية,ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تطوير مناطق الإسكان الجماعي للمهاجرين اليهود مثل كريات يوفيل وكريات مناحيم في مكان القرى الفلسطينية المصادرة.وخلال هذه الفترة، برزت الأهمية المركزية للدور الذي لعبه كل من التخطيط والهندسة المعمارية بوصفه جزء من "الأداة" الجيوسياسية للدولة، فضلا عن كونه من وسائل السيطرة والانضباط المطبقة على السكان. وفي الواقع تتوافق مثل هذه المزاعم مع ما يقوله هولستون( 6 ) :بأن التخطيط الحديث وسيلة مفيدة لبناء وصياغة أشكال جديدة من الانتماء الجماعي والحياة اليومية. وعلاوة على ذلك، ومن حيث الديموغرافيا، فالجزء الغربي من المدينة استوطن اليهود الشرقيين فيه أساسا في الأحياء الحدودية، كما هو الحال في مأمن الله و المصرارة ؛ كان يقيم في هذه الأحياء الفلسطينية السابقة بصورة اساسية مهاجرين يهود فقراء يحمون حدود المدينة.وقد صاحب هذ عمليات بناء ضخمة للمركز التمثيلي الجديد للعاصمة اليهودية المعروف باسم "كريات هاليئوم" (المجمع القومي الحكومي) الذي شمل مؤسسات قومية تقع في الغرب مثل الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، ومتحف إسرائيلي والحرم الجامعي في جفعات رام. هذا من ناحية الديموغرافيا و العمران , أما من وجهة نظر معمارية، فقد تبنت هذه العملية مفهوم الحداثة كرمز واستجابة وظيفية للوضع السياسي في حين خضعت العمارة الفلسطينية المحلية للهدم بوصفها بنيان يدل على "الآخر " المخيف .
كانت حرب 1967 ,كما تم توثيقها و مناقشتها على نطاق واسع ,نقطة التحول المكانية الكبيرة للظروف الجيوسياسية الإسرائيلية ، عندما احتلت إسرائيل القدس الشرقية من ضمن أراض أخرى احتلتها . وفي أعقاب ذلك، شرعت الحكومة الإسرائيلية في إصدار تشريعات من أجل تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية، على الرغم من الاعتراضات الدولية. ونتيجة لذلك ضمت إسرائيل الأراضي الفلسطينية وأعلنت القدس عاصمتها. غير أن السياسة الإسرائيلية , بعيدا عن الخطاب الإسرائيلي الذي يمثل القدس كمدينة موحدة، كانت سياسات التخطيط للمدينة تصورا سياسيا لمدينة استعمارية. وتبعت الدولة و المدينة هذه السياسة، التي عززت باستمرار مشروع التهويد: أي توسيع السيطرة السياسية والاقليمية والديمغرافية والاقتصادية لليهود.(7)
استخدمت إسرائيل ,كما يبين يفتحايل و يعقوبي بالتفصيل ( 8 ) قوتها العسكرية وسلطتها الاقتصادية لنقل الحدود والتخوم ومنح وإنكار الحقوق والموارد وتحويل السكان وإعادة تشكيل الأراضي المحتلة بهدف ضمان السيطرة اليهودية. ونفذت إسرائيل فيما بتعلق في القدس الشرقية استراتيجيتين تكميليتين؛ بناء طوق خارجي ضخم حول الأحياء اليهودية التي يسكن فيها الآن أكثر من نصف سكان القدس اليهود ، واحتواء كل ما يشتمل على التنمية [العمرانية] الفلسطينية ، من خلال هدم المساكن ومنع الهجرة إلى المدينة. وشجعت سياسة استغلال الأراضي في القدس على التوسع اليهودي مع تقييد النمو الفلسطيني في المدينة. فقبل العام 1948 كان اليهود يمتلكون أقل من 30 % داخل بلدية القدس ,بينما تشكل ملكيتهم في الوقت الحاضر أكثر من 90 %. وقد خلق هذا النمط عقبة مادية يضاف فوق الحاجز المكاني القائم بين القدس الشرقية والقدس الغربية. وعلاوة على ذلك، حافظ الإسرائيليون أيضا على سيطرتهم على جميع البنى التحتية ، بما في ذلك شبكة المياه والصرف الصحي، والطرقات المؤدية للمدينة بحيث أصبح الفلسطينيون معزولين في أحياءهم الخاصة، مقطعين عن بعضهم البعض.
وثمة تحول هام آخر فيما يتعلق بفترة ما بعد العام 1967 هو التركيز على العودة إلى البلدة القديمة. كانت الأحياء الحدودية المسكونة حتى العام 1967 والتي تمثل المجتمعات اليهودية الفقيرة موضوعا لإعادة التطوير والتجديد. ويعتبر حي "يمين موشيه" مثال جيد على هذه العملية, فقد أقيم هذا المجمع السكني خارج أسوار المدينة القديمة في العام 1891 لإيواء العائلات اليهودية. وقد تم نقل السكان الذين كانوا يقيمون في هذه المنطقة الحدودية بين عامي 1948 و 1967، وحولت عملية إعادة إعمار ضخمة الحي إلى منطقة أرستقراطية غنية جدا، تعرف بأنه أحد "الأحياء الأشباح" في القدس.كما كان هناك آلية تخطيط أخرى شكلت القدس والمناطق المحيطة بها منذ عام 1967 ,وهي إنجاز البنى التحتية. ويعد تنفيذ الطريق رقم 1 مثالا جيدا على هذا الاتجاه فهو يربط مركز القدس الغربية بالمستوطنات البعيدة مثل التلة الفرنسية وبسغات زئيف وكذلك إلى بعض أكبر المستوطنات في الضفة الغربية مثل معاليه أدوميم.(9).والأهم من ذلك، أنه وبخلاف التوزيع غير المتكافئ لخدمات النقل فقد غيرت الطرق والبنى التحتية الأخرى الخريطة الإدراكية للمدينة بشكل كبير، ووحدت أراضي القدس الشرقية والغربية. ومن وجهة نظر معمارية ,طرأ تحول كبير في خطاب العمارة الإسرائيلي (10) إثر احتلال القدس الشرقية , والانكشاف على العمارة المحلية الفلسطينية . كان لهذه النظرة الاستشراقية للمشهد المكاني الفلسطيني دورا هاما في تشكيل الفضاء العمراني المعماري الإسرائيلي ,هذا الفضاء الذي استحال إلى مواقع للتجديد لأولئك الذين "يفهمون" و "يقدرون" المشهد المكاني "المحلي".
إن ما يزهر في عيون و منظور الجمهور الإسرائيلي على أنه استعمار سلمي نسبيا للقدس الشرقية قد تحطم خلال الانتفاضة الأولى (1987-1991)، وبشكل أكثر إثارة في أعقاب انتفاضة الأقصى التي بدأت في العام 2000 والتي أزهقت حياة ما يقرب من 4000 شخص، ثلاثة أرباعهم من الفلسطينيين.وقد دفع هذا المستوى من العنف إسرائيل إلى تحويل المشهد المكاني في المنطقة من جانب واحد من خلال بناء الجدار، الذي يعرف أيضا باسم "جدار الفصل"، بالإضافة إلى تقييد التنمية الفلسطينية و الحقوق و الحركة . ويذكر أن مسار الجدار الذى وافقت عليه الحكومة الاسرائيلية فى تشربن أول-اكتوبر 2003 يمر داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة ليحتوي غالبية المستوطنين اليهود ضمن "الجانب الاسرائيلى" ويضم بشكل فعال لاسرائيل 16 % من الضفة الغربية. وعند اكتماله، قد يتحسن الأمن اليهودي، ولكن سيترتب عليه بعض العواقب الوخيمة على الفلسطينيين، حيث سيتم حجز نحو 210،000 شخصا منهم بين الجدار والخط الأخضر، أو انقطاعهم عن أراضيهم وسبل عيشهم.وفي القدس والمناطق المحيطة بها ستضم إسرائيل 160 كم2 من الأراضي المحتلة بالإضافة إلى 70 كم2 تم ضمها مباشرة بعد احتلالها للقدس الشرقية. وتشمل هذه المنطقة مستوطنتي معاليه أدوميم وجفعات زئيف، ومجمع غوش عتصيون الاستيطاني، ومستوطنة بيتار علييت ، التي يسكنها يهودا حريديون. سيفرض الجدار نفسه على حدود إسرائيل السياسية في القدس ويحولها إلى أكبر مدينة في إسرائيل من الناحية الجغرافية (تبلغ مساحتها حوالي 300 كم2, ويبلغ عدد سكانها أكثر من نصف مليون يهودي) .ومن ناحية أخرى، سوف تتعرض الاستمرارية الجغرافية والتكامل الوظيفي للأحياء الفلسطينية إلى العزلة التامة عن مناطقهم الداخلية النائية.في الواقع، يمكن القول إن الجدار لا يحدد فقط حدود السيادة وضم المستوطنات داخل القدس وما حولها لتشكيل القدس اليهودية العاصمية فحسب، بل إنه يضع أيضا عقبات أمام أي إمكانية لتطور وحدة عمرانية فلسطينية متكاملة في وسط الضفة الغربية قادرة على أن تكون عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية. إن الواقع الجيوسياسي والجغرافي الديموغرافي الذي تفرضه إسرائيل من خلال بناء الجدار يفرض حقيقة جديدة على مستقبل القدس التي يتم من خلالها إعادة تعريفها إن التقسيم التقليدي للقدس الغربية( القسم الذي احتلته إسرائيل عام 1948 )والقدس الشرقية( الجزء الذي احتلته إسرائيل عام 1967 ) لم يعد موجودا في الواقع. وعلاوة على ذلك، فإن حدود الضم التي تفرضها إسرائيل بعد احتلالها للقدس الشرقية آخذة في التغير، ويشكل الجدار حدودا أخرى. ومن الممكن الآن القول إن الحل المستقبلي للقدس قد فرض قبل أي مفاوضات بين الخصمين.وكما هو مبين أعلاه، تتميز فترات ما قبل 1967 وما بعد 1967 بتدخل الدولة المهيمن في تحويل القدس إلى عاصمة؛ وكان ذلك يتعلق بالسكن والتنمية والمباني العامة والمؤسسات الوطنية والبنية التحتية. ومع ذلك، فمنذ منتصف الثمانينيات ومع الهيمنة المستمرة للأجندة النيوليبرالية في إسرائيل(11)، شهدت عدة بلديات مختلفة نقصا حادا في دعم الدولة (12). وأفترض أن هذا الاتجاه كان كبيرا في سياق القدس المتنازع عليه. أولا، فيما يتعلق بالظروف الجيوسياسية التي نوقشت أعلاه، و منذ العام 1995 تدهورت الحالة الاقتصادية للقدس لتتراجع من المرتبة 59 إلى المرتبة 111 في المدن والبلدات في إسرائيل (13)، بينما في العقود الثلاثة الماضية ازداد تدفق الخارجيين منها بما فيهم الأثرياء، وانخفض عدد المهاجرين الجدد الذين اختاروا الاستقرار في القدس.
وفي الواقع، ينبغي النظر إلى الظروف الجيوسياسية والاجتماعية - الاقتصادية على حد سواء كأساس لخصخصة الفضاء في وسط مدينة القدس. لقد اتسم كل من التخطيط العمراني والتنمية في القدس منذ التسعينيات ,بدرجة عالية من خصخصة الفضاء وكذلك بدرجة عالية من الخطاب الأمني . ويرجع ذلك إلى الانتفاضات الفلسطينية، لا سيما الثانية، عندما كان مركز مدينة القدس الغربية هدفا محوريا للعمليات الانتحارية. فبات الحضور الإسرائيلي العادي ضئيلا ، وكان هناك محاولة لملء وسط المدينة بالسياح والأثرياء الحضريين الذين يصلون ويغادرون في سياراتهم ولكنهم لا يستخدمون المنطقة.
وكما أوضحنا في النظرة العامة أعلاه، فإن التخطيط هو في الواقع جهاز فعال لتحقيق الأهداف الجيوسياسية. وعلى الرغم من اعتباره نظاما "منطقيا" و "علميا"، فإنه ينبغي الاعتراف بـ "الجانب المظلم" للتخطيط ،وبصورة خاصة في السياق الذي تكون فيه الحدود والتخوم و الأراضي متأصلة في العمل الجيوسياسي. وكما لاحظت الباحثة الإسرائيلية في الشأن الجغرافي إليشا إفرات: ... ليس الاحتلال رهنا على الحكومة وحدها ’ولا على الجيش والمؤسسة الأمنية, بل أن كل شيء ملوث بالاحتلال من حيث الجوهر: المؤسسات القضائية والقانون، الأطباء الصامتون عندما يحرم العلاج الطبي للسكان في الأراضي، والمعلمون الذين لا يحتجون على إغلاق المؤسسات التعليمية ... الصحفيون الذين لا يكتبون التقارير، الكتاب و الفنانون الذين يمسكون السنتهم عن الحديث والمعماريون والمهندسون الذين يساعدون أعمال الاحتلال – كبناء المستوطنات وإنشاء حواجز الطرق، والجدار الفاصل والطرق الالتفافية ... (14).وفي ضوء هذه المناقشة، أود أن أتحرى في القسم التالي ظاهرتين حاليتين في القدس تشيرانإلى أهمية دراسة التخطيط الحضري الجيوسياسي
الحدود / ديناميكيات المركز
ولد السجال المتعلق بالحق في المدينة نقاشا حول الفضاء العمراني بالنظر إلى مسائل مثل الهوية والثقافة والفروقات الاجتماعية والاحتجاج والمعارضة. (15) وكما يرى هنري لوفيفير (16) ، فإن الحق في المدينة يعني منح الحرية، والحق في عدم الاستبعاد، والحق في إنشاء هوية، فضلا عن أسلوب الحياة الفردي والجماعي، والحق في المشاركة في صنع القرار. وبعبارة أخرى، يشير تفكير لوفيفر إلى أن الحق في المدينة هو الحق في "الحياة الحضرية، والمركزية المتجددة، وأماكن المواجهة والتبادل ... تمكين الاستخدام الكامل للحركات والأماكن". (17)
وبالنظر إلى ذلك، أثير في الفقرات التالية مسألة ما إذا كان الفلسطينيون الذين نجحوا في شراء ممتلكاتهم ويقيمون في التلة الفرنسية يدركون حقهم في المدينة في سياق الجغرافيا السياسية الكولونيالية . أود أن أزعم أن الحق في المدينة هو أكثر بكثير من الحرية الفردية في الحصول على مأوى ,بل هذا الحق , باعتباره, ظاهرة حضرية هو "حق عام أكثر منه فردي نظرا لأن هذا التحول يعتمد بلا شك على ممارسة السلطة الجماعية لإعادة تشكيل عمليات التحضر(18) "
وعلى مدى العقد الماضي، برزت ظاهرة جديدة في القدس وهي "هجرة" الفلسطينيين، ومعظمهم من المواطنين الإسرائيليين، إلى مستوطنات "يهودية" في القدس الشرقية.ووفقا للبيانات المتاحة، يعيش أكثر من 000 7 فلسطيني في أحياء يهودية في القدس منذ نهاية عام 2008، يعيش حوالي 500 4 منهم في "أحياء تابعة"، أي مستوطنات القدس التي شيدت بعد عام 1967. وكما ذكر سابقا، فإن تخطيط وبناء هذه "الأحياء التابعة" كانت من أجل تحقيق وضع "الحقائق على أرض الواقع" في المشهد المكاني الذي كان ينظر إليه على أنه أرض مشاع terra nullius.كان هذا امتيازا للسكان اليهود استثني الفلسطينيون المقيمون في المدينة منه بشكل ملموس ورمزي كما لاحظ أحد سكان اليهود في التلة الفرنسية :عندما جئنا للعيش هنا، كان المنظر من النافذة فارغا- لم يكن ثمة أحد هناك - ربما منزل أو اثنين. وكان الأطفال يلعبون في الوادي. أما اليوم، فكما ترى ، هناك أمامنا كل هذه المنازل [الفلسطينية] غير الشرعية أمامنا(19). وبشكل عام فإن موقع التلة الفرنسية على حدود المدينة وقربها من بعض الأحياء الفلسطينية جعل "السيطرة الكاملة" فيما يتعلق بوجود الفلسطينيين فيها غير ممكنا .وبتفصيل أكثر ، يعتبر موقع حدود التلة الفرنسية مميزا من الناحية الجغرافية و الرمزية .فمن الناحية الجغرافية ,فالتل محاط بـ "المناظر الطبيعية المتنازع عليها" بما في ذلك جزء من جدار الفصل. وهو يراقب (وفي الواقع هو مراقب ايضا ) مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين، وهو يمثل حافة المدينة حيث يقع على الطريق الرئيسي المؤدي من وإلى صحراء يهوذا .الهجرة الداخلية للفلسطينيين إلى التلة الفرنسية هي أيضا حصلت نتيجة للظروف الجيوسياسية التي أدت فيها الرقابة الإسرائيلية والسيطرة على الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية إلى توزيع غير متكافئ للموارد والبنية التحتية والفقر والتدهور الاجتماعي والمادي. إن نظرة أقرب للأنشطة اليومية تكشف أن الوجود الفلسطيني في التلة الفرنسية انجذب للخدمات العامة المتاحة هناك. وعلى الرغم من تصاعد العنف في أعقاب الانتفاضة الأولى و بالأخص الانتفاضة الثانية ، وخطابات العداوة الجارية، وجد السكان الإسرائيليون في حي التل الفرنسي أنفسهم يواجهون معضلة حول ما إذا كانوا يجب أن يبيعوا الممتلكات للفلسطينيين.ومنذ بداية العقد الأول من القرن العشرين، اجتذبت الخصائص الحدودية لمنطقة التل الفرنسية بعض التفجيرات الانتحارية الفلسطينية الكبرى وغيرها من الهجمات. لذلك، كان هناك احتجاج شديد على الوجود الفلسطيني في المنطقة من قبل الأغلبية على "الجانب "اليهودي. ومن المهم أن نكرر السبب في انتقال معظم الفلسطينيين إلى هناك : فهم يريدون مكانا أفضل للعيش. فالمنازل والأحياء في مناطقهم التي تتمتع بمستوى جيد من خدمات المساكن والأحياء مفقودة عموما . إن المساكن الدائمة للعرب الذين يشترون أو يستأجرون العقارات في الحي هو في الواقع موضوع متنازع عليه، لم يكن مجرد محاولة مؤسسية لوضع حد لامتلاك العرب في إسرائيل ممتلكات مثل الأرض والإسكان (20)، بل هو خطاب عام مكثف، على سبيل المثال، تم التعبير عنه في خطاب "الحاخامات" في أيلول -سبتمبر 2010، حين دعا اليهود إلى عدم السماح للعرب باستئجار شقق في أحيائهم . وينص هذا الإعلان على أن من يؤجر شقته للعرب فهو يعمل الشر -في عيون الرب و تابعيه المؤمنين .
ويمكن استخدام الشروط الجيوسياسية الأوسع هنا كمكون أساسي في تفسير هذه الظاهرة. فقد بدأت الحكومة الاسرائيلية بناء جدار يفصل اسرائيل عن أجزاء كبيرة من الضفة الغربية بما فى ذلك القدس الشرقية. ومن النتائج الواضحة لبناء الجدار في القدس تكثيف النقص في مساكن القدس الشرقية. بالنسبة للفلسطينيين الذين لديهم "هوية مقيم في القدس"، ويعيشون خارج حدود القدس الجديدة يعرضون وضعهم كمقدسيين للخطر، في حين أن هذا الواقع الجديد يعيق حركة الفلسطينيين الذين يحملون هوية إسرائيلية. ومن ثم، وبعد أن بدأ بناء الجدار، عاد آلاف من الفلسطينيين إلى المدينة لحماية وضعهم وحقوقهم كمقيمينونتج عن ذلك ارتفاع سريع في أسعار المساكن في القدس الشرقية بنحو 50 %( تقرير IPCC للعام 2005 (، مما أدى إلى الضغط على سوق السكن، وبالتالي بدأ العرب، الذين يحملون هوية إسرائيلية لديهم الإمكانيات الاقتصادية، بالانتقال نحو الأحياء اليهودية. وقد لوحظ ذلك، على سبيل المثال، في مقابلة مع مصطفى، وهو فلسطيني ,مواطن إسرائيلي, انتقل إلى التلة الفرنسية في العام 2005 .يقول مصطفى : اشترينا في العام 2000 تقريبا "فيلا" في بيسغات زئيف. ثم بدأت الانتفاضة الثانية، كان هناك توتر وكنت أعرف أنه لا يمكننا الانتقال إلى بسغات زئيف [...] لذا، بحثنا عن مكان نحبه. لم نكن نريد أن نعيش في شعفاط. الخدمات البلدية والمدارس والبنية التحتية هناك ليست جيدة وغالبا ما يكون حاجز طيار بسبب الانتفاضة عند مدخل شعفاط، وإذا أوقفوك لا يمكنك الوصول إلى العمل في الوقت المحدد في المدينة .(21).وثمة سياق جيوسياسي إضافي لفهم هجرة الفلسطينيين إلى التل الفرنسي مرتبط بخصائص التل الحدودية, فتقع التلة الفرنسية بالقرب من بعض المراكز التجارية والاجتماعية الفلسطينية مثل الشيخ جراح ووادي الجوز وبيت حنينا والطريق الرئيسي إلى رام الله، مما يمكن مصطفى من البقاء على اتصال مع الجانب الفلسطيني بينما من ناحية أخرى يمكن لعائلته التمتع "[...] في البنية التحتية الحديثة، خدمات البلدية. وهنا الامن والسيادة، غير مهملين ".ويكشف عملي الميداني أن الفلسطينيين الذين يرغبون في شراء عقار في التلة الفرنسية، لا يمكنهم القيام بذلك إلا عن طريق الباعة اليهود الراغبين في تحقيق أقصى قدر من المكاسب المادية من خلال بيعهم للفلسطينيين. وقد أثار هذا الموضوع أنطوان، وهو محامي مسيحي عربي، ومواطن إسرائيلي متزوج من فلسطينية مقدسية. اشترى أنطوان شقته في عام 2002، عندما هبطت أسعار المساكن في التلة الفرنسية بعد الانتفاضة والهجمات وقتل الإسرائيليين في التلة الفرنسية. وعلى الرغم من انخفاض أسعار المساكن نسبيا في ذلك الوقت، ذكر أنطوان أن بعض الباعة الإسرائيليين رفضوا بيع شقتهم للعرب. غير أنه يقول ,وبوصفه محامي يمثل عائلات عربية أخرى تريد شراء منازل لها في التلة الفرنسية : العرب الذين يشترون هنا مستقرون اقتصاديا، حتى يتمكنوا من شراء أي شقة يرغبون فيها ، وأنا شخصيا أعرف حوالي عشرين عائلة اشترت ممتلكات [. ..] إذا نظرت إلى هذه العائلات -ستجدها جميعا بحالة اقتصادية أفضل من الأسرة الإسرائيلية المتوسطة. فهم يمكنهم تحمل دفع الـ "توسيفت عرفيي" (سعر إضافي للعرب) .(22). وهذا المصطلح "الذي استخدمه أنطوان، تكرر أمامي أيضا من قبل أشخاص آخرين ممن أجريت معهم مقابلات ويبدو أنه أصبح تعبيرا شائعا، حيث يقنن طريقة الدخول الوحيدة للعرب إلى سوق الإسكان في الأحياء اليهودية. ويعني ذلك حرفيا سعرا إضافيا للعرب، في حين يعني ذلك أن المشترين العرب سيعرضون سعرا أكثر بنحو 20 - 25 % من سعر العقار في الحي، وهو ما جاء أيضا في مقابلة مع وكيل عقاري يعيش ويعمل في التلة الفرنسية(23) .والواقع أن السكان الفلسطينيين القادرين اقتصاديا على شراء الممتلكات في التلة الفرنسية بعيدون عن أن يكونوا متخلفين كما ما يتم عرضهم كثيرا في الخطاب العام الإسرائيلي؛ فهم أكثر تعليما من متوسط المقيمين الإسرائيليين ويمكن تعريفهم اقتصاديا بأنهم من الطبقة المتوسطة العليا، وكثير منهم أكاديميون يبحثون عن بيئة سكنية أفضل. كما يقول مصطفى: كنا نبحث عن شقة [...] أردنا حي نحبه مع بنية تحتية جيدة. التلة الفرنسية مكان جميل للعيش. الجيران يعرفون أننا عرب، كانوا لطيفين [...] كل ما نريده هو العيش بسلام(24).على الرغم من حقيقة أن المسألة الطبقية و نمط الحياة "الغربي" بين السكان العرب في التلة الفرنسية هو شرط ضمني لوجودهم، فالأمر على الجانب اليهودي مجرد بداية لعملية سريعة من فقدان الهيمنة الديموغرافية في الحي. هذه المعضلة، كما ذكرها رابينوفيتش (25) ، تبرز التوتر بين الروح الجماعية للإقليم الصهيوني والطريقة الرأسمالية لسوق الإسكان الحر حيث تهيمن عليه المكاسب الاقتصادية الشخصية: تحدث عملية [تعريب] سريعة في التلة الفرنسية، وخاصة في شارع هايتزل, العرب في منطقتنا هم من الطبقة المتوسطة العليا. يأتون من الشمال - واحد منهم هو محام وبعد وصوله انضم عضو آخر من عائلته ... لقد بدأ الأمر بوصول الناس الطيبين ولكنني أخشى أنه خلال سنوات أن تتمكن بعض العناصر السيئة من العيش هنا أيضا .(26).وفي حين أن المقابلة مع مصطفى قد تشير إلى "استراتيجية البقاء" بين الأفراد العرب من الطبقة العليا من الطبقة الوسطى , فإن أصوات أخرى تسلط الضوء على البعد السياسي لقرار الانتقال إلى الحي الكولونيالي : [...] نحن نكسر الصور النمطية ضد العرب. إنهم [جيراننا اليهود] يشعرون أننا جزء من هذا المكان [...] إذا قمت بقياس القدرة الاجتماعية والاقتصادية للعرب في الحي، فهي أعلى بكثير من متوسط اليهود [...] وجودنا هنا لديه بمعنى رمزي، بل هو رمزيا لمسالة تصفية الاستعمار (27).وبعيدا عن مسألة ما إذا كان الفلسطينيون في التلة الفرنسية هم عملاء لمشروع سياسي أو مجرد أفراد من الطبقة الوسطى يسعون إلى تحسين ظروف سكنهم، يبدو أن حقهم محدود في التفرد وفي التنشئة الاجتماعية والموئل والسكن والحق في المشاركة والاعتماد (إذا ما استخدمنا مفهوم لوفيفر للحق في المدينة) (28 ) . وبشكل أكثر تحديدا، ووفقا لما توصلت إليه من نتائج، فإن "السكن" في التلة الفرنسية منفصل عن الأنشطة اليومية الأخرى نظرا لأن السكان الفلسطينيون في التلة الفرنسية لا يرسلون أطفالهم إلى المدرسة المحلية، وبالكاد يتواصلون اجتماعيا مع جيرانهم اليهودية . فعلى سبيل المثال، يعكس مصطفى صدى تجربة يومية مشتركة بين الفلسطينيين المقيمين في التلة الفرنسية الذين لا يشاركون في المرفق العام أو يستولون عليه : نحن نقوم بالتسوق من شعفاط ، ولكن نذهب مرة واحدة في الأسبوع إلى مركز التسوق [في بسغات زئيف]. ليس لدينا أي احتكاك بالأحداث الثقافية هنا، والأطفال لا يذهبوا إلى أنشطة ما بعد المدرسة هنا. يأتي مدرس البيانو لتعليمهم هنا في المنزل، نأخذهم لزيارة أصدقائهم [غير الإسرائيليين] في أحياء أخرى. ليس لديهم أي سبب للعب في الخارج(29). وبالإشارة إلى السؤال المطروح في افتتاح هذا القسم، يبدو أن المشترين الفلسطينيين يواجهون معضلة: هناك تصعيد بين القدرة الاقتصادية للفرد والمفهوم الجماعي للحق في السكن. وبعبارة أخرى، من خلال استخدام رؤى المنظر السياسي أيرس ماريون يونغ أود أن أقترح أن الحق في المدينة هو حول العلاقات أكثر منه في الأشياء. ويقترح يونغ أن الحقوق "هي قواعد محددة مؤسساتيا تحدد ما يمكن للناس القيام به فيما يتعلق ببعضهم البعض. . حقوق تشير إلى ما ينبغي فعله أكثر مما تشير إلى ما ينبغي تملكه إزاء العلاقات الاجتماعية التي تمكن أو تقييد العمل"(30). فإذا كان الأمر كذلك , فالسكن , إذن المكانية بالمعنى الأكثر عمقا، لأن" الفعل "- المجاورة – هو ممارسة مكانية تصبح ممكنة أو غير ممكنة من خلال الإنتاج الاجتماعي للمكان .
لننتقل الآن من الحدود العمرانية إلى وسط مدينة القدس حيث تحدث تغيرات مكانية هامة هناك ، ناتجة أيضا عن الهجرة، بسبب التخطيط المكثف، والتسويق، وبناء الشقق الفاخرة في شكل مجتمعات مسورة، التي تم شراؤها وامتلكها بالأساس يهود لا يقيمون بشكل دائم في إسرائيل. ومن المهم أن نلاحظ في هذه المرحلة أن الهجرة والاستيطان في القدس لهما طابع مختلف عنه في أجزاء أخرى من إسرائيل، فالهجرة و الاستيطان في المدينة كان لهما قدرة جذب بشكل خاص بين المهاجرين اليهود الأكثر تدينا القادمين من الدول الغربية و تتحدث البيانات المتوفرة عن أن من مجموع المهاجرين من الولايات المتحدة في العام 2009 , فإن 32% منهم استقر في القدس ؛ في حین كانت النسبة 24 % من المھاجرین الیھود الفرنسیین و 33 % من المھاجرین الیھود من المملکة المتحدة (31) . ویظھر اتجاه الھجرة ھذا بوضوح في سوق الإسکان الذي یجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في العقارات السکنیة. ففي وسط القدس، ثمة حوالي 10،000 وحدة سكنية مملوكة من قبل مقيمين أجانب(32).ورغم ذلك، فإن أيديولوجية الدولة الإسرائيلية وتاريخ الاستيطان والهجرة، فضلا عن شعور المهاجرين بالانتماء، غير كاف لشرح كيفية حدوث هذه المطابقة . ولكي نفهم تماما هذه الصورة المعقدة، أقترح تحليل السياسة العامة التي تكمن وراء إنشاء هذه المجتمعات المسورة. ومن خلال تسليط الضوء على السياسات المحلية التي تقوم من خلالها الدولة والقطاع الخاص بإنتاج الفضاء المكاني ، يمكننا أن نركز على كيفية قيام إسرائيل بتطوير الأيديولوجيات والمصالح "القومية" من خلال اقتصاد "السوق الحر"، مع تعزيز المصالح الاقتصادية النيوليبرالية في الوقت نفسه باسم من القومية.
وينبغي أن يبرز ما سبق ذكره لأنه أصبح من الشائع ربط عملية العولمة ونمو الاقتصاد النيوليبرالي مع نهاية الهيمنة القومية وانكماش قدرة مجتمعات المستوطنين على التأثير على العمليات المكانية مثل توجيه المهاجرين إلى المناطق الحدودية(. 33) و وفقا لهذه الحجة، أدى التحول السريع إلى الاقتصاد النيوليبرالي إلى زيادة دور "السوق الحرة" في تحديد العلاقات الاجتماعية في مجتمعات المستوطنين، بما في ذلك في إسرائيل (34). وهذا يعني أن العلاقات الاجتماعية المتضمنة في العمليات المكانية، من المفترض أن ينظمها الفاعلون في "السوق الحرة" دون أن ينتمون إلى مصالح "قومية". ومع ذلك، فإن هذه الأفكار مشكوك فيها. وفي ضوء الوضع في القدس، أقترح ألا تؤدي عمليات العولمة والخصخصة إلى تآكل سيطرة الدولة. بدلا من ذلك، أصبحت الهياكل المهيمنة أكثر مرونة مع ظهور الخطابات النيوليبرالية. قد يظهر الفحص النقدي أن هذا الخطاب يخفي دور الدولة وراء حجاب "السوق الحرة". فلا تزال الدولة تحتكر بعض الموارد - في هذه الحالة التخطيط. وتشير التقارير بأن المقيمين الأجانب اشتروا ما يقرب من35 % من الشقق في الأحياء المركزية في القدس المذكورة أعلاه (بلغ العدد في المدينة عموما 10 %) (35), ويبدو أن مثل هذه الأنماط من الهجرة يمكن تفسيرها مقابل ظهور النيوليبرالية التي تقوم على منطق السوق الحرة وحقوق الملكية والمنافسة في السوق(36) , إنه "المنطق" الذي صاغ مارسات مكانية مؤقتة مثل التخطيط العمراني ، وكذلك السياسات المتعلقة بالأراضي والإسكان. ويكمن جوهر هذا المنهج في الزعم بأن الأولوية في توزيع السلع والخدمات الحضرية لا تعطى وفقا لأي انتماء للدولة، وإنما إلى قدرة الفرد على المنافسة في السوق الحرة من أجل الحصول على هذه السلع .بيد أن مثل هذا النقد الإداري الضيق غير كاف؛ ويصدق ذلك بشكل خاص في حالة دول المجتمع الاستيطانين، حيث تخضع الأراضي والأقاليم والموارد للمنافسة والصراع المستمرين.
لنأخذ هذه الحجة نحو مطارح أبعد من خلال اقتراح أن كشف النقاب عن خطاب "السوق الحرة" قد يعري الدور المؤثر للدولة وأجهزتها البيروقراطية التي تعمل لتحقيق الأهداف الجيوسياسية. وثمة مثال إرشادي على هذه الحجة هو التعديل 168 من مرسوم - "قانون تشجيع الهجرة والعودة إلى إسرائيل." (2008). .تم تصميم هذا القانون من قبل وزارة استيعاب المهاجرين وهيئة الضرائب كخطة شاملة تدعو إلى فرض الضرائب بفوائد بهدف تشجيع المهاجرين من البلدان الغربية؛ وغني عن القول أن هذا المخطط مصمم خصيصا لاستيعاب المهاجرين اليهود فقط. وعلاوة على ذلك، تذكر بعض التقارير أن المستثمرين الأجانب الذين يشترون شققا سكنية سوف يتلقون من البنوك الإسرائيلية رهونات عقارية غير محدودة بالعملة الأجنبية غير محدود على هيئة مبالغ تدفع بموجب اتفاقية ,وهذا مخالف لمشتري الشقق الإسرائيليين الذي ينطبق عليه تقييد بنك إسرائيل للرهونات العقارية المرتبطة بالعملة الأجنبية، حيث قد يتغير سعر الفائدة خلال فترة خمس سنوات (37). نتيجة هذه السياسات أصبح وسط مدينة القدس موقعا جذابا للمهاجرين.ومع ذلك، فإن تحليل التدفق الواسع للمهاجرين الغربيين إلى وسط مدينة القدس يجب أن يشير أيضا إلى المناطق الجغرافية المتخيلة للمدينة. وبعبارة أخرى، فإن سوق العقارات الفاخرة ليس سوى جزء واحد من فهم نطاق هذه الظاهرة. فالعديد من المشترين , يشترون العقارات في مشاريع سكنية جديدة "تبيع" المشهد الشرقي للقدس، و "الروحانية"، و "الأصالة"، والأهم من ذلك الأمن في مواجهة السياق الجيوسياسي الأوسع نطاقا.وهناك مثال على هذا الاتجاه مرئي لأولئك الذين يسيرون في الشوارع المحيطة بمجمع "القدس الذهبية"، حيث يتم تسويق صور كبيرة مؤطرة عن "أصالة القدس" كجزء من التجربة الحية للمدينة.ولا شك أن أهم رسالة للمشترين المحتملين هي المركزية الدينية والقومية للقدس. وهكذا يتم عرض العديد من الصور الكبيرة لـ "القدس التاريخية" والمثال الأول هو صورة البقايا الأثرية والجدار الغربي في الخلفية، وهو أحد المواقع القومية والدينية المركزية في القدس، الذي يقع في البلدة القديمة. في حين أن هذه الصورة الأيقونية تؤكد قربها من "القدس الروحية" والجذور التاريخية للمدينة، وبعض الصور الأخرى تسوق "العمارة الأصيلة" للمدينة. والأقواس الخلابة والأزقة الضيقة التي بنيت من حجر القدس.
المناقشة: التخوم العمرانية والحدود و الحواف الحدودية
كان تحليلي في هذه المقالة ذو صلة بالتخطيط مع الممارسات الجيوسياسية المتأصلة في السياسات المكانية لاستعمارية الإسرائيلية نحو القدس. ومن الأهمية بمكان أن لا يقتصر النقاش , من خلال فههم الممارسات الاستعمارية , على الممارسات التاريخية التي خدمت الامبراطوريات في المستعمرات النائية,بل أن هذه الدراسة تبين من خلال دراسة الحالة أنه على الرغم من أن تطبيق السلطة على الأراضي والمجتمع قد تغير على مر السنين، فإن المنطق الاستعماري حافظ على هيمنته، وبالتالي خلق أجهزة جديدة للسيطرة عبر التشريعات والتخطيط والتصميم. وعادة ما ترتبط هذه التقنيات بمصطلحات تشير إلى "التقدم"، ولكن، كما لاحظت، تم التلاعب بهذه المفاهيم من أجل تحقيق السيطرة المكانية والديموغرافية الإثنية القومية في المدينة.وكما تبين هذه الدراسة أيضا ، فإن المفاهيم الجيوسياسية ذات أهمية كبيرة لفهم التخطيط العمراني والعكس بالعكس. وأشرت على وجه التحديد إلى الطرق التي يتم فيها إنتاج مواقع الحدود و التخوم و الحواف الحدودية داخليا وخارجيا. وبصورة أكثر تفصيلا، توضح الممارسات الاستعمارية مظاهر تجريبية للمنطق الإثني – القومي بما يشير إلى العلاقة بين سلطة الدولة والسيطرة الإقليمية، لا سيما في المناطق "الغريبة" داخل حدود الدولة أو خارجها، والتي تحاول فيها الأمة [القومية]المهيمنة زيادة سيطرتها المحتكرة بسبب التركيزات العالية من الناس "الأعداء"(38).
وتخضع هذه العملية لصراعات من أجل السيطرة على الأرض والسلطة والموارد - وتعرف هذه المناطق "الغريبة" بأنها مناطق حدودية. وبهذا المعنى، فإن الحدود "تنتشر" في كل الأمة المهيمنة وتصبح رمزا لسيادة الدولة، مؤكدة على الحق الأخلاقي للأمة المهيمنة في امتلاك الأراضي.
بالإضافة إلى ذلك، تكشف هذه الورقة أن مواقع الممارسات الاستعمارية لا تقتصر فقط على المناطق النائية وراء القلب الجغرافي فحسب ,بل وكما تشير الحالات، هناك مجموعة متنوعة من المواقع، خارج المناطق الحدودية، التي يمكن فيها تنفيذ الممارسات الاستعمارية، ومن بينها المدن المتنازع عليها إثنيا، وحتى "سوق حرة" نيوليبرالية موجه نحو المناطق العمرانية - جميع المواقع التي لديها القدرة على تهديد هيمنة من هم في السلطة.وعلى المستوى النظري الأوسع، فقد أكدت على أن السبل التي تستند عليها السياسة المكانية للعمران في مجتمعات المستوطنين تكمن في مشروع توطين الوافدين الجدد في المنطقة المتنازع عليها وعلى "الحدود" العمرانية من أجل تحقيق السيطرة السياسية والوصول إلى الموارد الرئيسية . والأهم من ذلك، هو أن مجتمعات المستوطنين قد تكون "خارجية" أو "داخلية" - الأولى تتعلق بالحركة المنظمة للناس عبر الحدود، وغالبا في قارات أخرى، كما هو الحال في فترة الاستعمار الأوروبي. أما المجتمعات "الداخلية" فتشير إلى ما له أهمية أكبر في هذه المقالة ، أي الأثننة المخططة لـ"الحدود الداخلية"، التي تتلاعب فيها الدولة بالجغرافيا الإثنية المحلية لتعزيز مصالح مجموعة إثنية مهيمنة (39). وعلاوة على ذلك، تعكس هذه العملية البناء الاجتماعي للمهاجرين اليهود بوصفهم "عملاء للدولة"، أي مجموعة مصممة على "أداء وظيفة نيابة عن الدولة". ويتم ذلك من خلال توفير الدولة للموارد والحوافز، وكما اقترح بحق من قبل جون ماكغاري، " يتم نقلهم بشكل اعتيادي إلى الأجزاء الطرفية للدولة التي تحتلها الأقليات" (40).
وفي حين أن مناقشة المناطق الحدودية تركز على مناطق الحدود الحدودية والتخوم، فإن قضية القدس كما اقترح ويندي بولان (41) تبرز ضرورة مناقشة هذه المسألة فيما يتعلق بالمدن. ويشير بولان إلى أن دراسات المناطق الحدودية المتنازع عليها تميل إلى التركيز على الولايات أو المناطق بدلا من المدن، ووفقا لجيمس رون (42)، فإن الحدود الاستعمارية يتم تصورها على أنها مناطق نائية ، وهي مورد للأرض المشاع terra nullius ,وبالنظر إلى الحدود الحضرية يبدو أنه
على الرغم من المحاولات الصارمة التي تقودها من خلال ممارسات الرقابة مثل أنظمة التخطيط والإسكان، فإن المدن لا تملك عادة الأجهزة التي تتوفر للدول من أجل السيطرة على الحدود. في محاولة لدفع مثل هذه الحجة للأمام ,يطغى السؤال حول ما إذا كان يمكننا أن نميز نظريا بين "القلب" و "الحدود" في المدن المتنازع عليها حيث يهيمن المنطق الاستعماري . وفي أعقاب الحالات المعروضة في هذه المادة، يسري "المنطق الحدودي" للفضاء المكاني على كل من الحواف و التخوم العمرانية وفي قلب المدينة.
.........................
العنوان الأصلي للمقالة: Borders, Boundaries and Frontiers:Notes on Jerusalem s Present Geopolitics
المؤلف:حاييم يعقوبي
الناشر:https://www.researchgate.net/publication/269703027_Borders_Boundaries_and_Frontiers_Notes_on_Jerusalem%27s_Present_Geopolitics
كانون الثاني 2012
ترجمة :محمود الصباغ
.........................
ملاحظات
Haim Yacobi is a Senior Lecturer at the Department of Politics and Government, Ben Gurion University, and a Marie Curie researcher at the Department of Architecture, University of Cambridge.
1 Israeli Prime Minister, Benjamin Netanyahu, “Netanyahu: Jerusalem holy sites will remain Israeli forever,”http://www.haaretz.com/news/netanyahu-jerusalem-holy-sites-will-remain-israeli-forever-1.276465
2 John Agnew and Stuart Corbridge, Mastering Space: Hegemony, Territory and International Political Economy (London and New York: Routledge, 1995).
3 Yosef Jabareen, “The politics of state planning in achieving geopolitical ends: The case of the recent master plan for Jerusalem,” IDPR 32:1 (2010): 27-43.
4 David Newman, “The Lines That Continue to Separate us: Borders in Our ‘Borderless’ World,” Progress in Human Geography 30:2 (2006): 1-19.
5 Michel Foucault, “Space, Knowledge, Power: Interview with Paul Rabinow,” in Rethinking Architecture: A Reader in Cultural Theory, ed. Neil Leach (London and New York: Routledge, 1982 [1997]), 367-380.
6 John Holston, The Modernist City: An Anthropological Critique of Brasilia (Chicago and London: University of Chicago Press, 1989).
7 Scott Bollens, On Narrow Ground: Urban Policy and Ethnic Conflict in Jerusalem and Belfast (Albany: State University of New York Press, 2000) Wendy Pullan, Phillip Misselwitz, Rami Nasrallah, and Haim Yacobi, “Jerusalem s Road 1: An Inner City Frontier?” City 11:2 (2007): 176-198.
8 Oren Yiftachel and Haim Yacobi, “Planning a Bi-National Capital: Should Jerusalem Remain United?” Geoforum 33 (2002): 137-145.
9 For a detailed discussion see: Pullan et al, “Jerusalem’s Road.”
10 Alona Nitzan-Shiftan, “Seizing Locality in Jerusalem,” in The End of Tradition?, ed. Nezar Al Sayyad (London: Routledge, 2004), 231-255.
11 Uri Ram, “The Promised Land of Business Opportunities: Liberal Post-Zionism in the Glocal Age,” in The New Israel, eds. Gershon Shafir and Yoav Peled (Boulder: Westview Press, 2000), 217-40.
12 Nurit Alfasi and Tovi Fenster, “A Tale of Two Cities: Jerusalem and Tel Aviv-Jaffa in an Age of Globalization,” Cities 22:5 (2005): 351-63.
13 http://jiis-jerusalem.blogspot.com/2011/10/blog-post.html
14 Elisha Efrat, The West Bank and Gaza Strip: A Geography of Occupation and Disengagement (London:Routledge, 2008).
15 Donald Mitchell, The Right to the City (New York: Guilford Press, 2003) Haim Yacobi, The Jewish-Arab City:Spatio-Politics in a Mixed Community (London: Routledge, 2009).
16 Henri Lefebvre, Writings on Cities (London: Blackwell, 1996).
17 Ibid: 179.
18 David Harvey, A Brief History of Neoliberalism (Oxford: Oxford University Press, 2005), 23.
19 Interview with Anat, an Israeli resident, January 29, 2006.
20 Dani Rabinowitz, Overlooking Nazareth: The Ethnography of Exclusion in Galilee (Cambridge: Cambridge University Press, 1997) Erez Tzfadia and Haim Yacobi, Rethinking Israeli Space: Periphery and Identity (London: Routledge, 2011).
21 Interview with Mustafa, a Palestinian inhabitant in the French Hill neighbourhood, April 13, 2010.
22 Interview with Antuan, a Palestinian who owns a house in French Hill, April 9, 2010.
23 Interview with Abraham, a Jewish residence in French Hill and a property agent, January 29, 2006.
24 Interview with Mustafa, a Palestinian inhabitant in the French Hill neighbourhood, April 13, 2010.
25 Rabinowitz, Overlooking Nazareth.
26 Interview with Ariella, a Jewish resident, January 29, 2006.
27 Interview with Antuan, a Palestinian who owns a house in French Hill, April 9, 2010.
28 Lefebvre, Writings on Cities, 173-174.
29 Interview with Mustafa, a Palestinian inhabitant of the French Hill neighbourhood, April 13, 2010.
30 Iris Marion Young, Justice and the Politics of Difference (Princeton: Princeton University Press, 1990), 25.
31 Central Bureau of Statistics, Population Census (Jerusalem, 2009).
32 Yonatan Loirer, Data concerning “ghost apartments”in Jerusalem (Kiryata, Jerusalem 2007).
33 Yasmeen Abu-Laban, “The Future and the Legacy Globalization and the Canadian Settler-State,” Journal of Canadian Studies, 35:4 (2001): 262-76.
34 Shafir Gershon and Peled Yoav, Being Israeli: The Dynamics of Multiple Citizenship (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
35 Loirer, Data Concerning.
36 Harvey, A Brief History.
37 See: http://www.calcalost.co.il/real_estate/articles/0,7340,L-3370353,00.html
38 John McGarry, “Demographic Engineering: The State -dir-ected Movement of Ethnic Groups as a Technique of
Conflict Regulation,” Ethnic and Racial Studies, 21:4 (1998): 613-38.
39 Oren Yiftachel and Haim Yacobi, “Urban Ethnocracy: Ethnicization and the Production of Space in an Israeli Mixed City,” Environment and Planning D: Society and Space 21:6 (2004): 673–693.
40 McGarry, “Demographic Engineering,” 614.
41 Wendy Pullan, “Frontier urbanism: The periphery at the centre of contested cities,” The Journal of Architecture 16:1 (2011): 15-35.
42 James Ron, Frontiers and Ghettos. State Violence in Serbia and Israel (Berkeley, Los Angeles and London, 2003).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في