الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليهودي حجر الجلخ

علي دريوسي

2017 / 10 / 3
الادب والفن


البروفيسور الشاب الذي يُشرف على معهد عمليات تصنيع المواد الغذائية والمشروبات، باِختصاص عصير عنب وفواكه مماثلة، في إحدى جامعات ألمانيا، والمشهورة بسياستها التعليمية وبحوثها التطبيقية المُرتبطة بالصناعة، تحديداً في إحدى المدن المعروفة تاريخياً بزراعة العنب.

البروفيسور المحبوب من قبل طلابه وزملائه على حدٍ سواء، الذي كسر القاعدة التي تقول: قد يغفر لك زملاء المهنة أشياءً كثيرة ما عدا النجاح. البروفيسور الذي عُرِفَ عن محاضراته أنّها مزيج غنيّ من المعرفة العلمية الدقيقة والمتعة الشيقة في آنٍ واحدٍ، حاز على ثقة واحترام الطلبة ولا سيما أنّ غالبينهم من الأجانب المسلمين، الذين وصلوا إلى جامعته لدراسة الماجستير في علوم إنتاج المواد الغذائية، إذ حاول دائماً أن يتكلم بقناعةٍ علمية عن أهمية الأغذية والعصائر البيئية التي دخلت المجتمع الغربي متأخرة كثيراً عمّا هو الحال عند أهالي الشرق، عن أهمية الحبوب والبقول والخضار والفواكه بأنواعها التي يستهلكها الشرقيون، عن ضرورة تناول المشروبات الروحية اللاكحولية حصراً، عن أهمية الاِبتعاد قدر الإمكان عن تناول اللحوم بأنواعها وبشكلٍ خاص لحم الخنزير، أسوأها على الإطلاق، كما كان يشرح بإسهابٍ وتركيز حالما يتعلّق الأمر بصناعة المشروبات واللحوم وبعض المعلبات الغذائية، حول إيجابيات ما يُسمّى بالطرق الحلال المتبّعة في عمليات الذبح والإنتاج والتعليب والتسويق.

حتى إنّ لاسمه الأول نوح واسمه العائلي شلايفشتاين وقع عذب في قلوب الطلبة، يخاطبونه بكل احترام باسمه العائلي السيد شلايفشتاين، وقد يضحكون سراً في غيابه إذ يستخدمون ترجمة الاسم عند الحديث عنه، حجر الجلخ، وبعضهم يلّقبه بالمجلخة، تناقل بعض الطلبة إشاعةً تقول: بأنّ أصوله دمشقية قديمة، وبعضهم اِدعى معرفته بجذور العائلة وقال: بل أصوله مغربية. لكنهم اِتفقوا على ألّا يتكلموا عن أصوله الدينية، فقد عرفوا الكثير عن ميوله العلمانية، بل الماركسية، إذ وصل البعض منهم أنّه قد شُوهِدَ مرات في الوقفات التضامنية التي يجريها الحزب اليساري الألماني.

كان الأستاذ حجر الجلخ في ذاك اليوم على وشك إنهاء محاضرته الأخيرة للفصل الصيفي، حين شرح لطلابه في الدقائق العشرة الأخيرة عن رغبته ببناء مصنع صغير للأغذية والعصائر في المدينة نفسها، وسيبدأ البحث عن قطعة أرض تتناسب وإمكانياته المادية، وسيكون شاكراً ومسروراً لكل اقتراحٍ يرده من طلابه بشأن العقار وموقعه، ثم ختم حديثة قائلاً: لا تنسوا يا أعزائي أنني سأحتاج لقوى عملٍ طلابية مدفوعة الاجر طبعاً، وذلك أثناء التخطيط للمشروع وخلال تنفيذه، وكذلك خلال عمليات الإنتاج، هذا يعني أنكم تستطيعون إيجاد فرصة عمل مناسبة تُترجمون من خلالها معرفتكم النظرية إلى الواقع العملي. آخيراً ودّعهم و انصرفَ متمنياً لهم عطلة صيف مفيدة، وطلب منهم التواصل عبر الإيميل.

لم تمض دقائق على دخوله المكتب حتى قُرِعَ الباب ليجد أمامه الطالب المهذّب والنجيب حيّان، دعاه للدخول والجلوس. حدّثه حيّان عن أبيه ذي الأصول التركية، رجل الأعمال والمدير المالي للجامع الكبير والأهم في المنطقة، الذي بُنِيَ في السنتين الماضيتين في جنوب المدينة، الضاحية ما زالت هناك في طور التأسيس، عيبها الوحيد أنّ غالبية سكانها هم من الأجانب المهاجرين، وأخبره بأنّ هناك قطع أرض متبقية مُعدّة للاستثمار التجاري والصناعي، بمساحات مختلفة، ذات موقعٍ ممتاز وبأسعارٍ معتدلة، ثم اِسترسل بالحديث عن أبيه الذي قد تبرّع بأكثر من ثلث تكاليف بناء الجامع، وبأنّ هناك مشاريع صغيرة قد بنيت على مقربة من الجامع، محلات ذات طابع حضاري إسلامي، وأنّ السيد أبو حيّان سيفرح جداً، إذا ما إشترى لديه البروفيسور المحبوب قطعة أرض، وسيراعيه حتماً بالسعر، لأنّه يعلم الكثير عن صدقه وأخلاقه وعن مدى احترام الجميع له. أنهى حيّان حديثه بالقول: أظن أنّ أبي يشبهك يا أستاذ فهو رجل عصاميّ مثلك، بنى نفسه بنفسه، تماماً كما سمعنا عن حضرتك.

بعد مناقشةٍ قصيرةٍ طلب الأستاذ من طالبه تنظيم موعدٍ مع السيد الوالد، من أجل نقاش موضوع شراء العقار. بعد عدة أيامٍ هاتف السيد أبو حيّان الأستاذ، أبدى سروره بالتعاون معه وطرح عليه فكرة لقاءٍ وديّ للتعّارف، دعاه وقريتنه بشكلٍ رسميّ لحفل عشاءٍ سيقيمه على شرفه في المنزل، رحَّب البروفيسور بالاقتراح، قَبِلَ الدعوة الكريمة، واتفقا على موعد الزيارة.

وصل البروفيسور مع زوجته مساء يوم الجمعة، في الساعة السادسة مساء، ما أن اِقترب بسيارته من البَوَّابة حتى فُتحتْ بشكلٍ أتوماتيكي ليدخل بها إلى حديقة كبيرة مضاءة، كان المنزل عبارة عن قلعةٍ صغيرة جميلة في وسط الحديقة، كان أبو حيّان وولده بانتظارهما، صعد الجميع إلى غرفة الضيوف ذات الأثاث الفخم، كان كل ما في المنزل يُوحي بالثراء الفاحش.

زُيّنتْ جدران الصالون بلوحات تُمثّلُ كتابات بخطوطٍ متنوعة ساحرة، آيات قرأنية لم يفهم السيد حجر الجلخ وزوجته في تلك اللحظة كنهها، كان أبو حيّان لطيفاً معهما، بشوشاً فخوراً بجلبابه المُطرّز وقبعته التي أحضرها معه خلال حجته الثانية، أخرج من جيبه مسبحته ذات الحبّات المُرَصَّعة بالفضّة، داعبها بين راحتي يديه وهو ينظر إلى السيدة عقيلة الأستاذ طيب القلب، بدت مُحتَشِمة اللباس إذا ما قورنت مع اِمرأة أخرى من سكان البلد الأصليين، أعجبته حشمتها، خاطب نفسه: ناس تفهم بالذوق ومراعاة شعائر الآخرين. ثم قال بصوتٍ عالٍ: عزيزي الدكتور نوح، واسمح لي أن أخاطبك باسمك الأول كوني الأكبر سناً، في العادة التي توارثناها عن أجدادنا لا يسمح لنا بإظهار حريمنا للغرباء، لكنك حالة خاصة ولك احترامك في قلبي والله على ما أقول شهيد، حدثني ولدني كثيراً عن عصاميتك، أخلاقك وتقديرك للأجانب والطوائف وكذلك عن تقدير الآخرين لشخصك الكريم، أنت ما زلت شاباً وكذلك زوجتك وأرجو من الله أن يرزقكما بالخلفة الصالحة قريباً، أحلّفك بأغلى ما لديك أن يبقى ما تراه هنا سراً بيننا.

صَفَّقَ بيديه، دخلت اِمرأتان مكلّلتان بالسواد، إحداهما نحيلة والثانية مكتنزة، نهض البروفيسور من جلسته وفعلت زوجته مثله، مدّ يده ليصافح المرأتان إلّا أنّه سرعان ما سحبها، عندما وضعت إحداهن يدها على صدرها، فهم تماماً مغزى الحركة وعرف أنّهما لا تصافحان الرجال، لكنهما صافحتا زوجته. قال أبو حيّان: هذه زوجتي الست الفاضلة أم حيّان وهذه ابنتي الآنسة عنايات، طالبة في كلية الطب الجنائي. سار اللقاء بشكلٍ ودّي، تحدّثوا بمواضيعٍ شتى، حين حاول الدكتور نوح الحديث عن مشروعه المُرتقب، أجابه المعلم أبو حيّان: ما رأيك أنْ نؤجّل حديث الأعمال إلى المكتب، إنّه في النتيجة حديث رجال.

انتهت الزيارة، خرجا من الفيلا، علق بذهن الزوجين فقط عدة أفكار من اللقاء الذي دام أكثر من أربع ساعات، لخصّاها وهما في الطريق إلى البيت بعدة نقاط: مفاجأة نوح بأنّ حيّان ورغم نباهته وحياته الطلابية المودرن لم يجرؤ على الكلام في حضرة أبيه، وأنّ عيون السيدة أم حيّان قد تفوهت أكثر بكثير من كلمات الترحيب التي تَفَوَّهَ بها فمها، وبأنّهما لم يتمكّنا من فهم فحوى نظرات أبي حيّان التي تركّزت على أصابع قدمي زوجة نوح، وأنّ جوهر اللوحة على الحائط خلفهما كان مثيراً، فقد شرح لهما صاحب الملك أنّ اللَّوْحَة عبارة عن حكمةٍ مدهشة، مُرصّعة بماء الذهب، للشاعر أَبِي هُرَيْرَةَ، مفادها: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وأنّ اللَّوْحَة الأخرى على الحائط المقابل، تطرحُ سؤالاً فلسفياً مشهوراً للمفكر السياسي والاجتماعي عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ أمّا النقطة الجوهرية الأخيرة التي شغلت تفكير نوح هي أنّه سبق له وشاهد الآنسة عنايات في حفلة عيد ميلاد أحد أصدقائه ودون حجابٍ.

بعد أسبوعٍ من العشاء الآخير والمثير، إلتقى البروفيسور بأبي حيّان وإمام الجامع ورجلٍ ثالث يعمل على خدمة الجامع والعقارات المحيطة به. بعد أنْ اِطَّلَعَ البروفيسور على مخطط العقار نظرياً وعلى أرض الواقع، أظهر حماسه ورغبته بالشراء، لم يجادل طويلاً بالمبلغ المطروح، فقد وجده مناسباً، سلّم الرجال على بعضهم البعض دليل الإتفاق، حدّدوا موعداً لتوقيع العقد وتسجيله في دوائر السجل العقاري.

ما أنْ همّ البروفيسور بصعود سيارته حتى ركض إليه أبو حيّان مثل طفل فضوليّ عديم الذوق، وسأله: أستحلفك بالله يا أستاذ نوح، أخبرني ما الذي ترغب بإنتاجه في منشأتك الغذائية؟
ضحك الأستاذ وأجاب: في الحقيقة أرغب ببناء خطٍ صناعيّ لإنتاج النبيذ من العنب البيئي وبصنفين لذيذين كحولي ولاكحولي، أي كم تقولون بلغتكم حلال، وهذا يناسب حضرتك، أليس كذلك؟
اِنتفَضَ المعلم من سُباته ككلب لسعته نحلة وأجاب بنفاذ صبرٍ: إلى هنا وكفى، فَتَحَ اللَّهُ عليك، هذا ممنوع في عقيدتنا يا بروفيسور يا من يفهم بالذوق، أرجوك اعتباراً من هذه اللحظة أنت من طريق وأنا من طريق، لوعلمت مرادك منذ البداية لما أضعنا كل هذا الوقت، بالسلامة، ليس لديّ أراض للبيع. أمسك أبو حيّان جلباب العمل ناصع البياض كي لا يتعثّر به وعاد غاضباً إلى الجامع، مُتمتماً بكلمات غير مفهومة.

أدار البروفيسور محرك سيارته مدهوشاً من ردة فعل المعلم الشريف واِنطلق ببطءٍ، ما هي إلّا خطوات حتى رأى شخصاً يعترضُ طريق السيارة، سرعان ما تعرّف إليه، إنّه الخادم الأمين، البَوَّاب البائس، فرمل السيارة وخرج منها مُستغرباً اِندفاعه، سأله: ما بك يا رجل؟
أجابه البَوَّاب: ما الأمر ياسيدي؟ غالباً ما أسترزق من عمليات البيع والشراء، لماذا لم تتم الصفقة؟ ما الذي أغضب المعلم؟ كيف أستطيع أن أساعدك؟
لم أُغضب أحداً، قال البروفيسورساخراً، سألني عن فكرة مشروعي وما أن أجبته بكل تهذيب حتى جَنّ جنونه.
وما هي هذه الفكرة التي أغضبته؟
أخبرته عن نيتي بتركيب خط آلي لإنتاج مشروبات كحولية وغير كحولية.
هل جننت؟
لا، ولما الجنون؟ نحن نعيش في بلد ديمقراطي وكل يفعل ما يراه مناسباً.
ضحك البَوَّاب من سذاجة السيد حجر الجلخ وإجابته البسيطة: أنا أفهم ديمقراطيتك جيداً يا سيدي لكنني أحترم في الوقت نفسه مصالح معلمي أبي حيّان، كيف سيسمح لك تنفيذ مشروعك ومشروعه بالكاد قد رأى النور؟
ما الذي تقصده؟ ما هو مشروعه؟
لقد بنى مصنعاً لإنتاجِ النبيذ في قبو الجامع، وبدأ لتوه بالتوزيع، أجاب البَوَّاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | 200 فنان يتضامنون لإنقاذ العالم من موسيقى الذكاء ا


.. أبرزهم شقو وعالماشي واحدهم وصل 38 مليون .. 4 أفلام تتنافس ف




.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر


.. وصول نقيب الفنانين أشرف زكي لأداء واجب العزاء في الراحلة شير




.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم