الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في سردية المظلومية الكردية

عصام الخفاجي

2017 / 10 / 4
القضية الكردية



برغم كل ما قيل وقلت عن أسباب وتوقيت الدعوة إلى الإستفتاء الكردستاني، أتمنّى مخلصا أن تكون المصاعب التي ستواجه كردستان إقليميا ودوليا آلام مخاض مصاحبة لولادة جمهورية مستقلة لا آلام جرح غائر لاعلاج له إلا بعملية خياطة تعيده إلى الجسم الذي كاد ينفصل عنه. أتمنّى أن تروي كتب التاريخ المدرسي الكردية قصص ولادة الجمهورية ضمن السرديات الرومانسية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للبلدان التي حققت أهدافها في الإستقلال والتحرر ولا أتمنى لها أن تُضاف إلى سلسلة من السرديات المأساوية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للمهزومين، وفي مقدمتهم القوميين العرب، عن أمة ينشغل قادة العالم منذ قرن بالتآمر عليها. ستنطوي سردية الإنتصار الرسمية على قصّة شعب إعزل إلاّ من إرادته وقف بوجه العالم كله وأجبره على الإقتناع بحقه في تقرير مصيره بعد قرن من العذابات. ستلهب صورة النبي الفتيّ الشاب داود الذي صرع الوحش الوثني غولياث الحماس والخيال.
لايمكن لمنصف أن يبخس دور القوى الخارجية في التسبّب بالمآسي التي تعرّض لها الشعب الكردي. ولكن آن الأوان للمثقفين الديمقراطيين، والكرد منهم بوجه خاص، أن يتجاوزوا سردية مظلومية الشعب الكردي التي تخدّر الوعي الشعبي وتريحه من التفكير وأن يلعبوا دورا تنويريا يكشف للجمهور العوامل الداخلية التي ساهمت في حرمان الأكراد من حقهم في إنشاء دولة خاصة بهم. فليس الأكراد وحدهم من تعرّض لمؤامرات الإستعمار وليسوا الوحيدين الذين توزّعوا في أكثر من دولة. هذا هو حال مئات الشعوب في شبه القارة الهندية وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى في أوربا. ولو تمتعت كل إثنية بدولتها الخاصة لتجاوز عدد الدول القائمة اليوم الخمسمئة.
امتلاك الشجاعة وقدرة التفسير والتنظير مطلوبان الأن أكثر من اي وقت مضى لأن سردية المظلومية على يد قوى خارجية كانت عبر التاريخ أقصر الطرق لإقامة نظم حكم عدوانية متعصبة واستبدادية تستمد مشروعيتها شعبيا من تعبأة الغالبية بروح الحقد والرغبة بالإنتقام من عدو خارجي مفتَرَض وألهائها عن النظر عن العوامل الداخلية وعن البحث عن إصلاح البنى الداخلية المتهرّئة التي حرمت الشعب من نيل حقوقه والإرتقاء بمستوى رفاهه. ذلك هو ما آلت إليه سرديات (لا أضعها على قدم المساواة قطعا) النازيين عن مظلومية الأمة الألمانية على يد اليهود، وسرديات اليهود عن مظلوميتهم على يد الأوربيين ومن ثم العرب، وسرديات البعث والإسلاميين عن مظلومية العرب على يد الغرب و"صنيعته" إسرائيل وسرديات السياسة الشيعية عن مظلومية الشيعة على يد السنّة، والقائمة تطول.
المنظور التنويري مطلوب الآن لكي يفسّر للمواطن الكردي (ومن شاء التعلّم من قادته) الأسباب التي قادت معظم تحالفات الكرد الخارجية طوال أكثر من قرن لا إلى الفشل فقط بل إلى نتائج فاجعة. قد يكون السيد البارزاني محقّا في قوله أن الوقائع الجديدة على الأرض ستدفع بعض الدول إلى تغيير مواقفها، لكن هذا التغيير قد لايكون في صالح كردستان بالضرورة. والسيناريو الذي يحضرني هنا هو أن ترمي الولايات المتحدّة بثقلها وراء العبادي إن رأت أن الوقوف إلى جانب الكرد يعني صعود المالكي وأتباع إيران المقعقعين بطبول الحرب باسم الحفاظ "على وحدة الوطن وعدم خلق إسرائيل جديدة".
المنظور التنويري يمكن أن يفتح نقاشا مجديا عن جهل القادة الأكراد الفاضح بالعالم الخارجي برغم امتلاك الكرد لبعض من أفضل الناشطين في العلاقات الخارجية وبرغم إنفاقهم المليارات على لوبيات ومستشارين في الغرب. وهو مطلوب لكي يتفهم الأكراد كيف أن قادتهم كانوا مجبرين على الدخول في تحالفات خاسرة في أحيان أخرى بسبب الحصار الإقليمي المفروض عليهم. لكن هذا المنظور مطلوب بالدرجة الأولى لكي يدرك المواطن الكردي أن الإعتراف بالتباين بين البنى الإجتماعية الكردية وتعذّر اندماجها في كيان سياسي واحد لا يتناقض قط مع الإعتراف بوجود هوية قومية كردية تجمع تلك البنى. فطوال أكثر من قرن كان تركيز القادة الكرد على العدو الخارجي وإغماض أعينهم عن المآزق الداخلية سببا في انهيار مشروع الدولة إقامة الدولة القومية.
يلخّص السيد مسعود البارزاني سردية المظلومية الكردية إذ يلعن اتفاقيّة سايكس- بيكو التي قرّرت تقطيع أوصال كردستان وإلحاقها بأربعة دول تسودها أثنيات أخرى. ولابد أنه يبهر جمهرة الكرد حين يعلن بزهو أن عصر سايكس- بيكو الذي رسم حدودا لدول مصطنعة أوشك على الزوال. أتخيّل مستشارا تنويريا له يهمس في أذنه "لو عرفت تاريخ كردستان في فترة انهيار الدولة العثمانية، ياسيادة الرئيس، لترحّمت على روحي سايكس وبيكو، وأثق بأنك ستقيم نصبا تذكاريا للسير مارك سايكس تحديدا".
لن أكرّر ما كتب غيري وكتبت أنا مرارا: لم تر وثيقة سايكس بيكو ولا أي من بنودها النور لأن المنتصرين في الحرب العالمية الأولى اكتشفوا أن ثمة وقائع جذرية جديدة نشأت على الأرض جعلت تطبيقها مستحيلا. ولكن لو أن تلك الإتفاقية رأت النور، لكان بعضا من حقوق الكرد قد تحقق. فلم يكن في تلك الإتفاقية كيان إسمه "العراق"، بل ولم يكن ثمة تكوين يجمع أطرافه العربية. نصّت الإتفاقية على أن تكون المنطقة الممتدة من البصرة إلى شمال بغداد مستعمرة يحكمها البريطانيون بشكل مباشر وأن تكون المنطقة الممتدة من كركوك إلى جنوب فلسطين دولة يحكمها أبناؤها تحت الإنتداب البريطاني. وكانت ولاية الموصل (التي لم تشمل كركوك) ستمتد إلى حلب لتكوّن دولة تخضع للإنتداب الفرنسي يتوحد فيها أكراد العراق وسوريا، فضلا عن ضمّها لأجزاء من كردستان التركية. أمّا فارس وأكرادها فكانت في منأى عن كل الإتفاقيات إذ لم تكن طرفا في الحرب وكانت الحدود بين أكرادها وأكراد الدولة العثمانية قد رسمت بشكل نهائي عام 1847 إذ تنازلت الأخيرة عن حقها في خوزستان/ عربستان مقابل تنازل الأولى عن حقها في السليمانية.
ومع هذا، ليست اتفاقية السير مارك سايكس مع فرانسوا جورج بيكو هي ما يؤهل الأول للحصول على نصب تذكاري في كردستان، بل دفاعه وعمله المخلص على تشكيل دولة "كردستان الجنوبية"، أي كردستان عراق اليوم مع لواحق من كردستان التركية بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.
لماذا لم تنهض الدولة الكردية إذن؟ هذا ما تقوله الوثائق البريطانية: "كان هناك عدد من المرشحين (لقيادة كردستان)، وكان الشيخ محمود هو الأكثر بروزا... فقد ادّعى من السليمانية بقيادته لكل كردستان، ولكن حتى البلدات المجاورة مثل كفري وخانقين تبرّأت منه، ناهيك عن القبائل المجاورة... ولم يكن ثمة إمكانية للقبول به في الأماكن الأبعد حيث كان بالكاد معروفا".
يلخّص مكدوّال الذي يتّفق معظم الباحثين الكرد على تعاطفه مع قضية شعبهم مآل المحنة الكردستانية مقتطفا من الوثائق البريطانية "صار واضحا للإداريين البريطانيين أن [مشروع] كردستان جنوبية موحّدة لم يكن قابلا للتطبيق الفوري... بسبب الحالة المتخلّفة للبلاد ونقص إمكانات التواصل وتنافر القبائل. وكان ثمة إدراك في الوقت نفسه بأن جنوب كردستان كانت متبادلة الإعتماد مع سهول مابين النهرين من الناحيتين الستراتيجية والإقتصادية".
هل كان عرب العراق أكثر وعيا بهويّتهم العراقية من وعي الأكراد بهويتهم الكردية عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى؟ شغلي البحثي يجيب بالنفي.
للجغرافية والبيئة والتكنولوجيا نعمها ونقمها. انبساط الأرض والتواصل عبر نهري دجلة والفرات وتطوّر النقل البخاري أشعر البغدادي والبصري والموصلي وحتى الكردي بحاجة أحدهم للآخر حتى وهم يشعرون بالتمايز. أما بيئة كردستان فكانت نقمة على شعبها إذ عزلت حواضرها وأريافها عن بعضها وجعلت اقتصاد كل من مناطقها مرتبطا ببيئة غير كردية محيطة بها وتفارقت لهجات اللغة الكردية بسبب تلك العزلة بدرجة تكاد تقارب التفارق بين لهجات المغرب والمشرق العربية.
لعل من يقرأ ما سبق ويوافق عليه يعيد النظر في حكمة شائعة في كردستان (أكررها أنا أيضا): ليس للأكراد صديق غير الجبل. لعل هذا الجبل الذي حماهم من الغزاة كان السور الذي عطّل وحدتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية


.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال




.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال


.. شهادة فلسطيني حول تعذيب جنود الاحتلال له وأصدقائه في بيت حان




.. فيتو أمريكي في مجلس الأمن يطيح بآمال فلسطين بالحصول على عضوي