الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا من همس الذاكرة -2- ** ليلة حمدوشية ..

سليمان الهواري

2017 / 10 / 6
الادب والفن


حكايا من همس الذاكرة -2-
*****************
ليلة حمدوشية ..
**********
" الصلاة و السلام على رسول الله .. ياجاه النبي ! "
دّاو .. داداداو .. دّاو .. داداداو ..
وتنطلق " الغيطة " من الجانب الآخر للحوْمة .. وكما سحر يتسلل في الدروب وبين شقوق البيوت حتى أجده ريحا يهز مسمعي وكل كياني ..
" حمادشة " ليست مجرد طائفة صوفية ترتبط بولي الله " سيدي علي بن حمدوش " الذي يجاور مقامه مدينة مكناس على مشارف قبيلة " موساوة " يرافقه في خلوته فوق حفرة " لاللة عيشة " تلميذه "سيدي أحمد الدغوغي " و بينهما ألف عقدة وألف رباط وألف سلسلة وألف ديك أحمر وألف عتروس وألف قصة حب وألف انتحار وألف حكاية شدود وألف ليلة وليلة من ليالي الجن و الجدبة والصرع والخمر ورقصات الجنس .. من غروب للشمس حتى خلاص الجسد من كل الأرواح الشريرة وطلوع فجر الذكر والمحبة ..
" يا جاه النبي " ..
" حمادشة " حال يسكن سماء المدينة وأزقة حاراتها ..
يبدأ " الشريف " في تسوية ايقاع " غيطته " بينما " الطبّالة " الاثنان يشرعان في الضرب على آلتيهما وكأنهما يعيدان صياغة نبض الجدران والازمان والصدور ..
يطلقان سراح الليل ، كي يكون ليلا ..
أضع كل ما يصادف وجوده في يدي وأهرول بين منعرجات الدروب متسللا الى نهاية البيت الأخير في الحي ..
هنا ساحة صنعها وطأ الاقدام الدائم لتلاميذ المدرسة المتواجدة على بعد مئة متر فقط ..
ساحة لا تهدأ من ضجيج كراتنا الصغيرة ، من شروق الشمس الى ما بعد الغروب ..
هنا أينعت اسماء يعرفها العامة و هي تراود كرة القدم بعشق كما يداعب جائع خبزا وسمنا صادفه على حين تسول .. هنا تنتبه لذكورتك الأولى وانت تلاعب عند المساء بنات الجيران ، و قد ينتفض فيك شيء لم تنتبه له من قبل حين تلامس يداك صدفة جسد "سعاد" بنت الجيران التي تكبرك بسنوات وتفوقك خبرة هي التي تستدرجك الى الحقل المجاور وتستكملان هناك لعبكما ، بينما الاولاد منهمكون في لعبة "ديني فري" او "القيمان" ..
لا شيء كان يحكم ساعة العودة للبيت سوى درجة التعب التي تنال من جسمك النحيف والذي يسكنه ألف شيطان ..
هنا قصص فتوّات الحي التي تعمر جنبات الليل ولا نجد في الصباح الا بعض آثارها ونحن نفرك عيوننا في الطريق الى المدرسة وعشرات قنينات الخمر تملأ المكان ..
حكايا القوة و "المطايفات" والاغتصاب ومن دخل مؤخرا لسجن "سيدي سعيد" ومن اطلق سراحه بعد وساطة من "الماشينية" التي حولت بيتها الى وكر دعارة قبل ان تهاجر الى فرنسا وتنال التوبة وشرف لقب "الحاجة رحمة" ..
أصِلُ عند حمادشة وقد اكتمل نصاب الليلة حين توسط بّا عبد الله الساحة وقد شد جبهته بعصّابة خضراء .. بّا عبدالله حافي القدمين ، يحكم قبضة الغْوّال على كتفه وهو يداعب مؤخرته برحى كفه بعشق غريب .. بّا عبدالله هو زعيم الأسر الحمدوشية في الحي .. ومع زوجته "فاطنة" التي لا تقل عنه انصهارا في الطقوس الحمدوشية، هما معا من يرتبان كل الوسائل واللوجيستيك الضروري لانجاح الليلة .
"الطّرحْ" الاول تغلب عليه الموسيقى وقد يطول ساعة و اكثر حتى يتم تحشيد كل النساء و الرجال والاطفال والمولعين في حضرة الذكر و الايقاع والليل و الغبار والازدحام ..
كل المؤشرات تبشر بليلة تدفئ صقيع بداية فصل الشتاء ..
لحد الساعة لازال الجميع يلبس عقله ، وحتى بّا عبدالله الذي يهتز كل جسده مع الحضرة وهو يتكلم أحيانا مع الحضور ، ومع أعضاء المجموعة الحمدوشية كما مسير اوركيسترا .. وحدها العيون وبعض اشارات تقوم بترتيب الفضاء والشخوص ..
يرتفع الايقاع و معه ترتفع السرعة .. تتزايد تتزايد .. ومعها ترتفع حركات الاجساد والضرب على الغْوّال .. وأنا متسمر في مكاني بين الأرجل أشرب هذه الارواح التي تخرج من فوهة الطبول و المزامير كي تسكن جسدي .. كنت أعرف أنها نهاية "الطرح" الاول ، ومعها تتسارع أنفاسي ..
" يا جاه النبي " ..
يخفت أنين الغيطة فجأة وبضربات متوالية ينذر الطبل بالفرج ..
" صليوا ع النبي" ،
"التسليم "..
بّا عبدالله يتسلم من احد الرجال الواقفين خلف حلقة حمادشة حبلا قصيرا يجر شيئا اسود بأربعة قوائم قصيرة و شعر كثيف وقرنان صغيران يسبقانه .. انه "العتروس" .. و هل تكون ليلة الحضرة دون ذكَر معز اسود ..
وبينما بّا عبدالله يجره في الوسط ، تملكني خوف رهيب وأنا اتذكرصبيحة المولد النبوي جوار ضريح "الشيخ الكامل" وطوائف عيساوة تنهش أشلاء عنزة سوداء دون ذبح ، والدم يتطاير على وجوههم وملابسهم البيضاء ..
انتظرت ان يبادر احدهم للشروع في حفلة الافتراس ، لكن شيئا من هذا لم يحصل ..
تقدم بّا عبدالله الجميع بينما مّي فاطنة حملت بين يديها المجمر الذي يلازم الليلة ، وعلى نار فحمه المشتعلة يق,م كل حين أحد حمادشة بتسخين جلد طبله او غْوّاله .. حتى يصير لخيوطه رنين وانين كما شكوى طفل تخنقه العبرات .. فيختلط كلي بموكب الحضرة الحمدوشية والجميع ينزل بخطوات بطيئة منحدر الزقاق المؤدي لبيت الشريفة "لاللة فضيلة " وهي عروسة الليلة ومن أجلها سيذبح بعد قليل عتروس اسود ، ولها تقام طقوس الحضرة التي تليق بمقامها ..
كان اسمها " مّي فضيلة " فقط ولا أحد كان يعرف لنسبها شرفا حتى سقطت من أعلى السلم وهي تحاول الصعود الى سطح بيتها الطيني .. حينها تناثرت ملابس التصبين على التراب وتكسر الإناء البلاستيكي الذي كان على راسها .. بينما صراخها أخرج الجيران وهي مرتمية على نصف بطنها ، لا خيط ينظم كلماتها المتقطعة وهي غارقة في هلوسات غريبة ..
" لقد تكسر حوضها " .. هذا ما قاله جارنا "الجيلالي" ..
ولأن الطب مجرد خرافة هنا كان على كبار الجيران ان يتدخلوا كخبراء عظام و يفتون في الاخير بضرورة نقلها الى قبيلة "موساوة "على بعد عشرين كيلومتر من المدينة ، و هناك "الشريف الطاهر" " الجبّار " لا يعجزه في الكسر شيء و لا يشترط مقابلا سوى " البياض" و " الفتوح" و كل حسب نيته .. وهو الامر الذي تمّ في الحال ..
وبعدها اختفى أمر مّي فضيلة ..
يقال ان الشريف أمرها بالمكوث ممددة على ظهرها مدة طويلة حتى تتماثل للشفاء ..
وفي ليلة سمع أولادها جلبة و شبه صلاة في غرفتها المظلمة التي لم تكن تتوفر على أية نافذة تهوية .. بعدها عم البيت نور غريب اختفى بمجرد ظهوره ..
من لحظتها يشاع أن مّي فضيلة " تشيرات" أي سكنها عفريت كافر .. وكان لابد أن تزور ضريح سيدي علي بن حمدوش و تمكث هناك الى أن يفك أغلالها الأسياد ..
بعض الذين زاروا المكان حينها يحكون كيف تغير حال مّي فضيلة وازداد بياض بشرتها نورا وهي لا ترتدي الا الابيض و الاخضر .. يقولون ان وزنها ارتفع واصبحت سمينة .. بعض النساء تقلن همسا كيف ازداد جمالها ببركة الشريف مقدم الزاوية "سيدي التهامي" ..
" التسليم " ..
موكب حمادشة ينزل مقتربا من البيت وأنغام الطبل تملأ السماء .. اصبح الازدحام كبيرا و النساء تختلط بالرجال والاطفال ، وايقاع الحضرة يفرض على الجميع الانغماس في هذه الاجواء الخاشعة ..
يقترب منتصف الليل وأمام بيت مّي فضيلة يسلّم بّا عبدالله العتروس الأسود لزوج مّي فضيلة الذي يتصرف كغريب وهو يستسلم لكل هذه الطقوس التي لا يملك غير الخضوع لها ..
" الحمد لله لا افتراس ولا دماء هذه الليلة "
همْهمَ وهو يأخذ العنزة من رقبتها ويغرق في ظلام البيت ..
ضيق الَزقاق لا يسمح بتنظيم حلقة كبيرة للحمادشة لكنهم يأخذون لوحدهم صفا و أمامهم بّا عبد الله يتوسط صف حمادشة الذين يقطنون بالحي ..
الكل يعرف بركة جمجمة بّا عبد الله التي لا تنال منها قلل و جرّات الطين التي يكسرها على رأسه في موسم سيدي علي وهو غارق في حضرته .. وحده بّا عْلّال ينافسه في فتوة التّاحمدوشية ..
بّا عْلّال حين تنتشي فيه الجدبة يهتز من الارض بشكل غريب ويده على زناد الغْوّال ..
ايقاع الحضرة يرتفع و يزداد نحيب الجميع ، ينخرطون في الرقص و الأنين .. الى أن ينفلت بّا عْلّال من الصف و يخرج من جيبه سكينا مطويا أحمر يعرفه الجميع ب "بونقشة" ، يطلقه بين اصابعه بسرعة وينهال على رأسه بالضرب وهو يهتز راقصا كما مجنون .. لا أحد يحاول ثنيه عما يفعل .. ينزل الدم بين عينيه .. يستمر في الضرب و ايقاع الموسيقى يرتفع ..
يتقدم عنده بّا عبد الله ، و بكل الحب المتخيل يحضنه و يقبل جبينه المدمى .. ينزع برفق السكين من بين يديه .. يخرج من كمه خرقة بيضاء و يحزم بها راس عْلّال المجروح .. ومعا يعودان الى صف حمادشة و يستمران في " التّْحيارْ" ..
جلبة و ضجيج قادم من بيت مّي فضيلة ، واذا بمقدم الطايفة مولاي الشريف يخرج وهو يتأبط دراعي فضيلة ، و كأنه يحملها من تحت ابطيها بينما زوجها في الخلف يكتفي بالنظر فقط ..
صوت حمادشة يرتفع بينما الشريفة تتقدم و عيناها تنظر نحو اللاشيء .. كانت تنتعل في قدميها "بلْغة" رجالية صفراء رمتها بمجرد أن توسطت الحلقة .. الشريف لازال يتأبطها وهي تقرب أذنيها من فوهة الغيطة .. تبدأ الشريفة في الضرب باقدامها ثم تنزع قطعة القماش الخضراء التي تغطي رأسها و ترميها على الارض .. يتطاير شعرها المختلط بين الشيب و السواد وتتحول تدريجيا الى كائن آخر ..
" الشريفة .. الشريفة .. الشريفة .. مّي فضيلة .. التسليييييم "..
كانت الشريفة غارقة في أحوالها وهي تضرب بيديها على صدرها و مرة تميل الى صوت الغيطة تبكي معه و مرة أخرى تركع أمام فوهة الغْوّال ، حتى تخالها فقدت أنفاسها ثم تنطلق كما لو انها يسكنها ألف جني ترتج تحتها الأرض و كل جسدها يرتعد ..
يناولها بّا عبد الله إناء كبيرا من الحليب .. تمسكه بيديها ثم ترش به كل تراب الدرب ، وهي لا تتوقف لحظة عن "التحضار" والهمهمة ..
بّا عبد الله يتقدم منها ثانية و يناولها إناء طينيا آخر ممتلئ بالحناء الخضراء ..
مّي فضيلة تغمس فيه يديها ثم تاخذه و هي تنوح ..
تبدأ في رش كل الساحة القريبة بالحناء ، و جنبات حائط بيتها ترشها اكثر و تبصم يديها هناك ..
صوت الموسيقى يرتفع و الجدبة ترتفع و العرق يتصبب من الرجال و النساء ،، و الشريفة ينتفض جسدها الى ان سمع لها شهيق مزق سواد الليل .. فسقطت على التراب تتمرغ في ثوبها الابيض وسط الوحل و الحليب والحناء ..
كان عليهم ان يتركوها تشفي غليلها من معانقة أسياد الأرض وقد تكون في لحظة مضاجعة لسيدها و صاحبها وولي بركتها الذي لا يراه أحد ..
صوت الطبل يرتفع والايقاع يتسارع منذرا بنهاية طقوس الشريفة التي يتم تعميدها في هذه اللحظات " شوافة " او عرافة .. تشوف العائب و الغريب و البعيد بجاه سيد الغيب الساكن فيها ..
كل من حضر يوقع لها الآن في حفل التخرج المقدس هذا .. ممن ترون وممن لا ترون ..
" التسليييم "..
"يا عاشقين ف النبي صليوا عليه .. يا جاه النبي "
انهم يزفون العروسة مّي فضيلة عرافة رسمية ولا أحد سيجرأ بعد اليوم بمناداتها الا باسم " الشريفة لاللة فضيلة "..
يأخذها الشريف المقدم من وسطها و ينهضها بمساعدة بقية الحمادشة ثم يدخلون جميعا البيت ..
و تنفضّ ليلة الناس ..
" التسليييييم " ..
كنا نعرف ان ليلة حمادشة ليست هي ليلة الناس ، و بعد ان يغادر المتطفلون و الأغراب .. لا يبقى الا الخلص و حمادشة و بعض المقربين من الجيران ..
وكما كل ليلة كنت أتسلل داخل بيت الحضرة وآخذ ركنا أقوم بطقوس حضرتي في مكاني وحدي حتى يكتمل الحفل و انا اشرب الامكنة و الروائح و الكلمات ..
حمادشة داخل البيت ليسوا هم حمادشة خارجه ، ولا الموسيقى هي الموسيقى ، و لا الحضرة هي الحضرة .. تغيب الغيطة و يحضر الناي القصبي بينما يوضع الطبل على الارض و يتم الضرب عليه بالأكف .. هنا أنين خاص وحزن كبير يسكن كل شيء ..
انه " البلدي ".. وكم كنت أعشق هذا " الايقاع البلدي " ..
هنا داخل البيت كان الجميع يعرف ان الشريف المقدم سيشرب ما تبقى من خمر الليلة الأحمر و قد يكمل رفاقه سكرهم المقدس بكحول مخلوط بالماء ..
التصوف والحضرة و الجدبة و الخشوع و البكاء و الخمر و الكحول ..
ينتهي الجميع من العشاء بلحم العتروس الاسود دون ان يكلف احد نفسه دعوتنا نحن بعض اطفال الجيران مع ابناء الشريفة للأكل ..
و قبيل الفجر يتهيأ الجميع لآخر حضرة في طقوس الليلة .. يشرعون في رقصة الختم و إخراج سيدة الوديان " عيشة قنديشة " .. عليهم ان يطفؤوا انوار قناديل البيت الزيتية مادام الكهرباء لم يكن قد تعرف عليه بعد اي أحد ..
أخي الأكبر إدريس ينتبه لوجودي فجأة فيسرع الي وهو يترنح من السكر ويصفعني على وجهي .. لم أنتظر الصفعة الثانية ، وقفزت الى الباب و منها طرت الى سطح الجيران ..
لقد أطفؤوا الانوار و هم الآن يخرجون " عيشة قنديشة " .. يجدبون و يرقصون في بهو البيت الضيق "المراح " وبين الغرفتين الصغيرتين .. نساء ورجال يخرجون " عيشة " في الظلام على ايقاع حمادشة و أذكار الصمت .. يطيلون هذا الطقس جيدا حتى يقضي كل وطره و تخرج سلطانة الجن لتباركهم جميعا ، و تشعل نور القناديل على رؤوسهم ..
كان علي أن انزل من سطح البيت دون احداث اي صوت حتى لا يستيقظ أحد و تتحول ليلة حمادشة الى صبيحة فلقة و دموع ..
آذان الفجر انتهى من مدة و الذهاب الى المدرسة سيكون صباحا على الساعة السابعة والنصف .. لا أعرف أين سأنام ولا بأي غطاء سأدفئ جسدي ، لكني كنت أعرف يقينا أن يدا في البيت ستتكفل بكل هذا .. ونِمتُ ..
*** سليمان الهواري / حكايا من همس الذاكرة / 4 اكتوبر 2017***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما