الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك المبادئ والمواقف – قراءة في رواية إدوارد والله للكاتب التشيكي ميلان كونديرا

كلكامش نبيل

2017 / 10 / 5
الادب والفن


قرأت هذا العمل الأدبي القصير في ظرف ساعة، وهو العمل الثاني الذي أقرأه للكاتب التشيكي ميلان كونديرا. العمل الفكري – ذو نزعة فلسفية غريبة غير ظاهرة تحتاج إلى تفكيك لتدرك عمقها – صدر عن دار آرام للثقافة والكتب بترجمة معن عاقل.

تحكي الرواية القصيرة قصة شاب يُدعى إدوارد يعمل مدرساً من دون رغبة حقيقية في التدريس. في البداية، نرى بأنه اقتبس مهنة خسرها شقيقه بسبب قمع الحزب الشيوعي له، بعد أن تسببت المديرة الحالية لمدرسة إدوارد في فصل شقيقه قبيل سنوات طوال. يُعجب إدوارد بفتاة اسمها أليس، فتطرح عليه سؤالاً مفاجئاً بعد رفضها لمداعباته الجريئة، وكان هذا السؤال يتعلق بالإيمان بالإله. ورغبة منه في أن لا يخسرها قرّر أن يعرف رأيها في الموضوع ليتماهى مع موقفها من أجل ألاّ يخسرها. ولما عرف بأنها مؤمنة، قرّر أن يخبرها بأنه يؤمن أيضاً. لكن الكاتب يصوّر لنا إيمان أليس بأنه ردة فعل على تجريد الشيوعية لوالدها من دكانه، فوجدت في الإيمان وسيلة احتجاج على السلطة الملحدة. ويقودنا السؤال هنا عمّا إذا كان الالحاد في المقابل ردّة فعل وتمرّد على السلطة الدينية في اوروبا في القرون الوسطى وفي الشرق الأوسط في الوقت الراهن.

يجد إدوارد في زيارته للكنيسة مع أليس نفسه كممثل فاشل في تمثيلية مملّة، ويجد في إيمانها حاجزاً امام الحصول على ما يريده منها، فقد كانت متحفظة في التعامل معه. يحاول إدوارد استدراجها باستخدام اسلحتها فيعكف على قراءة الكتاب المقدس وكتب اللاهوت، ويقول لها بأن المؤمن يمكن أن يفعل ما يشاء، فيقول لها، "لم يكن المسيح يتمنى إلا أمراً واحداً، أن نهتدي بالحب"، لكنها تقول له بأن ذلك يختلف عن الحب الذي يعنيه هو، ثم يذكرها بكلام القديس بولس حول كون "كل شيء طاهر بالنسبة لأولئك الطاهرين"، لكنها لا تمتثل له أبداً. يواصل إدوارد تمثيله أمام أليس لكن المديرة والمستخدمة في المدرسة تشاهدانه في مصادفتين منفصلتين وهو يرتاد الكنيسة في احداها ويؤشر علامة الصليب في الشارع في حادثة أخرى. فتقوم المديرة باستدعائه بهدف التحقيق.

في التحقيق، يحاول اخبارهم بالحقيقة، لكنه يتراجع في النهاية لأنهم لن يصدقونه، فيقرّ بأنه مؤمن كذباً. يتفاجأ اعضاء اللجنة من وجود شاب مثله "مؤمن" في مثل هذا العصر ويخبرونه بأن تنشئة الشبيبة بالطريقة الصحيحة لا تسمح بوجود متدينين في المدرسة. يخبرهم إدوارد بأنه مؤمن بالله مع أنه مؤمن بالمستقبل والشيوعية في الوقت ذاته، وأن عقله يخبره بأن الإله غير موجود لكن قلبه يقول له شيئاً آخر. تثير تلك الشجاعة "المزيفة" اعجاب المديرة ذات المنظر المنفر. تدور في هذه المناظرة حوارات عميقة ومهمة، فنقرأ بأن " الإيمان بالله هو بقية من القرون الوسطى." وأن " الفرق بين تاريخ البشرية وما قبل تاريخها، هو أن الانسان تحمل مسؤولية مصيره ولم يعد بحاجة إلى الله." ليستدرك احد اعضاء اللجنة في النهاية بأن " الصراع بين القديم والجديد لا يحدث بين الطبقات فقط، بل وفي داخل كل فرد."

تتسبب هذه الحادثة التي تنضوي على شجاعة كاذبة في اثارة اعجاب كل من المديرة وأليس بإدوارد. حيث تحبه الأولى لأنه شجاع ولم يتنازل عن "إيمانه" أمام اللجنة مع انها تخطط لتصحيح ذلك بتعريفه على الكتب الملائمة، فيما تعجب الأخيرة به بشكل مضاعف لأنه لم ينكر "إيمانه" مع معرفتها بأن أحداً لن يقوم بذلك من بين أشد المؤمنين المحيطين بها. وهكذا نجد أن شجاعته واصراره على موقف كاذب اثار اعجاب من يتفق ويختلف معه على حدٍ سواء.

ومن ضمن النقاشات المهمة في الرواية، نفهم ان الإيمان بأي فكرة سبب مهم للحياة، حيث أجابت أليس بان الأسى في العالم يجعلها تؤمن بوجود الإله وأن هذا الإيمان هو ما يدفعها للمواصلة، وعلى الصعيد الآخر ترى المديرة بأن الألم وضرورة تغييره سبب يدفعها للحياة من أجل الآخرين، فنقرأ، "لو لم أكن أعتقد أنني أعيش في سبيل شيء أعظم من حياتي الخاصة، لكنت بلا شك غير قادرة على الحياة." وبالتالي فإن سبب استمرار الحياة في الحالتين يرتبط بإيمانٍ ما. لكن الكاتب يوضح بأن هناك من يعيش من أجل شيء خيالي وآخر يعيش من أجل شيء واقعي، وتعتبر المديرة "مستقبل الإنسان" هو الشيء الواقعي بلا شك.

في الفصول القصيرة اللاحقة، يستدرج إدوارد المديرة لتقع في الاعجاب به – بسبب اختلافها معه واعجابها باصراره على رأيه بشجاعة مع ذلك. لكنه ولكي يتخلص من خطر الفصل، ساير المديرة وجعلها تركع أمامه عارية بعد أن أوهمها بأنه يحبها، بل وأجبرها على تلاوة صلاة "أبانا الذي في السماوات". في تلك اللحظات شعر بالنصر لانها خانت مبادئها وتلت تلك الصلاة، فكانت اهانتها مثلثة في نظره، فقد كانت هناك تركع لمرؤوسها، واهانت الصلاة ثوريتها، وأهان عريها تلك الصلاة.

فيما بعد، تخضع أليس لارادة إدوارد وتوافق على طلبه – الذي رفضته مراراً – في الذهاب الى منزل شقيقه في الريف. ومن أجل الحب مرة أخرى تخون مبادئ إلهها المعادي للزنا وتقيم علاقة مع إدوارد وتبقى عارية طوال الوقت بطلبٍ منه. يعجب إدوارد بجسد اليس لكنه يراه منفصلاً عن أفكارها التي تنادي بها. في الحالتين، ضحت كلتاهما بالمبادئ اعجابا بموقف الرجل المبدئي "المزيف". فقد دفع دفاع إدوارد عن "إيمانه" امام اللجنة المديرة للتضحية بمبادئها وتلاوتها للصلاة، فيما اقامت أليس علاقة معه من أجل ارضاء "الشهيد" من أجل الإيمان لتخالف ما ينص عليها إيمانها الذي ترى في إدوارد مناصراً له. يتوصل إدوارد بسبب ذلك إلى أن كل شيء دون جوهر راسخ وكل المواقف قابلة للتبدل، ولا يروق له ذلك.

وتوضيحا لموقفه حيال كذبه اقتبس هذا المقطع من حواره مع شقيقه، الذي لامه على الكذب، لأنه كان على الدوام يقول ما يؤمن به حقاً بلا تزييف.

قال إدوارد: لماذا نقول الحقيقة؟ ما الذي يضطرنا إلى ذلك؟ ولماذا يجب اعتبار الصدق بمثابة فضيلة؟ افرض أنك تقابل مجنوناً يؤكد أنه سمكة وأننا كلنا أسماك. هل ستتجادل معه؟ وهل ستخلع ملابسك أمامه لتبرهن له أن ليست لك زعانف؟ هل ستقول له وجهاً لوجه ما تفكر فيه؟"

وبعد صمت الشقيق، يستطرد إدوارد قائلاً، "اذا لم تقل له إلا الحقيقة، وإلا ما تفكر به حقاً حياله، فهذا يعني أنك راضٍ عن خوض نقاش جاد مع مجنون، وأنك أنت أيضاً مجنون. هذا هو واقع الحال بالضبط مع الناس الذين يحيطون بنا. واذا كنت مصراً على أن تقول له الحقيقة وجهاً لوجه، فهذا يعني أنك تأخذه على محمل الجد، واذا أخذت على محمل الجد أمراً ضئيل الجدية الى هذا الحد، فهذا بحد ذاته يفقده كل جديته. وأنا، يجب عليّ أن أكذب حتى لا آخذ على محمل الجد المجانين ولئلا أغدو أنا أيضاً مجنوناً."

لا يسعد إدوارد بالتقليد والتماهي مع هذه الشخصيات الفاقدة للهوية، مع أنه يقلدهم وهو يضحك في سره على زيفهم، فنقرأ، "التقليد، حتى عن سوء نية، يظل تقليداً، وحتى الظل الذي يضحك هازئاً، يظل ظلاً، وشيئاً آخر، ويدعو للرثاء." يحاول إدوارد التخلص من أليس ويستخدم ذات "الإيمان" لذلك، فيقول لها بأن ما حصل خطيئة، لاسيما أنه لاحظ عدم ندمها على ما حصل رغم كل التحفظ الذي كانت تتظاهر به في السابق. تبدأ أليس في استخدام ذات تبريراته عن الحب، فيقول لها بأنه كان يختبرها فحسب وبأنها خانت الإله وستخونه أيضاً.

تحاول الرواية ايصال فكرة أن لا شيء جوهري أبداً، وربما يكون العدم هو الجوهر الوحيد الحقيقي. نقرأ، "الله هو الجوهر بالذات، بينما إدوار، وبعد مضي سنوات عديدة على مغامراته مع أليس والمديرة لم يصادف قط شيئاً جوهرياً، لا في غرامياته ولا في مهنته ولا في أفكاره." ونقرأ، "الله فقط أعفي من واجب الظهور، ويمكنه أن يكتفي بالكينونة، لأنه هو وحده، وحيد وغير موجود."

في النهاية، تحاول الرواية تفكيك الإيمان بالمبادئ أياً كانت وتحلل تناقضات البشر الذين يعجبون بمن يثبت على مبادئه – على زيفه – ويضحون بمبادئهم في سبيل الحصول على ما يرغبون به في الوقت ذاته. انه عمل عميق يستحق القراءة بلا شك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى