الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين العاصمة أوسلو ومدينتنا

محمد الحاج صالح

2017 / 10 / 5
الادب والفن


قصة
بين العاصمة و مدينتنا
واضحٌ أنها تعيد الاتصال بالشخص نفسه، فهي تضغط ضغطة واحدة على "الموبايل". لا تنتظر كثيراً حتى تبدو عليها الخيبة، ثوانٍ مجرد ثوانٍ. وأنا صرت شبه متأكداً أن من هو على الطرف الآخر كان يقطع الاتصال، وأن احتمال أن يكون الخط مشغولاً هو احتمال بعيد، هكذا كانت تعابير جسدها تقول، وهكذا كانت تقول سبابتها المتوترة الراجفة وهي تضغط على إعادة الاتصال.
لم تكن المقاعد في الباص بأكثريتها مشغولة. والعادة هنا في النرويج أن يجلس كل مسافر في مقعد لوحده أولاً، وعندما يزيد عدد المسافرين عن عدد المقاعد تبدأ المقاعد في استقبال الراكب الثاني ليجلس جنب الأول. يحبون العزلة، ولا يحبون الحديث في السفر. وكنت أجلس في المقعد المجاور لها، و خلفها تجلس عجوز تقرأ في كتاب ويهتز رأسها في الزهايمر، و الكتاب يرتعش بين يديها.
فجأة قالت عبر الموبال بصوت مرتعش وبالانجليزية I thought I would surprise you. "فكرت أن أعمل لك مفاجأة" يبدو أنه ملّ من رنين الهاتف أو من اهتزازه. أو لعله يلعب. أو ربما هو غاضب... أسمع صوته صوت رجالي خشن، ولا يمكن تمييز ما هي الحالة التي عليها صاحبه، ولكنه وبكل تأكيد صارم وعميق. مع الوقت ومع تكرار الصبية أنها فكرت بأن تفاجئه وأنها فكرت أنهما سيقضيان عطلة ممتعة، فهمت أنها قررت مدفوعة بشوق عارم أن تسافر إليه دون أن تخبره.
هي فتاة في العشرين من عمرها لا أكثر فيما أعتقد. شقراء ذات شعر أصهب. وعيناها زرقاوتان. غير مكتنزة، لكنها ليست نحيفة. تلبس بنطالاً من الجنيز ضيقاً، وقميصاً حريرياً أخضر اللون مما تلبسه النساء الأكبر سناً، وجاكيتاً أسود وهو أيضاً اللون الذي لا تلبسه فتيات هذه البلاد إلا فيما ندر. كانت تبدو أكبر سناً وأغنى من مجالييها. كان لدي انطباعاً أنها تعمل عملاً يدر مالاً كثيرا، أو أنها من عائلة غنية من عائلات العاصمة. وما لفت نظري أكثر أن أصابع يديها طويلة نحيفة، وهو أيضاً مما لا تتمتع به نساء هذه البلاد عموماً. أصابعهن عادة قصيرة بتراء ثخينة. عرقٌ عامل خشن.
مع الوقت زال تحفظها وضاعت نبالة صوتها فراحت تجهش ببكاء مكتوم مع ترداد I thought I would surprise you "فكرت أن أعمل لك مفاجأة". ينقطع الاتصال. لا بد وأنه هو من يقطعه، وتعيد هي الاتصال مرات ومرات. ثم يستأنفان الحديث بينما هي لا تزيد إلا كلمات قليلة عن I thought I would surprise you "فكرت أن أعمل لك مفاجأة". بدأت كلماته غير المفهومة تتواتر في مقاطع طويلة مثل رشاش يطلق من فوق رابية، بينما تقلصت هي على ذاتها مرددة I thought I would surprise you "فكرت أن أعمل لك مفاجأة". واضح أنه لا يريدها أن تأتي وأنه غاضب للغاية من هذه المفاجأة التي نقضت غزلاً كان يغزله.
لم تكن من موسيقى ولا راديو ولا أحاديث جانبية بين الركاب. كان فقط صوتها الضارع الباكي يسود. وما من شك أن جميع المسافرين كانوا مشدودين إلى صوتها وإلى التفكر في حالها وحال ذاك الذي على الجانب الآخر، يبدو هذا جليَاً في لغة أجساد الجميع. سكون وتململٌ بسيط وتشتتٌ في النظر والتفاتات حذرة كما لو أنهم لا يريدون الإساءة إلى حزن وقهر هذه المرأة المخذولة.
كنت أفكر ماذا يفعل الآن ذاك الشاب أو الرجل في الطرف الآخر ولماذا يعذب هذه المرأة الرقيقة. أيكون لعوبا مزعزع الأخلاق؟ أليس وارداً أنه الآن مع "حبيبة" أخرى يلهو معها وقد باغتته حبيبته الأولى بمفاجأتها؟ أيكون قد خطط ومنّى نفسه بعطلة مع الحبيبة الجديدة فإذا بالأولى تداهم وتخرب خططه؟ والأهم لماذا هي بهذا الضعف وهي الجميلة الشابة التي يبدو عليها الغنى؟ لماذا هي متعلقة بهذا الرجل وبهذه الطريقة التي تبدو غير طبيعية بالمرة؟
كانت العجوز ومن خلف نظارات القراءة وبيديها المرتعشتين و برأسها الرقاص مثل لعبة الواجهة الأمامية في السيارات، تبدي امتعاضاً صامتاً. وفجأة عند آخر I thought I would surprise you "فكرت أن أعمل لك مفاجأة"، التي تجاوزت حتماً المائة مرة في تردادها، غرست العجوز عصاها في أرض الباص ونهضت وترنحت، ولكنها تماسكت. خطت خطوت إلى الأمام. وتحفزت أنا كي أساعدها كي لا تقع. ففي هذه البلاد يرفض الناس المساعدة بإباء إن لم يكونوا بحاجة إليها. ولن يشكروك على المساعدة مطلقاً إن لم يكونوا قد طلبوها.
مع سرعة الباص بدا أن العجوز لن تستطيع الثبات في وقفتها. بادرتُ مغامراً، ومسكتها من خصرها. وبدا جسدها راضياً ومستسلماً للمساندة. قالت للفتاة بالنرويجية كما لو أنها تصرخ Du... Nå må du slutt å klage på den måten... si til ham at han er drittsek, rasshøl og at det er slutt. vær kvinne " أنت يا هذه... توقفي عن الشكونة بهذه الطريقة... قولي له أنه فتحة طيز... كيس خراء وأنها النهاية. كوني امرأة". قالت "كوني امرأة" مثلما نقول لفتى لـيّنٍ "كن رجلاً".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية