الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- قطة الحَجّة -

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2017 / 10 / 6
الادب والفن


كانتْ أمّي امرأة بسيطة ، أميّة لا تجيدُ القراءة ولا الكتابة ، وكانتْ تبدو لمن يسمعها وكأنها لا تحفظ من كل بيان اللغة العربية سوى عبارة " الحمد لله رب العالمين " ..
وذلك لكثرة ما تستعملها في الثناء والرجاء والقيام والقعود والنداء والدعاء والعلاج والشفاء ..
والغريب في الأمر ، أن دعائها كان يبدو دائما لكل من حولها - من أهلٍ وجيرةٍ - دعاءاً مصداقاً عذباً أكيداً مُستَجَاباً ..
وكانتْ – رحِمَها الله - تُلقي به على مسامع كلِّ منْ تلقاهُ وتخدمه أو تُساعده ، وكانت بذكائها العملي وحدسها المبدع ودون أية دراسة أو علم مُحكم ، تستولد النساء في حيّنا والأحياء المُجاورة مَجّاناً ، وتتذكر بشكل غريب اسم الوليد وأمه ، حتى وإن رأته بعد حين يافعاً ،
وكانت من مواهبها الفاعلة أن تقرأ على عُصوصِ الأطفال ، أو تَمسح بالزيتِ على سرّة المفتوق فيهم ، و من كانت شكواه الإمساك الشديد ، لقرطه البذر أو شيئاً آخر ، فكانت تدسُّ له - بلا تردد - ( تحميلة ) من قطعة صابون الغار ، وأمّا عن حال الاسهال ، فكان حلّها الحاضر له دائماً هو سفُّ الزعتر وأكل البطاطا المسلوقة ..
كانت لها قطة رقطاء تسمّيها " الحجة أمينة " ، تغسلها وتُطعمها وتتحدّث إليها ، و تستفقدها في غيابها ، وتمنحها كثيراً من اهتمامها وكأنها أحدنا ..
وأما نحن اهل البيت وجميع سكان الحي فكنّا نُسمّيها : " قطة الحجّة "
و كانت أمّي – رحمها الله - تمنعنا من أن نُضايقها بسلوك فظٍ ، أو نتعرّض لها بمكروهٍ أو نهرٍ أو تخويفٍ أو شقاوة حتى ولو خفيفة .. وتقول لنا دائماً : إياكم أنْ تؤذوا قلباً صامتاً أو كائناً ضعيفاً لا يعرف ردّ النطق عن نفسه ..
وعندما كان الجيران يسألونها عن سببِ التسميّة لقطتها بـ الحجّة ..
كانت تقول أنها قد حجّت عنها ذات يوم ، لكونها – أي أمي - امرأة فقيرة ومريضة ، ولا تستطع الذهاب للحج أو تطيق عنائه ، ولهذا فقد أرسلتها بدلاً عنها .. وهي تثق كل الثقة أن القطة " أمينة " قد وفت لما أودعت من أمانة..
وكنتُ إذا ما تذاكيتُ عليها بسماجة المُتفاصح الغرّ، وسألتها من فتات ما أعرف و هزيل ما أقرأ وأفهم ، مُبتغياً إحراج فهمها :
هناك يا أمّي في الدنيا كثير من اليهود والنصارى ، وآلاف مؤلفة من أتباع الأديان المُختلفة المتخالفة ، وهم ليسوا مثلكِ بمسلمين ويختلفون معك في الإيمان والإله والدّين ..
تردُّ عليَّ بكل طمأنينة وهدوءٍ باسمٍ وحنون قائلةً :
بيتُ الله - ياولدي - له باب واحد وحيد ، هو الحُب ومفتاحه الأوحد هو الرحمة ، والحب له مكان واحد هو القلب الرضي ، وكل من ذكرتَ من الخلق قلوبهم متشابهة في الحياة ومتماثلة في الحب ..
طهّر قلبك – يا ولدي - بالرضا عن نفسك أولاً ..
وأذْهبْ حزنَك بمحبة الناس وعونهم في الضيق والملمّات ثانياً..
وانشغل عن الناس مع الناس بما يجمع لا بما يمنع ثالثاً ..
واعلم أن الدّينَ غير الموشح بالرحمة بدعةٌ لا لبْسَ فيها رابعاً ..
يا بُني ، لا أحد يختلف - في قلبه - على حبِّ الله من كل الكائنات ، وهم - ان وجدت - يختلفونَ في اسم من لا اسم له إلا هو ..
وكلّ ما ترى من اختلاف وتنافر ، إنما هو في ظاهر اللسان وليس حقيقة ما وَقرَ في الخلد و الجنان ...
الناس تهوى التنوع لكثرته وجاذبية حركته ، وتهرب من موات التشابه لندرته وبهتان سكنته ..
يا بني ، كل ما ترى من زهور المحبة في الحياة ، انّما هي تختلف في ألوانها وحسب ، لكن مرواها ومبتداها ومنتهاها في أرض الوداد الواحدة .. سمّها روح الله إنْ شئت أو سمّها رحمته إن أن أردتْ ..ولكن اجعل يا ولدي نافذتك عليها القلب مباشرة .. وامدد بصرك إليها بالحب والعطاء والرحمة..
يا بني المؤمنون الحمقى هم الذين يتركون الله ويتقاتلون حول رسائله ..وهم بذلك ، كالعقل الجهول الذي أعياه الكبر و أعدمت وسائله الغايات الفانية وقصر النظر..
و هؤلاء هم أنفسهم المؤمنون العُمْي ، الذين يَحْسبونَ أنَّ الربَّ يقف بجلالته إلى جانب أهوائهم فقط .. دونٍ عن العالمين ..
إنه ربُّ العالمين يا ولدي .. وليس ربُّ المسلمين وحسب
رحم الله أمّي فقد علمتني أنّ الإنسان حقاً فقط ، هو من يعرف الدَيّان ..
أما عن قطتها " القطة الحجة أمينة " فقد اختفتْ بعد موتها بيومٍ واحدٍ .. وتفرّقت منا الأسرَة .. وباتَ كلٌ فينا يعملُ على شاكلتهِ ..
وربما للحديث بقية ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا