الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بهاءالله - يَومُ الله (8)

راندا شوقى الحمامصى

2017 / 10 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ولنا أنْ نَسأل: ما هو الهدف من نُموّ الوعي الإِنسانيّ وارتقائه في نظر بهاء الله؟ مِنْ منظور العالم الأبَدِيِّ يكون الجواب أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما يرغبُ في مشاهدة كمالات ذاته منعكسةً على أوضح صورة في مرآة خلقه، وأنّه حسب ما جاء في كلمات بهاء الله:

"... لِيَشْهَدَ الكُلُّ في نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ في مَقامِ تَجَلّي رَبِّهِ بأنَّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ، وَليَصِلَ الكُلُّ بِذلِكَ إلى ذُرْوَةِ الحَقائِقِ حَتّى لا يُشاهِدَ أحَدٌ شَيْئاً إلاّ وَقَدْ يَرى اللهَ فيهِ."

وأمّا من حيث ما يحدث في هذا العالم الفاني، وفي إطار سياق التّاريخ، فإنّ الهدف من تتابع المظاهر المقدّسة هو تهيئة الوعي الإنسانيّ لتحقيق الوحدة والاتّحاد للنّوع البشريّ، ليصبح فعلاً كائناً عضويّاً واحداً باستطاعته تحمّل مسؤوليّته تجاه المستقبل الجماعيّ للإِنسان. يقول بهاء الله: "إنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمنَ يُحِبُّ أنْ يَرى مَنْ في الأكْوانِ كَنَفْسٍ واحدةٍ وَهَيْكَلٍ واحِد." ولن تستطيع الإنسانيّة مواجهة التّحدّيات الرّاهنة، ناهيك عمّا يمكن أن يواجهها في المستقبل، حتّى تعترف بوحدتها العضويّة وتقبل بها قضيّة مسلّمة. ويؤكّد لنا بهاء الله أنّه "لا يُمْكِنُ تَحقيقُ إصْلاحِ العالَمِ واسْتِتْبابِ أمْنِهِ وَاطْمِئْنانِهِ إلاّ بَعْدَ تَرْسيخِ دَعائِمِ الاتِّحادِ وَالاتِّفاق." ولن يجد بنو البشر اطمئناناً حقيقيّاً إلاّ بتأسيس مجتمع عالميّ موحَّد. وهو ما أشار إليه بهاء الله ضمناً في أحد أدعيته إلى الله: "فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ أنْ تُذْكَرَ بِذِكْرٍ أوْ تُوْصَفَ بِوَصْفٍ أو تُثْنى بِثَناءٍ. وَكُلَّ ما أمَرْتَ بِهِ عبادَكَ مِنْ بَدائعِ ذِكْرِكَ وَجَواهِرِ ثَنائِكَ هذا مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ لِيَصْعَدُنَّ بِذلِكَ إلى مَقَرِّ الذي خَلَقَ في كَيْنونيَّاتِهِمْ مِنْ عِرْفانِ أنْفُسِهِمْ ..." ولعلّه من قبيل المفارقات، أنّه من غير الممكن للإِنسانيّة أنْ تحافظ على التّعدديّة والفرديّة محافظةً سليمة إلاّ بعد أنْ تتحقّق الوحدة الحقيقيّة. وهذا هو الهدف الذي سعت من أجله كلّ رسالات المظاهر الإِلهيّة التي عرفها التّاريخ الإِنسانيّ: إنَّه اليوم الذي يتوحّد فيه العالم وهناك "تَكونُ رَعِيَّةٌ واحِدَةٌ وَراعٍ واحِدٌ." ويبشّرنا بهاء الله بأنّ تحقّق مجيء هذا اليوم هو المرحلة الرّاهنة من مراحل التّطوّر الحضاريّ التي ولجها الجنس البشريّ الآن.
ومن أمثلة القياس المليئة بالإِيحاء، ليس فقط في آثار بهاء الله، ولكن أيضاً في آثار الباب من قبله، المقارنةُ بين نموّ الجنس البشريّ وارتقائه كمجتمع وحياة الإنسان كفرد. فقد مرّت الإنسانيّة بمراحل مختلفة إبّان تطوّرها الجماعيّ تذكّرنا بالمراحل التي يمرّ الفرد بها في نموّه، كعهود الطّفولة والمراهقة والشّباب حتى الوصول إلى مرحلة النّضج والرّشاد. وها نحن بدأنا ندخل مرحلة نضجنا الجماعيّ وقد أُغدقت علينا نِعَمٌ كثيرة تمثّلت في قدرات وإمكانات جديدة لا يزال إدراكنا لها مبهماً.

وليس من الصّعب، والأمر كذلك، أنْ نفهم الأولويّة التي خصّ بها بهاء الله مبدأ الوحدة والاتّحاد في تعاليمه. فالميزة الرّئيسيّة لهذا العصر الذي بدأنا دخوله هي مبدأ وحدة العالم الإِنسانيّ، وما هذا المبدأ إلاّ ميزانٌ صحيحٌ لتقويم الاقتراحات كلّها المتعلّقة بإصلاح المجتمع الإنسانيّ وتحسين أوضاعه. وجَزَمَ بهاء الله بأنّ الجنس البشريّ جنسٌ واحد لا اختلاف بين أفراده، وأنَّ النّظريّات الموروثة التي تميّز مجموعة عرقيّة أو إثْنيّة من البشر فتعطيهم منزلة أسمى من غيرهم نظريّات باطلة لا أساس لها من الصّحّة. وبالمثل فإنَّ الوحي الذي جاء به كلّ رسول هو جزء لا يتجزّأ من التّراث الجماعيّ للجنس البشريّ ككلّ، وكلُّ فرد في هذا العالم إنما هو وريثٌ شرعيّ لهذا التّراث الرّوحي بأكمله، ذلك أنَّ المظاهر الإِلهيّة كلّها ما جاءت إلاّ لتنفيذ المشيئة الواحدة لله سبحانه وتعالى. فالإِصرار على التّمسّك بالتّعصّبات مهما كانت ألوانها يُلحقُ الضّررَ بمصالح المجتمع الإِنسانيّ، ويُشكّل انتهاكاً لمشيئة الخالق وما قدّره من أهداف لهذا العصر:
"أيَّتُها الأحْزابُ المُخْتَلِفَةُ تَوَجَّهوا نَحْو الاتِّحادِ وَنوِّروا أَنْفُسَكُمْ بِنورِ الاتِّفاقِ، أنِ اجْتَمعوا لِوَجْهِ اللهِ في مَقَرٍّ واحِدٍ وَأزيلوا كُلَّ ما هُوَ سَبَبُ الاخْتِلافِ فيما بَيْنَكُمْ... فَلا رَيْبَ في أنَّ أحْزابَ العالَمِ وَشُعوبَها مُتَوَجِّهَةٌ إلى الأفقِ الأعْلى وَمُنَفِّذَةٌ لأمْرِ الحَقِّ. وَما الاخْتلافُ بَيْنَ الشّرائِعِ وَالأحْكامِ التي تُجْريها إلاّ نَتيجَةَ مُقْتَضَياتِ العَصْرِ وَالزَّمانِ، فَكُلُّها مِنْ عِنْدِ اللهِ أنْزَلَها بِمَشيئَتهِ سِوى بَعْضِ ما خَلَقَهُ العِناد... أَنِ اكْسِروا بِيَدِ الإِيقانِ أصْنامَ الاختلافِ وَالأوْهامِ."
(مترجم عن الفارسية)
فموضوع الوحدة والاتّحاد خيط ذهبيّ يربط كلّ ما أنزله بهاء الله من آثار: "قَدِ ارْتَفَعَتْ خَيْمَةُ الاتِّحادِ، لا يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ كَنَظْرَةِ غَريبٍ إلى غَريبٍ..." و"عاشِروا مع الأدْيان كُلِّها بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحانِ..." وأيضاً "كُلُّكُمْ أثْمارُ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ وَأوْراقُ غُصْنٍ واحِدٍ."
إنَّ مَسيرة الإِنسانيّة نحو بلوغ سنّ الرّشد وصلت غايتها أثناء تطوّر النّظام الاجتماعيّ في العالم. فابتداءً من وحدة النّظام العائليّ وامتداداته المختلفة، طوَّر الجنس البشريّ بدرجات متفاوتة من النّجاح مجتمعات قامت على أساس النّظام العشائريّ ثمّ القبليّ ثمّ نظام المدينة - الدّولة ومؤخراً نظام الأمّة - الدّولة. وبتوسّع البيئة الاجتماعيّة المطّرد وازدياد أمورها تعقيداً تُشحَذ الإِمكانات الإِنسانيّة ويتّسع أفق نموّها، وهذا النّموّ يُنْتِج بدوره تعديلات مستحدثة وجديدة في نسيج المجتمع. ولبلوغ الإِنسانيّة سنّ الرّشد يَستلزمُ إذاً حدوث تحوّل شامل في النّظام الاجتماعيّ الرّاهن، بحيث يصبح نظاماً قادراً على استيعاب التّعدّديّة الموجودة في الجنس البشريّ بصورة شاملة، وعلى الاستفادة استفادةً كاملة من المجال الواسع لمختلف المواهب والمعارف التي هذّبتها آلافُ السّنين من الخبرات الثّقافيّة والتّجارب الإِنسانيّة:

"اليَوْمُ يَوْمُ الفَضْلِ الأعْظَمِ وَالفَيْضِ الأكْبَرِ، وَعَلى الجميعِ أنْ يَجِدوا الرّاحَةَ والاطْمِئْنانَ بِتَمامِ الاتِّحادِ وَالاتِّفاقِ في ظِلِّ سِدْرَةِ العِنايَةِ الإِلهيَّةِ... فَلَسَوْفَ يُرفَعُ بِساطُ هذا العالَمِ لِيَحُلَّ مَحَلَّهُ بِساطٌ آخَرُ. إنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الحَقُّ عَلاّمُ الغُيوبِ."
(مترجم عن الفارسية)

أمّا إقامة العدل في الشّؤون الإنسانيّة، كما يؤكّد لنا بهاء الله، فهو الوسيلة الرّئيسيّة لإحداث التّحوّل والتّغيير في المجتمع، وتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ واتّحاده. ويحتلّ هذا الموضوع مكاناً رئيسيّاً في تعاليمه:

"العَدْلُ سِراجُ العِبادِ فَلا تُطفِئوهُ بأرْياحِ الظُّلْمِ وَالاعْتِسافِ المُخالِفَةِ، وَالمَقْصودُ مِنْهُ ظُهورُ الاتِّحادِ بَيْنَ العِبادِ. وَفي هذِه الكَلِمَةِ العُلْيا تَمَوَّجَ بَحْرُ الحِكْمَةِ الإِلهِيَّةِ وَإنَّ دَفاتِرَ العالَمِ لا تَكفي تَفْسيرَها..."
(مترجم عن الفارسية)
يوضّح بهاء الله في آثاره الكتابيّة اللاّحقة النّتائج المترتّبة على تنفيذ هذا المبدأ في عصر بلغت فيه الإِنسانيّة نضجها. فهو يؤكّد لنا بأنّ "النِّساءَ والرِّجالَ كانوا وَسَيَكونونَ أبَداً مُتساوينَ في نَظَرِ اللهِ." وأيضاً بأنّ تقدّم الحضارة يتطلّب من المجتمع تنظيماً لشؤونه بحيث تبرز هذه الحقيقة واضحة إلى الوجود، وأنَّ موارد الأرض ملكٌ للإِنسانيّة جمعاء وليس لشعب من الشّعوب، كما أنَّ الإِسهامات المختلفة التي تفيد الصّالح الاقتصاديّ العامّ جديرة بأن يُعْتَرَف بدورها وتُكافَأ بما يتناسب مع حجمها المختلف، وأخيراً فإنّه يجب إزالة الفوارق الشّاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي ما ابتليت به معظم أمم الأرض، بغضّ النّظر عمّا تعتنقه هذه الأمم من فلسفات اجتماعيّة واقتصاديّة.

المراجع
55 "هفت وادي" في "آثار قلم أعلى" ج3، ص92 وص93.

56 "منتخباتي" ص139.

57 المصدر السّابق أعلاه، ص183.
58 المصدر السّابق أعلاه، ص11.

59 العهد الجديد، إنجيل يوحنّا إصحاح 10 الآية 16.

60 للاطّلاع على تعليق مسهب حول تعاليم بهاء الله وأثرها في تنمية قدرات الجنس البشريّ للوصول إلى مرحلة النّضج، راجع كتاب حضرة ولي أمر الله بالإنجليزية والمذكور أعلاه بعنوان The World Order of Bahá’u’lláh ص162-163، 202.

61 "منتخباتي" ص141-142.

62 "مجموعة من ألواح بهاء الله" ص144.

63 "منتخباتي" ص68.

64 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص144.

65 "منتخباتي"، ص12-13.

66 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص85.

67 الأصل الفارسيّ ورد في كتاب أحمد يزداني بالفارسيّة بعنوان "مقام وحقوق زن در ديانت بهائي" (طهران، لجنه ملي نشر آثار أمري، 1949) ج1، ص76.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س