الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ويبقى المستقبل حلما اشتراكيا

رسلان جادالله عامر

2017 / 10 / 11
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


ويبقى المستقبل حلما اشتراكيا

رسلان عامر

*

الإنسان كائن اجتماعي، فلا إنسانية إلا في مجتمع إنساني، وكل المثل القيم والمبادئ هي بنات واقعها الاجتماعي، وفي المجتمع يتفاعل الأخلاقي مع الثقافي والمعرفي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتتفاعل كل هذه العوامل مع بعضها، فتنتج في المحصلة كلا من شخصية المجتمع وشخصية الفرد.

وبالتالي يصبح من العبث تجريد الأخلاق والمثل خارج نظامها الاجتماعي، أو التصور بأنه يمكن إصلاح حال أخلاقي أو ثقافي في مجتمع ما بدون أن يترافق هذا مع الإصلاح المناسب في بقية مجالات الحياة، فالمثل الإنسانية الراقية، تحتاج إلى نظام اجتماعي راق، وبغير ذلك لن يتمكن حتى أعظم الحكماء أو العلماء من إحداث أي تغيير إيجابي جوهري في مثل وقيم مجتمع ما، إن لم تكن الظروف الاجتماعية مناسبة، ولم تكن قابلية التطوير ممكنة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

"الله محبة"..

هذه العبارة الرائعة هي من "الإنجيل" [1]، وقد قيلت قبل أكثر من ألفي سنة، وغدت نظريا فكرة أساسية في اللاهوت والإيطيقا المسيحية، لكنها لم تتحول قطعا إلى واقع معاش، وثمة مثلها الكثير من هذه المبادئ والقيم السامية التي كان لها نفس المآل، وهذه العبارة تصلح اليوم لأن تكون أحد أكثر الشعارات الإنسانية التي يجب التركيز عليها، فنحن اليوم نعيش في زمن يُستغل فيه الدين بأبشع الأشكال، فتحت راية الدين تثار النعرات والفتن، وباسم الدين تقترف أفظع الجرائم و أبشع الشرور! هذه الأفعال البربرية هي أحط من أن تنسب إلى الأبالسة، فما بالكم بالله الواجب أنه رب العالمين (جميع العالمين)[2].. الرحمن الرحيم! لكن كل شعار كشعار لن يكون قطعا قيما بدون الاستحقاقات الملحة اللازمة في كل ميادين الحياة.

وقد ورد في الكتاب المقدس "أن الله خلق الإنسان على صورته" [3]، والله هو الرمز الأسمى للخير المحض، ويفترض فيه أن يكون بريئا من كل فاعل للشر.. مجرم بحق غيره، فيما قال ماركس "أن الإنسان يخلق الله على صورته" [4]، وهذا ما يفعله زبانية القتل والسبي والتدمير الذين يمسخون صورة الله.. ويخلقون له صورة فظيعة على شاكلتهم الجهنمية!

لكن لكي نكون موضوعيين علينا أن ننظر إلى المشهد من كافة الزوايا.. محاولين رؤيته رؤية متكاملة تحيط بكافة جوانبه، فلا أحد يولد مجرما وليس هناك جريمة بالفطرة، فالمجرم - عموما- هو منتـَج فاسد لظروف اجتماعية فاسدة، والحركات الإسلامية المتطرفة اليوم هي صنيعة الإمبريالية العالمية وأذنابها الإقليميين والمحليين ولا شك، ولكن" المادة الخام" هي من إنتاج الحكومات العربية بامتياز، هذه الحكومات التي فشلت فشلا ذريعا في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وأنتجت أسوأ النماذج السلطوية السلطانية، التي نمت تحت عبائتها أقبح اأشكال الجهل والفقر والقمع والبطش والفساد! فأتت هذه الحركات التكفيرية الإرهابية لتكون أصدق تعبير عن الصورة الحقيقية لواقعها الاجتماعي الفظيع.

إن الخلاص لن يكون إلا ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وهذا يقتضي علمنة الدولة بكافة مؤسساتها، والعلمنة تعني في ما تعني مدنية الدولة، وبالتالي إبعاد كل المظاهر الدينية والعسكرية والأمنية عن مؤسسة الدولة، ووضع الدين في مكانه الصحيح وفصله التام عن السياسة وعن النطاقين الرسمي والجمعي، ليدخل في نطاق الشؤون الفردية للإنسان، ويقوم بوظيفته الروحية، المكفولة للجميع بلا استثناء، ووضع الجيش والأمن في مواقعهما وأماكنهما الصحيحة، كأدوات لحماية الدولة، وليس للهيمنة والتسلط عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن تتكفل الدولة بضمان حقوق كافة مواطنيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإن كانت إمكانية بناء الدولة الاشتراكية - الدولة الحقيقية- غير قائمة اليوم، فعلى الأقل يجب بناء دولة ديمقراطية تكافلية [5]، وليس دولة "نيوليبرالية" لا تقل كارثية على حياة شعبها عن الدولة الدينية أو العسكرية!

"إن التاريخ الحقيقي للبشر لم يبدأ بعد" هذه المقولة لهيغل، والتاريخ البشري من نشأة الإنسان حتى يومنا الحاضر.. الغارق في المآسي يؤكد على فشلنا حتى اليوم في تحقيق إنسانيتنا، وهذه الإنسانية لن تتحق في ظل دولة دينية تكفر من يخالفها الفكر والعقيدة والرأي، ولا في ظل دولة عسكرية أو بوليسية، لا تعترف ولا تثق إلا بمن يغدو شاة في قطيعها.. متخليا عن شخصيته وذاتيته ليغدو رعية صالحة لمولاه السلطان، وإلا فهو مارق خائن.. وعميل للأعداء، ولن يتحقق أيضا في ظل " ثالثة الأثافي "الدولة النيوليبرالية"، التي لا مانع لديها من تشريد الناس ورميهم في الشوارع بلا قوت ولا مأوى، وكأنهم فضلات غير صالحة للاستخدام، ويجب رميها في مجامع النفايات[6]!

إن الدولة التي تتحقق فيها إنسانية الإنسان.. هي ولا شك الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، لكن هذه الدولة لا يمكن قطعا أن تبنى على اقتصاد السوق، وعلى السوق الحرة التي لا تتدخل الدولة - ولا حتى المجتمع - في عملها، هذه السوق التي يحكمها ويتحكم بها ثلة من الرأسماليين الذين لا يهمهم إلا زيادة ثرواتهم مهما كانت الأثمان ..بما فيها تشريد وتجويع الملايين، أو الحروب التي تقتل وتتشوه وتشرد الملايين، لذا يجب إبقاء السوق تحت رقابة المجتمع وضبطها من قبل الدولة بصرامة، هذا "أضعف الإيمان"، لكن دولة الإنسان الحقيقية لن تكون إلا دولة "اشتراكية"، وفيها يمكن للقيم الأخلاقية والجمالية أن تزدهر، وفيها يمكننا فعلا أن نقول "أن الله محبة"، وأن نعيش المحبة، وأن نكتب تاريخ الإنسان الحقيقي!

وهذه الدولة المأمولة، لا يفترض فيها أن تكون تكرارا للنموذج السوفييتي، فذاك النموذج أثبت فشله، كما أن التاريخ في سيرورته وصيرورته لا يكرر نفسه، لكن فشل التجربة السوفييتية لا يعني قطعا فشل المشروع الاشتراكي، الذي انبثق من صميم الطبيعة المأزومة للنظام الرأسمالي، هذا النظام الذي نجح حتى الآن في لعبة إدارة أزماته، وتصديرها أزماتٍ وحروبا إلى بقية أقطار العالم.

لكن هذا النظام الذي يزداد نموّا في توحشه في صورته الامبربالية النيوليبرالية، وفي إلقاء آثاره الكارثية على كافة مناطق العلم ومناحي الحياة، سيكون هو نفسه صانع حتفه في تناميه في تناقضاته، التي ستقوده حتما إلى الانهيار، ليحل مكانه النظام الديمقراطي الاشتراكي الجديد.

وبعيدا عن التنظير والتبشير المجانيين، يمكن القول أن ذاك النظام سيتفادى الوقوع في الشراك الذي وقعت فيها التجربة السوفييتية، وأهمها شرك الديكتاتورية، وشرك الاقتصادوية، فكلاهما لعب دوره الأساسي في اغتراب المواطن السوفييتي عن عالمه الاشتراكي، وفقدانه فيه لروح المبادرة والفاعلية الإنسانية.

لم تتمكن التجربة السوفييتية من خلق الإنسان الجديد، فإن كانت الرأسمالية قد سوقنت واستسلعت الإنسان وأدت إلى انتاج ثقافة الاستهلاك واللاثقافة وظاهرة الإنسان الاقتصادي، الحر ظاهريا والمستلب جوهريا، فالتجربة السوفييتية وما دار في فلكها هي الأخرى لم تنتج إلا النمط البشري المقموع، المستهلـِك جسديا والمستهلـَِك إنسانيا، الذي لم يكن بمقدوره إلا أن يقف متفرجا على نظامه الاشتراكي وهو ينهار! وهو غير ملام في ذلك فقد كان مصادر الإرادة والفاعلية من قبل نظام الديكتاتورية على البروليتاريا، الذي كان يفترض فيه القضاء على الطبقية في مجتمعه، فاستبدال الإقطاع والبرجوازية، بطبقة حزبية سياسية بيروقراطية طفلية فاسدة، احتكرت السلطة وصادرت إرادة الشعب وأفسدت المجتمع والتجربة الاشتراكية.

وهذا ما لن تقع فيه اشتراكية المستقبل، التي ستكون اشتراكية حرية وروح إنسانية، وإنسان جديد.

لقد شهد العالم حتى اليوم تجربتين عظميين، وهما الليبرالية والاشتراكية، الأولى منهما تمتلك الحرية السياسة والمدنية وتفتقد العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والثانية امتلكت العكس، وكلتاهما فاقدة للروح الإنسانية الحقيقية في واقعهما المغرق في ماديته، وهذه المادية المترافقة بالديكتاتورية الساسية والفساد قد دمرت التجربة الاشتراكية، وهي أيضا ستدمر بمآزرة الديكتاتورية الاقتصادية والفساد الناجم عنها التجربة الليبرالية، التي قادتها الرأسمالية المنفلتة إلى شفير الانهيار في أزمة 2007-2008، التي دفع العالم وما زال يدفع من جرائها أبهظ الأثمان.


والبديل المطلوب للإنسانية هو نظام يجمع حسنات كل من الليبرالية والاشتراكية، ولا مكان فيه لكل من الديكتاتوريات البوليسية والاقتصادية أو المادية، وفيه سيتمكن الإنسان من إيجاد حرياته السياسية والمعيشية والروحية، وتحقيق نفسه كإنسان حر حقيقي، قادر على أنسنة قيم الحق والخير والجمال وتحويلها إلى واقع إنساني اجتماعي حيّ.

*
سوريا- السويداء

11-10-2017

*
[1]- رسالة يوحنا الأولى (٤: ٨).
[2]- تقول الآية القرآنية التي تبدأ بها سورة الفاتحة (الحمد لله رب العالمين)، و يقول الإمام علي في نهج البلاغة: (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق).
[3]- سفر التكوين (1: 26،27).
[4] - ماركس، مخطوطات 1864.
[5] - على سبيل المثال، تتبنى الدانيمارك، التي ما تزال تعتمد سياسة "اقتصاد السوق الاجتماعي" مبدأ واجب الدولة بحفظ دخل المواطن، و لذا فهي تقوم في حال تسريح أي عامل لدى القطاع الخاص، بتعويضه نسبة 80% من راتبه، لمدة قد تبلغ أربع سنوات، تقوم خلالها الدولة – و على نفقتها- بالبحث في الأسباب التي أدت إلى تسريحه، ورفع كفاءته إن كان يفتقد الكفاءة، أو تعليمه مهنة جديدة إن اقتضى الأمر، أو معالجته سلوكيا إن كان يحتاج إلى ذلك وهلم جرى إلى أن يتمكن من إيجاد فرصة عما جديدة أنسب..
- أولريش شيفر "انهيار الرأسمالية، أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"، ترجمة: د. عدنان عباس علي ،سلسلة عالم المعرفة، العدد 371، يناير 2010، ص 415.
[6] - برر رئيس سيمنز بيتر لوشير تسريح آلاف العمال بحجة أن الشركة قررت التخلص من طبقة (الوحل المتراكمة).
- أولريش شيفر، المرجع السابق ، ص 17.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟ • فرانس 24


.. إدانات دولية للهجوم الإيراني على إسرائيل ودعوات لضبط النفس




.. -إسرائيل تُحضر ردها والمنطقة تحبس أنفاسها- • فرانس 24 / FRAN


.. النيويورك تايمز: زمن الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران لن




.. تجدد القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة