الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صلاح الدين الأيوبي بين الخلافتين العباسية والفاطمية

علاء اللامي

2017 / 10 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


تفاقمت في الآونة الأخيرة حملة تعريض وهجاء ضد بعض الشخصيات التاريخية العربية الإسلامية من العصر الإسلامي المنتهي تأريخياً"1" بسقوط بغداد بعد الغزو المغولي سنة 1258م / 656 هـ. وقد جاءت هذه الحملة المستمرة متزامنة مع واقع وعوامل الاستقطاب والصراع الطائفي الشيعي السني البالغ حد الاقتتال الفعلي والقتل على الهوية الطائفية في العراق بعد احتلاله من القوات الأميركية والغربية سنة 2003، ومع تفاقم جرائم وانتهاكات تنظيم داعش التكفيري ضد جميع الطوائف والمذاهب الدينية المسلمة وغير المسلمة. وفي هذا السياق، تصاعدت في الآونة الأخيرة حملة شرسة في بعض وسائل الإعلام العراقية والعربية ضد شخصية تاريخية مهمة في تاريخنا العربي الإسلامي هو صلاح الدين الأيوبي، قاهر جيوش الفرنجة ومحرر بيت المقدس.
يتهم البعض صلاح الدين الأيوبي بتخطيط وتنفيذ مؤامرة انقلابية أمره بها الخليفة العباسي آنذاك، المستضيء بأمر الله (حكم بين 1170م و1180م، 566هـ إلى 577هـ)، (ضد سيده الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله بحجة تقديم دعم عسكري للفاطميين والدولة الفاطمية التي كانت ضعيفة وفي أواخر أيامها. ونفذ صلاح الدين انقلابا ضد العاضد وأمر بالحجر عليه ومنع إقامة الخطبة له بل جعلها للخليفة العباسي سنة 559 هـ / لقاء تلفزيوني مع د. جاسب الموسوي). نسجل بدءاً، أن التاريخ الذي ذكره المتحدث ليس صحيحا، فالخلافة الفاطمية انتهت رسميا -إذا اعتبرنا تاريخ تغيير الخطبة ليكون الدعاء فيها للمستضيء العباسي، وهذا ما يعتبره المؤرخون آنذاك اعترافا رسميا بزوال دولة وقيام أخرى، انتهت سنة 567 هـ / 1171م. كما نسجل أن سلطات صلاح الدين لم تجد رجل دين يلقي الخطبة باسم العباسيين من أهل مصر، وتصادف وجود رجل صوفي أعجمي كما يقول صاحب الكامل فقام بالمطلوب. هذه الرواية/الإشارة تضع المقولة السائدة عن عدم تمكن الدولة الفاطمية الإسماعيلية من اختراق المجتمع المصري الذي ظل سنياً موضع شك كبير، وإنما يمكن أن نأخذها بنظر الاعتبار معها الأزمة الاقتصادية وحالة المجاعة التي كانت سائد في مصر آنذاك والتي ربما جعلت الناس لا تعبأ بإلغاء الخلافة الفاطمية كثيراً.
ويقارن المتحدث بين "غدر" صلاح الدين بالفاطميين و"وفاء" البويهيين الشيعة للعباسيين لأنهم لم يزيلوا خلافتهم. فهل هذا المعنى صحيح وتاريخي؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نعرف قبل ذلك المقصود بالتَّغَلُّب والوزارات التَغَلُّبية، والتي لا يمكن من دون معرفتها فهم الأحداث وطبيعة الشخصيات التاريخية آنذاك.
إن المتغلب البويهي أو الأيوبي أو المملوكي التركي أو الآسيوي والأفريقي أو حتى العربي كالوزير الفاطمي شاور السعدي هو واحد من حيث وظيفته. إن المتغلبين جميعا عسكريون، وخبراء حرب ومقاتلون مرتزقة، سلعتهم قوتهم البدنية وذكائهم الحربي وشجاعتهم، وهدفهم واحد هو المال والسلطة. ومن بين هؤلاء جميعا انفرزت حالات قليلة لأبطال وقادة مختلفين اندمجوا بالحالة الشعبية المقاومة والرافضة للغزو الإفرنجي أو المغولي...الخ فاستوعبوها واستوعبتهم فأصبحوا أبطالا وزعماء في حالات تاريخية محددة لدوافع مختلفة من بينها الديني والشعبوي والقومي ...الخ، ومن هؤلاء صلاح الدين وقطز ونور الدين زنكي وسيف الدولة الحمداني وابنه سعد الدولة مع أن الحمداني ليس مملوكاً أصلاً بل أمير عربي شيعي اثناعشري ولكنه يعتبر، من الناحية الوظيفية، أميرا متغلبا. وقد كان الحمدانيون على علاقة ممتازة غالبا مع الخلافة العباسية ولكنها اضطربت في عهد الخليفة الراضي فقط.
لنعد الى المقصود بالتغلب والوزارات والإمارات التَغَلُبيَّة -وجذرها اللغوي الثلاثي المجرد "غ ل ب" "2" لنرى إنها شكل جديد من الوزارات والإمارات والسلطات التي نشأت في العصر الأول من عصور الدولة العباسية، فقد كانت الوزارة على نوعين: وزارة تفويض، وفيها يفوض الخليفةُ بصفته الحاكم المطلق والأول إدارةَ شؤون الدولة ويعطيه صلاحيات واسعة وغير محدودة. ومن الأمثلة على ذلك وزارات البرامكة والفضل بن سهل. أما الوزارة التنفيذية -وتسمى أيضا بوزارة القلم -فهي كما يدل اسمها وزارة تنفيذ لأوامر وسياسيات يرسمها ويقررها الخليفة، وتكون صلاحيات الوزير فيها محدودة ومراقبة ومن الأمثلة عليها وزارة ابن الفرات والخاقاني وغيرهما.
أما النوع الثالث والجديد متمثلا بوزارة أو إمارة التغلب، وهي كما يدل اسمها تنشأ من تغلب قوة مسلحة متمردة أو مستقلة على سلطة الخليفة أو الملك أو الأمير فتستولي على جميع صلاحياته وصفاته وتترك له جزءا يسيرا منها يتعلق بالرسوم والمراسيم الدينية، مقابل توفير الحماية له ولأسرته وثرواته، أي أن وزارة أو إمارة التغلب هي سلطة تقوم على معادلة "للخليفة الحماية مقابل السلطة الفعلية للوزير والأمير أو أمير الأمراء". بكلمات أخرى ففي الحالة الأولى يكون الخليفة هو المتبوع والسلطان حامل السلطة التقريرية الباتة أما في الثانية فيكون المتغلب هو السلطان ويمسي الخليفة أقل من متبوع بل مجرد محمي بسلطة المتغلب. فماذا بخصوص المتغلبين البويهيين في العراق العباسي؟
اجتاح البويهيون بغداد بجيش جرار، واحتلوها سنة 945 م. وأعلن معز الدولة البويهي نفسه حامي الخلافة (حتى سنة 1055 م). وفرض البويهيون سلطاتهم على الخليفة ولم يبقوا له سوى الاسم، بعد أن حاولوا في زمن معز الدولة البويهي نقل الخلافة للمعز لدين الله الفاطمي أو لغيره من العلويين، ولكن خواصه حذروه من سخط العراقيين في بلد عرف بأن الصراعات تتصل فيه مع الجمهور الى حدود الدم والثورات والفوضى والتمرد الدائم.

لقد تعامل الأمراء البويهيون مع الخلفاء العباسيين بعدم احترام، وتعدوا على سلطتهم وألقابهم وشاراتهم. وتجلّى هذا في مظاهر كثيرة من عزل وإهانة وسجن ومصادرة. وسلبوا الخليفة كل سلطة سلباً شرعياً ذكيا وقانونيا، فقد جعلوا الخلفاء يفوضونها إليهم تفويضاً رسمياً. ففي سنة 367هـ وفي حفل مهيب فوَّض الطائع العباسي سلطاته إلى عضد الدولة السلطان البويهي. ولم يقتنع البويهيون بالسلطة المطلقة وحيازتها، بل شاركوا الخلافة في امتيازاتها الأخيرة والرمزية. فخطبة الجمعة في بغداد كانت رمز السيادة السياسية والدينية للخليفة العباسي، ولكن لم يمض ربع قرن حتى استولى البويهيون على هذا الامتياز، وأدخلوا اسمهم مع اسم الخليفة في خطبة الجمعة. وتسلم البويهيون مهمة سك النقود وهي الرمز الثاني للخليفة، فحذفوا لقب أمير المؤمنين واكتفوا بذكر اسم الخليفة في حين ذكر الأمير البويهي اسمه ولقبه وكنيته. وهكذا لا يرى المدقق المنصف في التاريخ فرقا كبيرا، سياسيا أو أخلاقيا أو دينيا، بين ما فعله البويهيون في بغداد العباسية وبين ما فعله صلاح الدين شبه مرغم لدولة تُحْتَضَر هي وخليفتها -كما سنوضح لاحقا-في القاهرة الفاطمية.

وبالعودة لما قيل عن طريقة استيلاء صلاح الدين على السلطة في مصر، وإلغائه للخلافة الفاطمية بواسطة انقلاب نجد أننا أمام قصة تآمرية متكاملة العناصر يقدمها لنا المتحدث، وتتضمن سيناريو متسلسل للأحداث، يبدأ من مراسلات سرية بين الخليفة العباسي في بغداد والحكام المتغلبين السلاجقة الأتابكة الأتراك كنور الدين زنكي والأيوبيين في الأقاليم وخصوصا في إقليمي الشام ومصر. وقد شارك في هذه المؤامرة المزعومة إضافة الى الخليفة العباسي كل من نور الدين محمود زنكي بن عماد الدين وأسد الدين شيركو وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي وينتهي سيناريو المؤامرة بانقلاب قام به صلاح الدين وخلع الخليفة الفاطمي.
فهل كان الأمر كما رتَّبه المتحدث من خياله بهذا التسلسل؟ لنعد إلى التاريخ ونسجل الأحداث كما وقعت.
في السنوات التي ولد فيها صلاح الدين الأيوبي، كان الشرق العربي الإسلامي فسيفساء معقدة من الدويلات والإمارات الإسلامية والإفرنجية الصليبية والدول البالغة سن الشيخوخة (العباسية والفاطمية). حتى كادت أغلب مدن ساحل الشام وداخله تتحول الى دويلات. وحين ولد يوسف بن أيوب "الملقب بصلاح الدين" في تكريت، توفي جده، فهاجر أبوه أيوب وعمه شيركو للعمل كعسكريين في خدمة الأمير الزنكي نور الدين في دمشق بعد وفاة والده عماد الدين. (مات نور الدين بالذبحة الصدرية على فراشه، ولكن أهل الشام كافأوه بلقب الشهيد لاحقا، فصار يعرف باسم "نور الدين الشهيد" وذلك لبسالته في القتال الصعب والمديد ضد الغزاة الفرنجة الصليبيين ولكن انتصارات صلاح الدين طغت على انتصاراته ولكنها لا تقل عظمة عنها. وعلى اسمه بنيَّ وسميَّ الجامع النوري ومنارته الحدباء اللذان نسفهما تنظيم داعش في الموصل قبل تطهير المدينة منه بأيام.
إن أغلب المؤرخين وبخاصة المذهبيين الطائفيين يبدأون قصة علاقة صلاح الدين بمصر الفاطمية من الحملة المصرية الثانية التي شارك فيها وقادها عمه شيركو سنة 562هـ لمساندة الخلافة الفاطمية ضد الصليبيين وهذا غير صحيح. فأول حملة شارك فيها صلاح الدين ودخل مصر كانت قبل ذلك بثلاث سنوات أي سنة 559. والسبب الأرجح لهذه القفزة هو محاولة البعض تسويغ "نظرية المؤامرة العباسية الأيوبية" لإسقاط الخلافة الفاطمية عبر انقلاب غادر يقوم به صلاح الدين، وذلك بجعل الفترة بين دخوله الى مصر وتاريخ إنهاء الخلافة الفاطمية على يده قصيرة، رغم أنهم يعترفون كما يقول المتحدث التلفزيوني سالف الذكر أن (الدولة الفاطمية كانت تمر بأواخر أيامها، وكانت في مرحلة الشيخوخة، في مرحلة الوفاة).
وقد خاض صلاح الدين في قدومه الأول الى مصر معركة بلبيس وتعرف أيضا باسم البابين، ضد قوات ضرغام اللخمي وزير الفاطميين المتمرد عليهم، وانتصر عليه وأنقذ الخليفة الفاطمي العاضد من سطوته ودخل القاهرة وانتهى ضرغام بأن قتله سكان القاهرة في رواية وقتل في المعركة في رواية أخرى واستوزر الخليفة الفاطمي العاضد وزيرا جديدا هو شاور، وهو ليس مملوكا بل زعيم قبلي عربي اسمه شاور بن مجير السعدي ولم يستوزر الخليفة الفاطمي أحدا من منقذيه الزنكيين أو الأيوبيين آنذاك.
أما الدخول الثاني لصلاح الدين إلى مصر فكان في سنة 562 هـ، وذلك بعد أن شنَّ الفرنجة الصليبيون حملتهم الكبيرة على مصر، وحينها خان الوزير الفاطمي الجديد شاور السعدي سيده الخليفة العاضد وتعاون معهم. وكان على شيركو أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين أن يواجها جيشا كثيفا من الفرنجة وقوات الخائن المتغلب شاور قرب منطقة الجيزة وانتصرا عليه انتصارا عجيبا وأقرب الى الخيال. ثم حررا الاسكندرية من شاور وانسحب منها وترك فيها صلاح الدين، فاستنجد شاور بالصليبيين فأنجدوه بجيش ضخم وحاصروها لثلاثة أشهر حتى نفذت الميرة وحدثت مجاعة وتقدم منها جيش شيركو لفك الحصار عنها وعن قوات صلاح الدين ولكن قواته كانت قليلة مقارنة بقوات شاور والصليبيين فاضطر للتفاوض مع شاور على سحب قواته منها بسلام مقابل إتاوة من خمسين ألف دينار وبشرط عدم تسليم المدينة للصليبيين وعدم ملاحقة سكانها الذين رحبوا بالقوات الشامية.
حين انسحب شيركو بقواته إلى الشام خلا الجو للوزير الفاطمي شاور السعدي فسلم مصر كلها للصليبيين مقابل أن يعينوه شحنة عليها "أي أن يكون حاكما عاما" حتى حلت سنة 564.
وعن أحداث هذه السنة نقرأ في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير كما ينقل لنا العلوي في كتابه المشار إليه في الجزء السابق من هذه الدراسة ما يأتي ( وفي هذه السنة طغت الفرنج في الديار المصرية وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم وتحكموا في اموالها ومساكنها وجاء إليها أصحابهم من كل فج وناصية صحبة ملك عسقلان "الإفرنجي" في جحافل هائلة وأخذوا بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين و جعلوها معلقا لهم ثم ساروا فنزلوا على القاهرة فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، اسم المدينة القديمة السابقة للقاهرة، و أن ينتقل الناس منها إلى القاهرة فنهبت البلد وبقيت النار تعمل فيها أربعة وخمسين يوما. فعند ذلك أرسل الخليفة الفاطمي العاضد يستغيث بنور الدين زنكي وبعث له بشعور نسائه بقول أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الافرنج والتزم لك بثلث خراج مصر على ان يكون شيركو مقيما بها عندهم، والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث) "3".
-وافق نور الدين زنكي على طلب العاضد وأمر بتجهيز الجيوش لطرد الفرنجة من مصر وقد استشعر شاور وصول المسلمين فأرسل إلى أحد ملوك الصليبيين في الساحل الشامي يقول له (قد عرفت محبتي لكم ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقونني على تسليم البلد) فصالحهم ليرجعوا عن البلد بـ "ألف ألف" دينار -كما كانوا يقولون عن المليون-فانشمر الصليبيون خوفا من جيوش نور الدين. بدأ شاور يبتز ويضطهد المصريين ليجمع منهم أموال صفقته مع الصليبيين وضاقت الحال على الناس فاستدعى نور الدين جيش شيركو من حمص الى حلب وبدأ تجميع جيوش قوية وكبيرة لحسم موضوع مصر.
-وصلت جيوش الشام الى مصر، وكان الصليبيون قد انسحبوا منها بعد صفقتهم مع شاور، فدخلت القوات مصر دون مقاومة واستقبل الخليفة العاضد شيركو وخلع عليه (ألبسه ألبسة رسمية دلالة على تسليمه صلاحيات الوزارة) وبدأ الاثنان العاضد وشيركو بالتخطيط للقضاء على الخائن شاور السعدي.
-نفذت الخطة على يد صلاح الدين فقتل الخائن شاور وخرجت جماهير القاهرة فنهبت داره بعد مقتله. وقد استوزر العاضد رسميا أسد الدين شيركو ولكن هذا الأخير توفي بعد شهرين من استيزاره، فاستوزر العاضد ابن أخيه يوسف صلاح الدين بموافقة نور الدين الزنكي.
-أبقى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية وعلى الخطبة والدعاء للخليفة الفاطمي العاضد رغم الضغط الذي سلطه عليه نور الدين ليدفعه لإلغائها، ولكن صلاح الدين اكتفى بإزالة معالم التشيع الإسماعيلي عنها، وهو الأمر الذي قام به البويهيون الشيعة الزيديون في بغداد العباسية مع رموز الخلافة العباسية كما تقدم معنا. وكانت مصر في عهد العاضد قد بلغت درجة من الضعف الشديد، وكان الناس في ضيق يعانون المجاعة الفعلية وأزمة اقتصادية وحياتية شديدة وكان العاضد مريضا جدا، وربما سهلت هذه الظروف عملية إنهاء الخلافة الفاطمية أو أنها لم تثر رد فعل شعبي قوي عليها في القاهرة والمدن القريبة منها.
-اشتد ضغط نور الدين على صلاح الدين، وذهب أحد المؤرخين إلى أن (جفوة حدثت بين صلاح الدين ونور الدين بعد استلام صلاح الدين الحكم في مصر. بدأت هذه الجفوة عندما تأخر صلاح الدين في الخطبة للخليفة العباسي في بغداد. حتى هدده نور الدين بالمسير إليه) وستتسع الجفوة ومعها الفجوة السياسية والنفسية بين صلاح الدين ونور الدين لاحقا، حتى أوشكا على الصدام المسلح. وهنا اضطر صلاح الدين إلى اتخاذ قراره بوقف الخطبة للخليفة الفاطمي المريض وانتهت الخلافة الفاطمية سنة 567 هـ / 1171 م.
وبعد فترة قصيرة من ذلك، توفي العاضد وهو ما يزال شاباً في الحادية والعشرين من العمر، وكان قد استُخْلِفَ صبياً وله من العمر تسعة أعوام كما أسلفنا، فندم صلاح الدين ندما شديدا لأنه ألغى الخلافة الفاطمية في حياة العاضد، ولم ينتظر وفاته. نعود فنقرأ ما اقتبسه العلوي عن ابن كثير (وكان العاضد قد مرض واقترب من نهايته فماطل صلاح الدين في قطع الخطبة له حتى لا يؤذي مشاعره، ثم لم يجد مفرا من الانصياع لأمر قائده وأميره نور الدين فقطعها قبل وفاته "وكان صلاح الدين يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته؟ ولكن ذلك كان قدرا مقدورا"..." ولما مات العاضد حزن عليه صلاح الدين وشهد جنازته بنفسه وكان يتلقى التعازي شخصيا في عزاء أقامه هو وبكى عليه في أثنائها بحرقة المفجوع. وانتظر انصرام أسبوع الحداد فأصدر أمره الرسمي بإقامة الخطبة لبني العباس بشكل دائم وأفرد لأسرة العاضد قصرا يعيشون فيه بدل قصر الخلافة وخصص لهم أموالا تكفيهم وتعوضهم عما فقدوه من امتيازات بزوال دولتهم) "4".
وزاد المؤرخ أبو شامة المقدسي الأمر توضيحاً بالقول: (فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم عن الإجابة إلى ذلك، لميلهم إلى العلويين -يقصد الفاطميين-). فصلاح الدين كان حريصاً على توحيد الكلمة بترفق وتلطف، ودون استعجال أو قفز على الوقائع الاجتماعية والثقافية المتراكمة على مر الزمان. ونقع هنا على إشارة ثانية وقوية تفند المقولة السائدة والتي مفادها أن الدولة الفاطمية لم تخترق المجتمع المصري فظلت غربية عنه، ومعزولة طائفيا وتؤكد أن المصريين كانوا يميلون إلى الفاطميين بعبارة المقدسي وهو مسلم سني شافعي المذهب.
وبعد إصرار نور الدين على أن ينفذ صلاح الدين أمره، انتظر صلاح الدين حتى مرض الخليفة الفاطمي العاضد، فأقعده المرض عن حضور الصلوات وتسيير الشأن العام، فبدأ صلاح الدين في التنفيذ. ثم لما مات العاضد -بُعيد ذلك بمدة وجيزة-ندم صلاح الدين على استعجاله في تحويل الخطبة، وعدم التروي أكثر في الأمر. قال المؤرخ أبو شامة المقدسي: (وأما ندمُ صلاح الدين، فبلغني أنه كان على استعجال بقطع خطبته وهو مريض، وقال: لو علمت أنه يموت من هذا المرض ما قطعتها إلى أن يموت). وقبل أن يموت العاضد لم يجد أكثر رحمة وثقة من صلاح الدين ليستودعه أبناءه ويوصيه بإكرامهم، رغم بعد الشقة المذهبية بين الطرفين. ونفهم من كلام المقدسي هنا أن العاضد المحتضر أوصى صلاح الدين بذريته وأسرته حتى بعد أن قطع صلاح الدين الخطبة له فأي دلالة يمكننا الخروج بها من ذلك؟!
يذكر أبو شامة أن أبا الفتوح بن الخليفة الفاطمي العاضد أخبره (أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال: وأحضرَنا، يعني أولاده وهم جماعة صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا، رحمه الله). وبناء على وصية العاضد هذه (نقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم). (ولما مات الحاكم الفاطمي لم يظهر صلاح الدين شماتة ولا غبطة برحيل عدوه المذهبي، بل جلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره، والتوديع له إلى قبره)، كما يقول ابن شداد."5"
أما المؤرخ البريطاني ستيفن رنيسمان فيذكر في موسوعته، الآتي (أرسل نور الدين إلى صلاح الدين طالبا إياه بإيقاف الدعاء للخليفة الفاطمي، والدعاء بدلاً عن ذلك للخليفة العباسي في مساجد مصر. ولم يرغب صلاح الدين من الامتثال لهذا الأمر خوفا من النفوذ الشيعي في مصر. وأخذ يراوغ في تأخير الأمر. إلا أن نور الدين هدد صلاح الدين بالحضور شخصيا إلى القاهرة. فاتخذ صلاح الدين الإجراءات الشرطية اللازمة، لكن لم يتجرأ أحد على القيام بذلك. إلى أن جاء شيخ سني من الموصل زائرا وقام في الجامع الكبير وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله في أول جمعة من سنة 567 هـ / سبتمبر 1171م. لتحذو القاهرة كلها حذوه) "6".
*كاتب عراقي

1-نميز اصطلاحيا بين ما هو "تأريخي" أي متعلق بالتأريخ الموثق بالسنة والشهر واليوم، وبين ما هو تاريخي وهو الحامل لقيمة معيارية تاريخية. فحين نقول إن صلاح الدين شخصية تأريخية نعني أنه شخصية حقيقية في التاريخ المدون والموثق، وحين نقول إن صلاح الدين شخصية تاريخية، فالمعنى أنه شخصية كبيرة وضخمة بمقاييس التاريخ.
2-غَلَبَهُ قَهَرَهُ و َغَلَّبَ على بلد كذا: استولى عليه قَهْراً، وغَلَّبْتُه أَنا عليه تَغْليباً. لسان العرب-ابن منظور-جذر غلب -نسخة رقمية على النت.
3-شخصيات غير قلقة / هادي العلوي-227ص –ط1 بيروت – 1995.
4-المصدر السابق ص 229
5-السنة والشيعة... دروس من صلاح الدين الأيوبي -محمد بن مختار الشنقيطي -مدونة الجمعية الدولية للمترجمين واللغوين العرب على النت.
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?36966-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%85%D9%86-%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A
6-تاريخ الحروب الصليبية/ ج2 صفحة 445 رنسيمان (ستيفن)، ترجمة السيد الباز العريني، بيروت، دار الثقافة 1968.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا خصّ الرئيس السنغالي موريتانيا بأول زيارة خارجية له؟


.. الجزائر تقدم 15 مليون دولار مساهمة استثنائية للأونروا




.. تونس: كيف كان رد فعل الصحفي محمد بوغلاّب على الحكم بسجنه ؟


.. تونس: إفراج وشيك عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة؟




.. ما هي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران؟ وكيف يمكن فرض ا