الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا من همس الذاكرة -5- ** فاطمة .. المتمردة

سليمان الهواري

2017 / 10 / 12
الادب والفن


حكايا من همس الذاكرة -5-
***********
فاطمة .. المتمردة
*********
كم كانت فرحتها كبير ة و انا اخبرها انها ستذهب معي الى السينما هذا المساء .. و كما كل الاطفال كنا نحن الاولاد يحق لنا فعل كل شيء دون خشية من محاسبة .. لكنها هي لم تكن كما كل البنات .. فاطمة لم تكن تشبه قريناتها .. و لا حتى اخواتها .. كانت فاطمة و هي تصغرني بعامين فقط ، تميل الى كل ما نعشقه نحن عالم الاولاد ..
لقدميها مداعبة خاصة للكرة و كثيرا ما كانت تسجل اصابات حاسمة في المنافسات اليومية التي تنتهي على رأس كل زقاق .. و بفعل بنيتها القوية كنت كثيرا ما استند عليها ..
ربما كانت فاطمة أفضل من جلنا و هي تثبت ركبتيها على الأرض ، تحكم بين أصبعي" البيي" ثم تصيب مباشرة الهدف كي تدحرجه في الحفرة القريبة و تربح .. كنت أعتز بتفوقها و هي البنت الوحيدة بين الذكور .. لكن هذا كان يزعجني أحيانا و قد أنهرها كي تبتعد ، لكنها سرعان ما تعود لتعلب معنا كما كنا جميعا نلعب .
"الطروميية " تتقنها بشكل فريد و هي ترمي الخيط في استدارة خاصة ثم تلفه عندها ليصبح المغزل في كفها .. تصوبه نحو طرف " الصدفة" التي نتنافس عليها ، وقد تكون " فرنكا " او " ريالا " او اي عملة نقدية معدنية .. ما يهم هو دفعها كلما جاء دورك حتى تتجاوز الشريط الطباشيري الذي نرسمه كحد لإنهاء لللعبة .. قبل ان ننزوي في اي ركن من الدرب على عتبات الغروب و نبدأ في سرد "المحاجيات" على بعضنا و كل ينقل من حكاياه العميقة خيطا نلتف حول حميميته حتى نغرق معه في الشخوص و التفاصيل ، الى ان نستفيق على صوت أم تنادي ابنها الذي لم يظهر له أثر من الظهر ، و عليها ان تجيب أباه الذي انتبه لغيابه و هو يتجهز للنوم ..
"عبد الاله أين أنت ؟ أ ولد الحرام فينك ؟"
و غالبا ما يكون هذا انذار بفض اشتباك اللعب الذي طال حتى بدأ النعاس يداعبنا و نحن متكئين على جدار بيت الجيران ..
لا أعرف ما الذي تحرك داخلي ذاك النهار و نحن نقترب من العراك في مشادات بيننا و نحن نلعب الكرة .. كانت فاطمة تتوسطنا حين نهرتها لكنها رفضت الانصراف للبيت ، و امام نظرات ابناء الجيران المزدرية صفعتها على وجهها و هي تحاول ان تمسك بيدي .. اردت ركلها لكنها ابتعدت و هي ترشقني بالحجارة حتى اختفت داخل بيتنا الذي لا يبعد الا بضع خطوات فقط ..
نسيت أمرها و أنا غارق مع عصابة الاطفال حتى أحسست بيد تمسكني من رقبتي ..
" أبوك يريدك " .. كان هذا صوت أمي و هي تحكمني في قبضتها تجرني جرا الى البيت .. لم أشاهد ابي يوما كما شاهدته تلك اللحظة ، كان واقفا و الغضب يتطاير من عينيه و أنا متسمر أمامه لا أجرأ على أية حركة ..
" واش نتا باها " ؟
الوضع يتأزم و انا ارتعد أمامه ..
ضربة واحدة تكفي ..
نزع أبي حزامه الجلدي من سرواله و أمي تراقب من بعيد بينما أنا اكتفي بالنظر اليه و قد شل تفكيري ..
أبي لم يكن أبدا رجلا عنيفا و لم يضربني أبدا .. كان أخي الاكبر هو من يقوم بهذه المهمة و يسطر قوانين حسن السلوك التي غالبا ما كنت أتمرد عليها و أنا أتهيأ لحصة الجزاء مهما كانت مادمت قد حققتهما معا شهية التمرد و فعل اللعب ..
ضربة واحدة تكفي ..
لقد كانت فعلا ضربة واحدة أنجزت كل مهمات التربية في علاقتي بأختي الاصغر .. كنت اتابع يده اليمنى و هي ترتفع لا اعرف ماذا سيفعل ؟ لكه فعلها ، لقد ضربني بحزامه فعلا ..
بصمة الطرف الحديدي وشمت بدقة على لحم فخذي و انا ارتدي سروالا قصيرا فقط لم يرد شيئا من لهيب هذه الضربة التاريخية .. الدم يسيل و أمي تتدخل لتبعدني عنه .
" نهار تولدها ربيها .. واش كتسمع ؟" .. أردف أبي ..
لم أبك حينها لكن مزيجا من الاحتجاج و المفاجأة و الألم و الرغبة في البكاء داهمني دون ان اتحرك من مكاني أو أذرف و لو دمعة واحدة ..
ضربة واحدة هي كل رصيد الضرب الذي تلقيته من أبي ، لكنها كانت كافية كي تبصمني كل العمر و كي ترسم خطا داخل تفكيري و تخلخل منهج الرؤية نحو أختي و من خلالها لهذا الكائن المسمى " امرأة"
" ما عمرك تقرب من اختك ..دعها و شأنها "
"فاطمة" تلبس سروالها و تتجهز كي ترافقنا للسينما لأول مرة في حياتها ..
شارع " روامزين" يضم ثلاث قاعات سينمائية تتوزع بينها الافلام التي تعرضها على ساكنة المدينة القديمة و الهوامش و كل العمال و الحرفيين في أحراش التمدن .. تخصصت سينما "المونديال" و " الاطلس" في عرض الافلام الهندية و مشتقات افلام "بروسلي" التي كنا نعيد تجسيدها و نحن في طريق العودة الى البيوت في " غابة الشباب" التي نعيد كتابة كل السيناريوهات فيها و المعارك و فنون القتال التي نخزن في أذهاننا .. قاعة سينما " الاطلس" لازالت تتذكر سيل دموعي و أنا اعيش مآسي الحب والفراق ووالموت ثم اللقاء و حكايا السند و الهند و عوالم الالوان و البخور و السحر ..
كنت أحب سينما " أبولو" التي غالبا ما كانت تعرض نصا اولا عن " الكوبوي الامريكي " تتبعه بفيلم غربي يرتبط بالمافيا و مكر المحقق و قصص الحب الاجتماعية .. كنا نجتهد في فهم الرواية بفرنسيتنا الضعيفة و تتكلف مخيلتنا برتق ما عجزنا عن استيعابه ..
تمن التذكرة أقل من درهم واحد و كنا اكثر من عشرة أطفال من الدرب، فاطمة هي البنت الوحيدة بيننا .. كنا نعرف اننا سنجلس في مقاعد الصفين الاماميين لأن ثمن التدكرة في الخلف كان مرتفعا .. كنت أغادر العالم و انا امد خطوتي الاولى داخل هذه المجرة المظلمة .. يقودنا رجل كبير السن ، يدلنا بمصباحه على مقاعدنا و كل واحد منا يسلمه بقشيش العشر سنتيمات ..
جلسنا و الدهشة تغمرنا .. هنا تكون الرؤية غير الرؤية وأعناقنا مشرئبة الى الاعلى ، تكاد الطائرات المنطلقة بقوة نحونا ان تخطف منا الرقاب .. و في رمشة عين كنت اتجول في صحاري نيفادا اتنقل بين جبال امريكا و هضابها ، اشاهد توالي فصول هؤلاء الابطال البيض المبشرين بالحضارة و مسدساتهم العادلة لا تصمت و هي تسوي بالارض تاريخ رجل لا يستحق الحياة ، اسمه " الهندي الاحمر" .. تستمر المشاهد و النبض يرتفع الى ان تشرع كتابة الجينيريك في الصعود تعلن نهاية الفرجة الاولى ..
كان الكل ينهض و الاضواء تشتعل في استراحة خفيفة نخرج خلالها لشراء "الكاسكروط" الذي قد يكون اهم ما يحفزنا في هذه السينما .. نتناول "بوكاديوس" الخبز و "الطون" و نحن نجري بين المراحيض والمداخل الجانبية ،نكمله و نحن في مقاعدنا و الانوار تطفأ كي ينطلق الفيلم الثاني ..
يعود الظلام للقاعة و فاطمة تجلس على يساري .. الموسيقى جميلة جدا و هذه الاضواء تنقلنا الى عالم آخر ..ليس مهما ان ان نتابع كل الحكاية ، تكفي جملة من هنا و جملة من هناك لنفهم المجريات ، نرممها بما نضيف اليها من توابل الذاكرة .
فجأة يمد البطل يده يداعب عنق حبيبته و هو يستدير نحوها .. فراش النوم و انارة خافتة و هو يقترب منها أكثر .. رباه ان جسديهما عاريان تماما .. انه يقبلها .. يا الله ماذا سافعل .. خفضت عيوني .. تذكرت ان فاطمة تنظر معي الى نفس المشهد و كل اصدقاء الدرب هنا .. هذه الصور قد لا تكون دامت سوى اقل من دقيقة لكنها استغرقت دهرا كاملا عندي .. ماذا ساقرر ؟ .. لم اكن اعرف .. لم يعد ذهني مركزا فيما تعرضه الشاشة العملاقة امامي و هي تنتقل من ارض الى ارض تكمل سيرة هذا الشاب الوسيم الذي لا يفلت صاحبته من امام عينيه .. كل ما اصبحت اراقبه هو فاطمة و بقية العصابة .. هذا المساء السينمائي الملعون لا يريد ان ينتهي و يوغل في التحدي ..
لم تعد القبل تكفي .. نكاد نصير جزءا من دفئ اللحظة ، نتجاوز خط الشاشة و الماء الساخن يغلي داخل الحمام .. كل شيء جميل هناك و جسد هذه المرأة الملك يتدلع حتى و كأن كل قطعة فيه تنطق بالرغبة ..
" الله يلعن أبوها سينما " كنت أغرق وحدي في الخجل ..
أخذت فاطمة من يدها و خرجنا في الظلام .. طيلة الطريق لم تسألني هي ما الذي حدث؟ لم نقل أي شيء .. لكننا قلنا كل شيء .. لقد أصبحنا كبارا يا فاطمة ..
*** سليمان الهواري / حكايا من همس الذاكرة ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد