الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شَيْءٌ من طَنجة القديمة رُفقَة الأديب محمد البَغوري...!

ادريس الواغيش

2017 / 10 / 15
الادب والفن


شـَيْءٌ من طـَـنجة القـديمـة رُفقـَة الأديب محمد البَغوري...!
بقلم: ادريس الواغيش

أبواب بعض المدن في موصدة، رغم ما قد يبدو في ظاهرها وكأنها مشرعة للزائرين على مصراعيها، ومفاتيحها، عكس ما قد نعتقد، ليست مُعـَلقة “على الغارب“ كما يقول مثلنا المغربي الدّارج، لذلك لا بد من البحث عن أحد حاملي هذه المفاتيح، كي تتمكن من ولوج هذه الأبواب كي تكتشف أسرارها وكنوزها، وإلا ستظل زائرًا عابرًا مَهما تواتـَرت زياراتك لها وتكرَّرت وأخذت فيها من صور.
في هذه الورقة سنـُحاول التـَّوَغـُّل في عوالم طنجة على كثرتها، والاطلاع على شيء منها، لا إشهارا لمكان أو خدمة لأجندة معينة أو تحيزا لمكان على حساب آخر، لكن اقتفاء أثر شكري محبة لهذه المدينة التي أسِـرَت العالم، وبالتالي رفض كل طرف أن يفرط في نصيبه، فأصبحت عالمية إلى أن رجعت لمغربيتها سالمة، رغم ما تحمله وإلى الآن من متغيرات في عمرانها، تدل على أن أقوامًا مـَرَّت من هنا، بدءَا بمغارة “هرقل“ على المحيط الأطلسي وما تبعها من غموض لازال يُغذي أسطورتها القديمة، وما لحقها من غزو أوروبي تحديداً.
طنجة مدينة غامضة:
طنجة واحدة من هذه المدن الغامضة، زُرتها في أكثر من مناسبة، كانت أوَّلها قبل أربعين سنة تقريبا في رحلة مدرسية، مع ذلك لم أعرف منها إلا شوارعها الرئيسية وساحاتها العامة وشواطئها المشتتة بين البحر والمحيط، فهي لا تبوح لك بكل أسرارها للوهلة الأولى، إذ يلزمك من يحمل أحد مفاتيحها حتى تتمكن من العبور إليها وأنت فيها، هذا المفتاح الذهبي لن يكون إلا الأديب محمد البغوري، هو وحده دون غيره صاحب القلب الكبير مثل مدينته، عاشق لها، حافظ لأسرارها ومـُدَوِّن لكنوزها المشتتة بين جديد أحياء المدينة وقديمها.
كان محمد شكري رحمه الله إلى عهد قريب مفتاح طنجة وعرافا لها إلى أن توفاه الله، حفظ شبكة خريطتها وممراتها ومسالك أسواقها القديمة والجديدة، حاناتها وفنادقها ولائحة زائريها عن ظهر قلب، وحين غادرها إلى دار البقاء، استعصت على الجميع حتى خفت نـُواحـُها، وامتنعت أن تبوح بأسرارها لأحد من بعده، إلى أن جاء محمد البغوري مقتفيا خطاه، لا تمرُّ معه من مكان(فندق، زقاق، حانة، مكتبة، مقهى، حي، قصَبـَة، شارع، سور...) إلا ويستوقفك للحظات، كي يحدثك بحُبّ عن تاريخه وذاكرته وأهم الشخصيات التي مـَرَّت منه، دون أن ينسى أصغر التفاصيل.
لا يختلف اثنان على أن طنجة مدينة ساحرة، لكن مُخطئ من يعتقد أن سحرها يكمُن في إطلالاتها الرائعة على الأزرقين، حيث يلتقي المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط، في مشهد نادر قبالة “رأس سْبَارْطيل“ قد لا يتكرر في العالم مرتين، ومن جهة الشمال على خليجها النصف- دائري الطويل أو مراقبة النوارس وعبور السُّفـن بمختلف أحجامها ومَهامها عبر مضيق“ جبل طارق“من مقهى“الحافة“ ملتقى المشاهير والنوارس والشعراء والحالمين بالعبور إلى الضفة الأخرى على بعد نظرة واحدة من إسبانيا، ومن جهة الشرق على امتداد لازوردي وشواطئ فاتنة، ومن جهة الغرب على امتداد أزرق يتماوج مع لون رماله الذهبية.
جمال طنجة أيضا ليس في تعـَدُّد حاناتها أو كـُورنيشها الممتد على طول خليجها، ولا بعماراتها الزجاجية العالقة في السماء على غرار المدن العالمية الكبرى، ولا بأسماء شركاتها العملاقة التي حطت فيها مؤخرا، ولا بمقاهيها ومطاعمها الرديئة والراقية التي تعج بالفتيات المِلاح ليل- نهار، ولا بأموال باروناتها التي تعبر البحر المتوسط إلى الضفة الأخرى أو تجيء منها، ولا بفيلاتها الفخمة وقصورها المترامية على روابيها، ولا بالتسكع في ليلها الذي يبدأ مُبكرًا ولا ينتهي، طنجة إن شئنا وباختصار، في أهميتها الثقافية التي اكتسحت العالم.
على خطى شكري:
لم تكـُن الجـَولة مـُعـَدٌّ لها سلفا، فقد جاءت بشكل تلقائي، لكن مـرّت بشكل مـُرَتب وسَلس، كانت البداية من “مقهى باريس“ أعرق مقاهي طنجة وأقدمها، بعد أن أخذنا “كاسْ شـْبـْري“ من الشاي المغربي بالنعناع الأخضر رفقة الشاعر علي الورياغلي، هناك ونحن جلوس سأكتشف بالصدفة، أنا الذي كنت أداوم على الجلوس في هذه المقهى بالذات لسنوات طويلة، أنها كانت ملاذا لكبار الكتاب والمفكرين من أمثال: محمد شكري، هنري ماطيس، محمد السرغيني، صمويل بيكيت، البيتلز، محمد خير الدين، بول بولز، إدريس الخوري، جين آور بولز، محمد زفزاف، وليامز تايمز، العربي اليعقوبي، سعدي يوسف وكل مشاهير الأدباء الذين مروا منها تركوا فيها بصماتهم، وكان لا يحلو لجان جنيه- Jean Genet أن يخط كتاباته إلا فيها، لتظل بذلك طنجة كمدينة محافظة على حياديتها، فهي للجميع منذ الحرب العالمية الثانية و“فيها كـُلشي“ بتعبير المخرجة السينمائية فريدة بليزيد.
فندق المنزه- المتحف:
ونحن في طريقنا لنكمل ما تبقى من الجولة عبر السوق الكبير، عـَرَّجنا على فندق “المنزه“ التاريخي، الذي يبدو فندقا عاديا من خلال واجهته البيضاء، لكنه يظهر غير ذلك حين تدخل لأروقته الداخلية، هناك فقط، ستعرف بأنه الفندق الوحيد الذي حافظ على طابعه القديم، إذ بإمكان الطلبة والطالبات حمل كتبهم وحواسبهم إليه قصد المطالعة، فهو يوفر لهم كل ما يتطلبونه من أجل أخذ نصيبهم من العلم والمعرفة والراحة دون قيد أو شرط، كل ما هو مطلوب منهم أن يحترموا قانونه الداخلي، في وقت أصبحت فيه جميع الأمكنة تخاف من الكتاب، وتمنع فتحه فيها كليا تحت ذرائع مختلفة وحتى واهية أحيانا، مـَرَّت منه هو الآخر أشهر شخصيات السياسة والموضة والرياضة والفن في العالم، نذكر منهم: فان دام، لويس أراغون، الممثلة الفرنسية بريجيت باردو، وارنر فاسبندر، برنارد بيرتلوتشي، تينسي ويليامز، الليدي تشرشل، إليزابيث تايلور، أنطوني كوين، ايرين باباس، ليبولد سيدار سنغور، صليبي غونزاليس، كونت باريس، كينزو، وأوليفير ستون، إيف سان لوران، فرانسيس فورد كوبولا، وصور كل هذه الشخصيات معلقة على الجدران المكسوة بالزليج المغربي الأصيل.
“سُوق بْـرَّا“ و“سُوق الدّاخـل“ وخطاب السلطان محمد الخامس:
ونحن في طريقنا إلى “سوق الداخل“ عبر“ سوق بـْرَّا“ أو “السوق البْـرَّاني“، لابد أن يوقفك السي محمد البغوري في الساحة قليلا، ليحدثك عن خطاب السلطان محمد الخامس التاريخي ويشير بأصبعه إلى الأماكن التي جلس فيها مشاهير المرحلة من رجالات السياسة والمقاومة، وأهم التحولات التي طالت هذه الساحة منذ أن وَعـِيَها كطفل أو ما سمعه من أهاليها القدماء. في “سوق الداخل“ لا بد أن تستوقفك “كافي سنطرال“-CAFE CRNTRAL الذي كان يرتاده محمد شكري كثيرا، لأخذ قسط من الاستراحة وتستمع للكنات السياح ولغاتهم باختلاف قومياتهم الأوروبية والأمريكية وحتى المَشرقية، وطابع عمارتهم التي تعرف بها طنجة كمدينة عالمية دون غيرها: العمارة الإيطالية جنبا إلى جنب مع نظيرتها الفرنسية، البرتغالية، اليهودية، اليونانية، الألمانية والبرتغالية، الإنجليزية، وهي فروقات لا يمكن للزائر العابر أن يعرفها بسهولة ويـُسر، لكن البغوري/ الخبير يشرح لك بالتفاصيل أهمية هذه الفروق وخصائصها من عمارة إلى أخرى، وهي فروق لا يمليها فن البناء ومهندسوه، بقدر ما ترجع إلى اختلاف الثقافات الأوروبية واليهودية بالأساس.
طنجة قلعة الزوايا:
قرب “الجامع الكبير“ المعروف تاريخيا في طنجة القديمة، يستوقفك مرة أخرى كي يحدثك عن أسماء العلماء والفقهاء والخطباء الذين تناوبوا عليه في حلقات الفكر، ومنها عبر“زنقة المتر“(اسم على مُسمى)، زقاق ذكرني بالأزقة الضيقة في فاس البالي، إذ لا يتجاوز عرضه المتر الواحد، ولا يستطيع أن يمر منه أكثر من شخص واحد. عبر هذا الزقاق الضيق جدا توجهنا إلى الجزء الغربي من طنجة العتيقة، عند وصولنا إلى “دار البارود“ وجدنا هناك مجموعة كبيرة من الزوايا متعددة الحساسيات الدينية: الزاوية الكتانية، الريسونية، الصديقية، زاوية سيدي علي بن داوود، الحمدوشية، الفاسية، العيساوية، القادرية، التيجانية، زاوية سيدي الخمار الكنوني، ضريح سيدي أحمد بنعجيبة الحفيد (موجود في زنقة وادراس)، انتدب في لحظة تاريخية من التاريخ العلمي المغربي الطنجي أن ناظر عالما أتى من دولة ألبانيا، (من أراد التحقق يرجع إلى كتاب“التصور والتصديق“ وهو من الكتب النادرة للعالم سيدي محمد بن الصديق المتوفى سنة 1960 بالقاهرة وهناك دفن).
مقهى “بـَابـَا“- BABA العَجائبي و“ بابُ البحر“ البانورامي:
قبل أن نصل إليه، كان يلزمنا المرور من حي “أمـَْرَح“، في هذا الحي سنعثر على أيقونة أخرى تناوب على زيارتها مجوعات كبيرة من مشاهير الأدب والفن والرياضة والسياسة على السواء، إنه “مقهى بابا“ العجيب- الغريب، كان من ضمنهم الدبلوماسي الغاني وأمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان، ولازالت صور كل زواره من المشاهير مُعلقة بالأبيض والأسود أو بالألوان على جدران هذه المقهى، وهي مقهى عادية جدا في الحي القديم من الجهة الغربية لطنجة، الناس يجلسون فيه من مختلف الحساسيات والجنسيات: سياح أجانب، مغاربة، مشرقيون، نساء، رجال، شباب، كل رواده يعيشون عالمهم وراحتهم ويدردشون في صمت رهيب، من هنا عرفت أن سِـرُّ جمال هذه المقهى يكمن في نوعية زوارها
عند“باب البحر“ تسبقك إطلالة بانورامية على ملتقى البحرين (البحر والمحيط) وميناء طنجة الترفيهي، يلتف حوله الطريق الساحلي الجديد حول المدينة، ومن هناك لابد من المرور على بعض الأماكن التي تؤرخ لمحطات تاريخية قديمة في طنجة، منها “السجن القديم“ في عهد السلطان مولاي حفيظ وربما قبل ذلك التاريخ، ومتحف “القصبة“ الذي يضم قطعا نادرة من فترات تاريخية متباينة، ثم “مسجد القصبة“ الذي بناه الوالي بأمر من السلطان المولى إسماعيل بعد الجلاء الإنجليزي، وهو معلمة عمرانية ودينية بصومعته المثمنة الأضلاع، وأنت أيضا في غرب المدينة القديمة، لا يمكنك الاستمتاع بنظرة شامة على المدينة القديمة بقبابها وصوامعها وبحرها من جهة الشمال والشرق والمدينة الجديدة بعماراتها وحدائقها، إلا بإطلالة بانورامية من الطابق العلوي في “دار نور“، وهي دار ضيافة في ملكية فرنسي تتوفر على صور ولوحات تشكيلية وقطع فنية نادرة.
في حضرة صاحب “النبوغ المغربي“:
قبل التفكير في الخروج من “حي القصبة“ بالحي القديم، لا بد من التعريج على الدار التي كان يقيم فيها صاحب “النبوغ المغربي“ العلامة عبد الله كنون، والتي أصبحت من حسن حظها مركزا ثقافيا، في وقت تحولت فيه أغلب دور الزعماء والعلماء في المدن المغربية التاريخية إلى دور للضيافة.
من هناك، ستبدأ رحلة ثقافية أخرى عبر شارع إيطاليا وسينما الريف، التي لازالت تعرض أفلامها السينمائية، فيما أصبحت سينما الكازار- الكابيتول رغم تاريخها الفني الطويل، مجرد بناية عاطلة عن العمل ومجرد سلسلة من الذكريات، هناك تحديدا ستظهر بشكل جلي ملامح العمارة الغربية التي تحدثنا عنها في البداية: الفرنسية، الإيطالية، الألمالنية، اليهودية، البرتغالية، الإنجليزية، الإسبانية، العربية، المغربية، الأندلسية.
ستنتهي الرحلة في المدينة القديمة ذاتها على مشارف المدينة الجديدة وقد اطلعنا على شيء من طنجة القديمة، وسط انشغالات الناس في الأسواق بهمومهم اليومية، ولما تنتهي رحلتنا بعد في عوالم طنجة المتعددة بعمارتها وتاريخها وحاضرها وماضيها الاستثنائي، سنحط رحالنا أخيرا في مقهى شعبي بساحة 9 أبريل المعروفة محليا بـ“سـُوق بْـرَّا“، وأمامنا أكواب من الـ“ أتـَاي“ المغربي الأصيل بالنعناع الأخضر، الذي تخصصت فيه مـُدن الشمال المغربي على وجه الخصوص، ننصت إلى“عظامنا“ وإلى نبض قلوبنا وحكايات رجال مسنين يحكون همومهم لبعضهم البعض أو شيئا من تاريخ زرناه وشاهدناه بأم العين في هذه المدينة، كانت الرحلة متعبة جدا صعودا وهبوطا، لكنها كانت من أجمل الرحلات التي قمت بها في طنجة التي لم أكن أعرفها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد