الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بهاءالله - الوُصُول إلى الأراضِي المقَدَّسَة (10)

راندا شوقى الحمامصى

2017 / 10 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قد يبدو من المحيّر، إذا ما أخذنا في اعتبارنا أحداث بغداد، أنْ يفوت السّلطات العثمانيّة توقّع النّتائج التي سوف تترتّب على استقرار بهاء الله في عاصمة إقليميّة أخرى. ففي غضون عام واحد من وصول سجينها إلى أدرنة، اجتذب وجوده الجليل في بادئ الأمر اهتمام الشّخصيّات المرموقة في الحياة الفكريّة والإِداريّة في تلك المنطقة، ومن ثمَّ حاز على تقديرهم وإعجابهم الحار. وكان من أخلص المعجبين ببهاء الله اثنان هما خورشيد باشا، والي المقاطعة، وشيخ الإِسلام، أبرز الوجهاء من رجال الدّين السّنّة. فأفزع ذلك ممثّلي القنصليّة الفارسيّة هناك. كما أفزعهم أنَّ عامّة الشّعب وأولئك القائمين على استضافة بهاء الله بدأوا ينظرون إليه على أنَّه وليّ من الأولياء، وحكيم من حكماء الدّين. ويرون أنَّ حقيقة تعاليمه تنعكس ليس فقط في ما تمثّله حياته الطّاهرة، ولكن أيضاً في التّأثير العميق الذي أحدثته تلك التّعاليم فغيّرت نفوس ذلك السّيل من أهل فارس الذين احتشدوا في هذه البقعة النّائية من الإِمبراطورية العثمانيّة قاصدين زيارته.
وأقنعت هذه التّطوّرات غير المتوقّعة السّفير الفارسيّ وزملاءه أنَّ المسألة باتت مسألة وقت قبل أن تقوم الدّعوة البهائيّة، التي كان انتشارها مستمرّاً في بلاد فارس، بتوطيد أركان نفوذها في الإِمبراطوريّة المتاخمة للإِمبراطوريّة الفارسيّة والمنافسة لها. وكانت الإِمبراطورية العثمانيّة المتداعية الأركان تقاوم، في هذه الفترة من تاريخها، غزوات روسيا القيصريّة بالإِضافة إلى الثّورات المتفاقمة بين الشّعوب التّابعة لها. ثمّ كانت هناك المحاولات المتواصلة من قبل الحكومتين البريطانيّة والنّمساويّة، اللّتين كانتا تظهران العطف، وتضمران فصل عدد من الأقاليم العثمانيّة لتوسّع كلّ واحدة منهما إمبراطوريّتها. وأدّت هذه الأحوال السّياسيّة غير المستقرّة في الأقاليم العثمانيّة الواقعة في القارّة الأوروبيّة إلى إقامة حجج ملحّة جديدة دعَّم بها السّفير الفارسيّ التماساته بإبعاد المنفيّين إلى مقاطعة نائية بحيث تنقطع سبل الاتّصال بعد ذلك بين بهاء الله والأوساط ذات النّفوذ، عثمانيّةً كانت أم غربيّة.
وعندما عاد وزير الخارجيّة العثمانيّ فؤاد باشا من زيارة تفقّدية أجراها في منطقة أدرنة كتب تقريراً عبّر فيه عن دهشته البالغة لما أصبح يتمتّع به بهاء الله من سمعة عالية في جميع أرجاء الإِقليم، فعزّز ذلك من مخاوف السّفارة الفارسيّة والاقتراحات التي قدّمتها إلى الحكومة العثمانيّة. وفي هذا الجوّ من تضارب الآراء قرّرت الحكومة العثمانيّة، وبصورة مفاجئة، أنْ تفرض على ضيفها السّجين قيوداً صارمة. ففي باكورة يوم، ودون أيّ إنذار سابق، طوّق الجند منزل بهاء الله في أدرنة وأُمِرَ أصحابُه المنفيّون بإعداد العدّة للسّفر إلى جهة مجهولة.

كان المكان الكالح الذي تمّ اختياره كآخر منفىً لبهاء الله مدينة عكّا المسوّرة الواقعة على ساحل الأراضي المقدّسة. وقد عُرِفَتْ عكّا في جميع أرجاء الإِمبراطوريّة العثمانيّة بفساد مناخها، وبتفشِّي الأمراض العديدة فيها. وكانت الدّولة العثمانيّة تستخدمها كمستعمرة للقصاص، فتسجن فيها المجرمين الخطرين أملاً في ألاّ يطول بقاؤهم هناك على قيد الحياة بسبب رداءة المناخ وفساد الهواء.

وصل بهاء الله إلى عكّا في شهر آب (أغسطس) من عام 1868 يصحبه أفراد عائلته ومجموعة من أتباعه الذين نفوا معه. فقاسى هؤلاء الآلام وتحمّلوا الإِساءة والاعتساف طوال عامين داخل أسوار المدينة ذاتها. وفُرِضَ عليهم بعد ذلك الإِقامة القسريّة داخل بناءٍ يملكه أحد التّجّار المحلّيّين. ولفترة طويلة من الزّمن تحاشاهم أهل المدينة الذين سيطرت عليهم الخرافات، وهم الذين تمّ إنذارهم مِنْ على المنابر ضدّ "ربّ العجم" فصوّر الوُعّاظ بهاء الله على أنّه عدوٌّ للنّظام العامّ ومروّجٌ لأفكار الإِلحاد والفسق والفجور. وقضى عدد من أفراد ذلك النّفر القليل من المنفيّين نتيجةً لما تعرّضوا له من حرمان ولِظروفٍ أخرى قاسَوْها.
يبدو لنا الآن، ونحن نستعيد أحداث الماضي ونتأمّلها، كم كانت سخرية القدر قاسية حقّاً بالنّسبة لأعداء بهاء الله من أصحاب السّلطة الدّينيّة والمدنيّة الذين كانوا يهدفون للقضاء على نُفوذِه الرّوحيّ والدّينيّ، فأفْضَتْ كافّة محاولاتهم وضغوطهم إلى أن تكون الأرض المقدّسة دون غيرها المكان المختار لِتُفْرض فيه على بهاء الله الإِقامة الجبريّة. فقد كانت فلسطين التي تقدّسها الأديان التّوحيديّة الثّلاثة وتعتبرها ملتقى عوالم الله وعالم الإِنسان، تُعتَبر آنذاك، كما كان الحال منذ آلاف السّنين، مكاناً متميّزاً تعلّقت به آمال البشر. وقد اتّفق أنّه، قبل مجيء بهاء الله إلى الأراضي المقدّسة بأسابيع قليلة، أبحر الرّعيل الأول من زعماء الحركة البروتستانتيّة المعروفة بفرسان الهيكل الألمان من أوروبا ليُقيموا عند سفح جبل الكرمل المطلّ على حيفا مستعمرةً لهم استعداداً لاستقبال السّيّد المسيح، اعتقاداً منهم بأنّ عودته باتت وشيكة. وإلى يومنا هذا يمكن للنّاظر مشاهدة كلمات مثل "إنَّ الرّبَّ لَقَريبٌ" باللّغة الألمانيّة محفورة في أسْكفات العديد من مداخل البيوت التي شيّدوها والتي كان سجن بهاء الله، عبر الخليج، مواجهاً لها.

استكمل بهاء الله ما بدأه في أدرنة فأملى سلسلة من الرّسائل وجّهها إلى بعض الملوك والحكّام بصورة فرديّة. وتتضمّن العديد من هذه الرّسائل إنذاراته بيوم الحساب حين يُسأل هؤلاء عن ظلمهم للرّعيّة وإهمالهم لشؤونها، وهي الإنذارات التي تمّ تحقّقها بصورة مثيرة وأدّت إلى قيام نقاش ومداولات عامّة بشأنها في كل أنحاء الشّرق الأدنى. فبعد مضي أقلّ من شهرين على وصول المنفيّين إلى مدينة السّجن، مثلاً، طُرِدَ فؤاد باشا وزير الخارجيّة العثمانيّ من منصبه بصورة مفاجئة ثم أصابته نوبة قلبيّة أودت بحياته وهو خارج وطنه في فرنسا. وكان فؤاد باشا هو صاحب ذلك التّقرير المليء بالاتّهامات الباطلة والذي نتج عنه النّفي والإِبعاد الأخير. وصدر بيان من قلم بهاء الله بهذه المناسبة توقّع فيه إقالة زميل فؤاد باشا، وهو رئيس الوزراء عالي باشا. كما أشار إلى ما سيكون من سقوط السّلطان وموته، وفقدان الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني في أوروبا، وهي سلسلة من الكوارث التي لحقت بعد ذلك بالكيان العثمانيّ الواحدة بعد الأخرى.

أمّا رسالة بهاء الله إلى الإِمبراطور نابليون الثّالث فقد حَمَلَتْ إليه، بسبب نفاقه وظلمه، هذا الوعيد:

"بِما فَعَلْتَ تَخْتَلِفُ الأُمورُ في مَمْلَكَتِكَ، وَيَخْرُجُ المُلْكُ مِنْ كَفِّكَ جَزاءَ عَمَلِكَ... أغرَّكَ عِزُّكَ لَعَمْري إنّهُ لا يَدومُ..."

أمّا الكوارث النّاجمة عن الحرب الفرنسيّة البروسيّة وما نتج عنها من سقوط نابليون الثّالث فقد حدثت كلّها في أقلّ من عام واحد إثر صدور هذا البيان. وكتب أليستر هورْن الباحث المعاصر في التّاريخ السّياسيّ الفرنسيّ للقرن التّاسع عشر تحليلاً لهذه الأحداث فقال:
"ولعلّ أبلغ مثل في التّاريخ الحديث على ما أسماه الاغريق peripateia، ومعناها السّقوط الشّنيع من أعلى ذُرا الرّفعة والاعتزاز، هو ما حدث لفرنسا. فلقد انهار ذلك البلد انهياراً سريعاً وتعرّض لأسوأ أنواع الإِذلال والانكسار، على الرّغم مما كان يرفل فيه من الفخامة الظّاهريّة وما حقّقه من إنجازات مادّيّة وافرة..."
يضاف إلى ذلك أنّه، وقبل أشهر قليلة من سلسلة الأحداث غير المتوقّعة في أوروبا والتي قامت في أثنائها قوّات المملكة الإِيطاليّة الجديدة بغزو المقاطعات البابويّة والاستيلاء على روما، وهي العاصمة البابويّة، أنزل بهاء الله بياناً وجّهه للبابا بيوس التّاسع فحثّ الحَبْرَ البابويّ على ما يلي:

"دَعِ المُلْكَ لِلمُلوكِ وَاطْلُعْ مِنْ أُفُقِ البَيْتِ مُقْبِلاً إلى المَلَكوتِ... كُنْ كما كانَ مَوْلاكَ... إنَّهُ قَدْ أتى يَوْمُ الحَصادِ وَفُصِلَ بَيْنَ الأشْياءِ. خَزَنَ ما اخْتارَ في أواعي العَدْلِ وألقَى في النّارِ ما يَنْبَغي لها..."

ووجّه بهاء الله في الكتاب الأقدس تحذيراً إلى ويلهلم الأوّل، الملك البروسيّ الذي أحرزت قوّاته انتصاراً ساحقاً في الحرب البروسيّة الفرنسيّة، دعاه فيه إلى أن يتّعظ ويعيَ الدّرس الذي تَمثَّل في سقوط نابليون الثّالث وغيره من الحكّام الذين زال حكمهم رغم ما حقّقوه من فوز ونصر في حروب سابقة. ونصحه بأن لا يسمح لكبريائه أن تحول بينه وبين الاعتراف بصحة هذه الرّسالة الإِلهيّة. إلاّ أنّ بهاء الله رأى بثاقب البصيرة أنّ الإمبراطور البروسيّ (الألمانيّ) سوف يتجاهل الاستجابة لذلك التّحذير، وهو ما يبدو جليّاً في الفقرة التّالية، وهي الفقرة التي تهدّد بعظيم الأمور والواردة في ما تَلِيَ من الآيات في نفس ذلك الكتاب:

"يا شَواطئَ نَهْرَ الرَّيْنِ، قَدْ رَأيْناكِ مُغَطَّاةً بِالدِّماءِ بِما سُلَّ عَلَيْكِ سُيوفُ الجَزاءِ، وَلَكِ مَرّةً أخْرى ونَسْمَعُ حَنينَ البَرْلين وَلَوْ أنَّها اليَوْمَ عَلى عِزٍّ مُبينٍ."

ومن جملة هذه البيانات الرّئيسيّة يتميّز بيانان بلهجة تختلف عمّا سبق بصورة تلفت النّظر: البيان الأوّل هو الموجّه إلى "الملكة فكتوريا" والآخر الموجّه إلى "مُلوكِ أمْريقا [أمريكا] وَرُؤساءِ الجُمْهور فيها". فيثني بهاء الله في البيان الأوّل على الإِنجاز الرّائد الذي تمثّل في إلغاء الرّقّ في كلّ أنحاء الإِمبراطوريّة البريطانيّة، ويُزكّي مبدأ الحكم التّمثيليّ. أمّا البيان الثّاني فيفتتحه بالإِعلان عن مجيء يوم الله ويختتمه بدعوةٍ منه هي في الحقيقة تكليف لا مثيل له في أيٍّ من البيانات السّابقة:

"أجْبروا الكَسيرَ بأيادِيَ العَدْلِ، وَكَسِّروا الصَّحيحَ الظّالِمَ بِسياطِ أوامِرِ رَبِّكُمْ الآمِرِ الحَكيمِ..."

المراجع
75 للاطّلاع على هذه الأحداث، راجع كتاب أديب طاهر زاده المذكور أعلاه بعنوان The Revelation of Bahá---’u’llá---h ، ج3، وخاصّة ص296 و331.

76 في وصف هذه الظّروف الصّعبة راجع "كتاب القرن البديع" ص219-231.

77 في الخمسينات من القرن التّاسع عشر قام اثنان من قادة الدّين في ألمانيا، هما كريستوفر هوفمان وجورج دافيد هارديغ، بالتّعاون فيما بينهما فأسّسا "جمعيّة الهيكليّين" هدفها بناء مستعمرة أو مستعمرات في الأراضي المقدّسة تمهيداً لظهور السّيّد المسيح في مجيئه الثّاني. وتركت المجموعة الثّانية التي بدأت بإنشاء هذه المستعمرات ألمانيا في اليوم السّادس من آب (أغسطس) عام 1868 فوصلت حيفا في اليوم الخامس من تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1868، وذلك بعد وصول بهاء الله إلى هناك بشهرين.

78 للاطّلاع على الكوارث التي حاقت بالأراضي الأوروبيّة التّابعة للإمبراطوريّة العثمانيّة في الحرب الرّوسيّة التّركيّة في 1877-1878 راجع الفصل الإضافي الثّالث في كتاب حسن بليوزي المذكور أعلاه بعنوان Bahá---’u’llá---h: The King of Glory ص460-462.

79 "لوح الشّيخ"، ص36.

80 كتاب أليستر هورْن بالإنجليزيّة بعنوان "سقوط باريس"، ص34.
Alistair Horne, The Fall of Paris (London, Macmillan, 1965)

81 مقتبس من ترجمة كتاب شوقي أفندي إلى الفارسيّة (Shoghi Effendi,
The Promised Day is Come (Wilmette, Bahá---’í--- Publishing Trust, 1980) بعنوان "قد ظهر يوم الميعاد" (طهران، لجنه ملي نشر آثار أمري، 1947) ص46-47.


82 المصدر السّابق أعلاه، ص51.

83 المصدر السّابق أعلاه، ص48.

84 الآية وردت في "الكتاب الأقدس" الذي نزل كلّه باللغة العربية (راجع الحاشية رقم 108 أدناه) واقتبست في النّص الأصليّ لهذه الوثيقة من كتاب شوقي أفندي
Shoghi Effendi, Citadel of Faith: Messages to America 1947-1957,
(Wilmette, Bahá---’í--- Publishing Trust, 1980) pp18-19








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد