الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرض كتاب الأستاذ الدكتور أحمد زايد صوت الإمام -الخطاب الديني من السياق إلى التلقي-

صالح سليمان عبدالعظيم

2017 / 10 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يمثل الكتاب الراهن مقاربة هامة للخطاب الديني في مصر، ومحاولة سوسيولوجية متميزة من أجل فهم الأبعاد المختلفة التي ينطوي عليها. وكشأن البدايات الأولى، فإنه ينطوي على الكثير من الجوانب المثيرة للجدل وغير الحاسمة لقضية بالغة الأهمية والخطورة مثل تجديد الخطاب الديني. وسوف نتناول بعض القضايا الهامة التي تناولها الكتاب من منطلق نقدي بالأساس يبتعد عن مواضعات التماهي مع الكتابه ومنصاتها المهيمنة بحكم المكانة والتلقي الرسمي العام وغلبة ثقافة الاتفاق. لكن على الرغم من ذلك فإن أهمية الكتاب تدفع للقراءة النقدية وتدفع للاستثارة الذهنية التي تكشف عن عمق القضايا التي يتناولها وتشبيكات الواقع المعقدة التي تفرض علي المفكرين الكثير من الوصايا وربما قرائن الرقابة المهلكة.

أولا: التحليل الفوقي للخطاب الديني
يتعامل الكتاب مع الخطاب الديني بشكل بالغ الفوقية بحيث يجرده من بنيته ليصير خطابا علويا تتحكم فيه مجموعات نخبوية تتحكم في عباد الناس وتحدد مصائرهم وأقدارهم. ولعل هذا يتفق مع سياسة الكتاب التي ترى أن أهم جوانب التغيير في الخطاب الديني هو التعليم الذي يتحول هو الآخر إلى بنيان فوقي بدون تحديد لماهيته أو تقرير لواقعه السيئ وما يرتبط بذلك من دور الدولة في تطويره والعناية به. واللافت للنظر هنا أيضا أنه في ظل غياب أي تناول للدولة يبدو الواقع أيضا مجردا غائبا، فكل تشابكات الواقع تختفي، وكل التعقيدات التي ينطوي عليها واقعنا تبهت وتنمحي ليصير واقعنا عبارة عن خطابات دينية وكأننا لا نحيا سوي بالدين وللدين ومن أجل الدين. بالطبع فإن هذه التصورات التي تصور الواقع على أنه محكوم بالدين فقط هي تصورات ربما تخدم أهداف محددة، وتتماهي مع خطابات سلطوية أخرى، وهو أمر يضر في النهاية كل الأطراف. ففي المجتمعات التي شهدت حتى حروبا طويلة المدى استطاع الإنسان بمهارته أن يتكيف مع الواقع ليحب ويكره ويتناسل ويأكل ويشرب ويبني حضارته ومستقبله. وعبر كل ذلك لم يكن ثمة خطاب حاكم للإنسان، وحتى مجتمع المدينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن محكوما بالدين، ومن يتصور ذلك فإنه يختزل البشر لأهوائه ونظراته المسبقة.
ويرتبط ما سبق بالابتعاد جدا عن البنية ومجرياتها والتعامل معها على أنها غير موجودة بالأساس رغم بعض الإشارات هنا وهناك للاشتباكات الخاصة بها. ومثال لهذا الشكل من الكتابة التي تروم الإبتعاد عن البنية وملابساتها وتشابكاتها.

وعند هذه النقطة يمكن أن نتحدث عن عمليات متصلة لإعادة إنتاج الخطاب نطلق عليها عمليات الحلول المتعددة للخطاب. تبدأ هذه العمليات بحلول الوحى في العالم، هنا تنصهر النصوص المقدسة في الواقع وتنداح في التاريخ، فيعاد تفسيرها وتأويلها وفقا لاعتبارات المصالح السياسية والصراعات السياسية فينتج عنها خطاب ديني يتفرع في دروب عديدة ص ص 22-23

ما هى هذه المصالح والصراعات؟ لا يطفأ الكتاب ظمأنا ويتركنا هكذا هائمين لا نعلم عن أى سياقات نتحدث، وما هى القوى السياسية التي تتصارع في الأساس، وما هى المصالح التي تسعى ورائها. ولعل ذلك يظهر بشكل كبير فيما انتهى إليه الكتاب من توصيات تتعلق بتطوير الخطاب الديني وهى توصيات فوقية أيصا تتعلق بتطوير التعليم والإعلام والمجال الثقافي العام. فلا هناك مجال للحديث عن الفقر والتأثيرات الخاصة به، ولا مجال للحديث عن التفاوتات الاجتماعية المختلفة. فالكتاب صورة مصفاة للتناول الجوهراني essential التي لا ترى تشبيكات قائمة بين البني الفوقية والتحتية، فكل شيئ فوقي يعاد إنتاجه بأفكار ملزمة مسبقة ومسقطة. واللافت للنظر هنا أن غياب أي نقد بنيوي حقيقي يدفع لعدم الخوض في قضايا هامة جدا والتعرف على أسبابها والدور الذي تقوم به في خلق خطاب ديني متشدد رافض للحاضر راغب في استدعاء الرموز الدينية الإسلامية الأولى. فبديلا عن الحديث عن البطالة وأسبابها يطالعنا النص الراهن بالحديث عن تحييد تأثير البطالة أو بلغة أفضل ثقافة البطالة ( وهى أساليب الحياة المتصلة باستخدام فائض الوقت الذي توفره البطالة)، حيث يتم التنظير للبطالة بدون تناولها بشكل مباشر وتحديد أسبابها والعوامل المؤدية له. بل إن المؤلف يرى في ص 272 أن "هذه الثقافة "ثقافة البطالة" تخلق فائضا من الوقت يستغله الشباب في مزيد من الإنشغال بالفتاوى وأمور الدين، خاصة في ظل وجود فراغ ثقافي وفكري يعمل في الاتجاه المختلف"

ثانيا: غياب الزمان والمكان
ترتبط مثالية الكتاب الراهن وتتضافر مع توجه خفي يتعلق بغياب الزمان والمكان. فإذا تعاملنا معه على أنه نص بلغة الأدب فإن الكتاب لم يمنحنا أى تأطير واضح للزمان والمكان. فلا نعرف بالضبط تاريخ اختيار العينات البشرية أو تاريخ اختيار الخطب المنبرية كما أننا لا نعرف عن أى مكان محدد تم اختيار البشر، رغم بعض التحديد للمحافظات. والمسألة هنا لا تتعلق بضرورات التحديد البحثي الزمنية ومستلزماتها، بقدر ما ترتبط بالواقع الراهن والتحولات الهائلة الخاصة به. فالاختيار قبل الخامس والعشرين من يناير 2011 يختلف اختلافا جما عنه بعد ذلك. فالعبرة هنا ليس بالتواريخ بقدر ما ترتبط بالدلالات التي تصحبه وتتمخض عنه، وهو أمر لا يرتبط فقط بالخطاب الديني ولكن يرتبط بكافة أشكال الخطابات الأخرى سياسيا واقتصاديا وثقافيا بل وحتى رياضيا وترفيهيا إلخ. وهى خطابات تم تجاهلها وتهميشها تمام في الكتاب الراهن حتى يبدو الخطاب الديني في الصدارة من الواقع، ويتم تجسيده بشكل مخيف يتفق ومجريات ورغبات الأمور.

ثالثا: الرؤية المسبقة للكتاب
ينطوي الكتاب على رؤية مسبقة مفروضة عليه، بغض النظر عن الشكل العلمي الذي وسمه. فالعينات العديدة التي ارتكز عليها، واتباعه لمبدأ اللياقة المنهجية، وغيرها من معين المظهر المنهجي التي ربما تفرض شكلا علميا للكتابة، وربما تفرض علينا القبول والتماهي مع الكتاب، لم تفد كثيرا في الأحكام التي انتهت إليها. فالفكرة المسبقة للكتاب والتي تدين الخطاب الديني كانت سوف تفرض نفسها سواء من خلال العينات أو من خلال الخطب، أو حتى من خلال التحليل التاريخي الذي أرى أنه أقرب للتعامل مع تلك القضايا الشائكة التي تفتتها العينات وتصيبها بالنضوب العلمي. وهذه ليست مشكلة الكتاب الراهن، فكل تحليلات الخطاب الديني سوف تقع في ذلك المصير سواء انتهت إلي صورة إيجابية للخطاب الديني أو انتهت لصورة سلبية مثل الكتاب الراهن. وتظهر هذه الرؤية في الكثير من طرق الزج بالخطاب الديني والقائمين عليه في أشكال تأويلية مرهقة وملتبسة. فهناك محاولة للزج بالخطاب في آتون حداثة غير موجودة، حداثة برانية على حد قول المؤلف.
" ويتجاوب الواقفون على هذه المنصات الخطابية- سواء في مواقع النخب الدينية أو المواقع الأفقية في المساجد والزوايا وقاعات الدرس- يتجاوبون مع هذه الثقافة، فيتفننون في تحسين ألبستهم التقليدية أو يستبدلون الملابس الحديثة بها، ويتفننون في أن تظهر أجسادهم وهى نظيفة قشيبة تكتسي بثياب نظيفة جميلة، ولحى مهذبة مشذبة، وكل هذه من متطلبات الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية الغربية ص ص 63-64
هذه واحده من أمثلة التحليل الواحدي الخطي الذي يزج بالخطاب الديني بقضايا عديدة، حتى بدون التعمق فيها وإكسابها أبعاد تحليلة أخرى. فقد كان من الممكن الحديث عن اتصالات هذه النخبة بالغرب، وسفر أولادهم للتعلم فيها، ومظاهر البذخ الخاصة بهم...إلخ من أشكال الإرتباط بالعوالم الرأسمالية، وهى بالمناسبة أشكال يمارسها الكثيرون من نخب المجتمع المصري بأنماط بالغة السفه.
ولعل هذه الرؤية المسبقة تظهر أهم تجلياتها فيما انتهت إليه نتيجة العينة الميدانية البالغة المحدودية والقائلة أن 77% يرون بكون الخطاب الديني يلجأ إلى الماضي بديلا عن الحاضر والمستقبل. هذه النتيجة لا يتم تحليلها أو تأويلها إلا من خلال الرؤية المسبقة التي تجعل الخطاب الديني خطابا ماضويا، بدون التعمق في أسباب اللجوء للماضي، ودور الحاضر ووضعيته في ذلك. فغياب الأمل والمستقبل وعدم التيقن من الحاضر يدفع بالكثيرين إلى استعادة أمجاد تليدة لكبار الصحابة تيمنا بهم واستحضارا لهم، وهو أمر تمارسه كل الأمم بتجليات وأطر مختلفة.

رابعا: تهويمات المنهج
يتركنا الكتاب بلا مرفأ منهجي واضح ومتين. فالخطب المنبرية قليلة الحجم بشكل كبير، ولا تتناسب مع موضوع بالغ الأهمية مثل الخطاب الديني. وعموما فإننا حتى لم نعلم طبيعة وكنه هذه الخطب، مع الافتراض بأن أى قراءة تحليلية كيفية هى بقدر كبير انتقائية ترتبط برغبات المحلل ومشروعه الفكري المنوى التأكيد عليه. ففي الخطاب الديني، بخلاف أشكال الخطابات الأخري، نجد الشيئ وعكسه بسهولة ويسر، ونجد تناقضات الإيمان ظاهرة جلية للعيان، وهو أمر يجعل مسألة العينات في هذا النوع من التحليل غير صائبة على الإطلاق. إضافة إلى ذلك فإن التحليل الكمي للبشر محدود جدا ولم يكشف عن أى شيئ في متن العمل. وربما نعاود القول بانتقائيته ومجهوليته. فهناك صفة هامة للكتاب الراهن، رغم وضوح إشكاليته ووضوح تساؤلاته ترتبط بالرغبة في التجهيل المنهجي، وهو أمر يتفق مع الرغبة في فرض الفكرة المسبقة التي تنل من الخطاب الديني من ناحية، ولا تمنحه مشروعيته وبنائه المتشابك والعميق مجتمعيا من ناحية أخرى إلا في إطار هيمنته وإبراز جوانبه المخيفة. ففي بعد التكوين لا نعثر على شيئ سوى الحديث عن التعليم الديني والتهويل من شأنه مجتمعيا، وفي مواجهة الخطب المنبرية لا نجد سوى عدد محدود من الخطب وتكريس هائل لكل ما هو سلبي. وفي بعد التلقي كان من الممكن نسج وحياكة تممدات الخطاب الديني في الحياة اليومية، وإبراز علاقاته المتشابكة في الممارسات المختلفة للأفراد الإيجابية والسلبية منها، وهو أمر لم نجد له من شواهد سوى المؤشرات المثالية أيضا.

خامسا: الأطر النظرية الغربية والفهم الديني الخاص
رغم ما قدمه الكتاب من عرض وصفي بديع للنظريات الغربية التي تناولت الدين بداية من إيميل دروكايم وانتهاء ببيير بورديو، فإن الأمر اللافت للنظر هنا أنه تم عرض هذه النظريات بدون الإشارة إلى اختلاف الوضع العربي الإسلامي عن مثيله الغربي. فللدين في العالم العربي وضعية خاصة تخالف كافة مناطق العالم. وهو أمر أكده جراهام فولر في كتابه البديع" عالم بدون إسلام" حينما قرر بأن منطقة الشرق الأوسط هى منطقة الدين في العالم كله، وأن الدين له طابع خاص في هذه المنطقة. والحديث هنا ليس فقط عن الإسلام بل عن المسيحية واليهودية. إضافة إلى ذلك، فإن هذه التفسيرات النظرية خاصة بمجتمعات راسخة ومتحولة في آن، وليست مجتمعات غير مكتملة وغير ناجزة. كما أنها أطر نظرية متعارضة فيما بينها تم الزج بها لعمل أسس نظرية لشرح وفهم وتفسير بنى متغيرة أخرى قياسا لدرجة تقدمها من ناحية وقياسا لفهمها للدين وممارسته له من ناحية أخرى. ولعل صعوبة تطبيق هذه الأسس على واقعنا المجتمعي، هو ما دفع المؤلف لاتخاذ فكرة المنحي الشمولي في تحليل الخطاب الديني مرفأ له. وهى بالعموم كلمة مخادعة تساعدنا على الإنفلات من الصعوبات الجمة للواقع الاجتماعي والسياسي الذي نحياه، كما أنها تؤدي في النهاية إلى التركيز على نقاط مستهدفة معينة وغض الطرف عن كلية البنية.

سادسا: الدفع بالخطاب الديني للاصطدام السياسي
تتميز الشخصية المصرية بالدفع بالآخرين لبطولات قد يرغبوا في تحقيقها ولكنهم ينأون بأنفسهم عنها، وهو أمر دائم التكرار في الكثيرين الذين قد يقولون لشخص: رأيك عجبنا!! كنت جريئا!! هاجمته بضراوة!! ولعل النص الراهن يمثل امتداد للشخصية المصرية وتعبيرا عنها في هذا الجانب. ففي الكثير من مواضعه العديد من النصائح الموجهة للخطاب الديني تدفعه دفعا للهاوية التي لا يقدر عليها المثقفون من شرائح اجتماعية أخرى. مثال على ذلك:
كما يظهر التعدد في الفتاوى التي تعالج موضوعات تفصيلية بدءا من الطريقة التي نغتسل بها أو نرتدي بها ملابسنا حتى الطريقة التي نستثمر بها أموالنا، مع السكوت عن موضوعات كبرى لا تصدر فيها فتاوى قط مثل الظلم أو القهر السياسي وعدم التمسك بالعدل ص 103

لا يمكن التقليل بأى حال من الأحوال من أهمية الكتاب وموضوعه البالغ الأهمية، وربما يؤسس هذا الكتاب للعديد من الكتابات الأخرى. فهو شأن البدايات محاط بالكثير من القضايا الشائكة التي تستدعي الدأب وراء تحليلها وإبرازها شريطة أن تتحرر من سطوة الأفكار المسبقة الغائمة، ومن سطوة أشكال الهيمنة الغير ظاهرة والمؤثرة في الوقت نفسه. ولعلي هنا أجدني أشير إلى كتاب "عالم بدون إسلام، ماذا لو" لجراهام فولر الذي يتناول فيه العالم متصورا وضعه بدون إسلام، ليؤكد على أن الإسلام لم يكن هو فقط البادئ بالإرهاب وأن العالم كان سوف يشهد الإرهاب والفظائع الدموية سواء كان الإسلام حاضرا أو غير حاضر، كما أنه أشاد في الوقت نفسه بالطاقة الهائلة الروحية للإسلام وماقدمه للعالم. يثير كتاب فولر مسألة بالغة الأهمية يمكن طرحها في التساؤل التالي: لماذا يبدو الكتاب الغربيون موضوعيون وأكثر دقة وإلماما في رصد وتحليل واقعنا؟ هل يعود ذلك إلى اختلاف السياقات الحضارية فيما بيننا؟ أم أن بعدهم عن واقعنا ورؤيتهم له من الخارج بدون الإنخراط في أيديولوجياته، ونأيهم بأنفسهم عن صراعاته، وعن مكرمايته، هو الذي يمنحهم صدق البصيرة وعمق الرؤية؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد