الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحسان عبد القدوس من وحي ألبرتو مورافيا

ياسمين عزيز عزت

2017 / 10 / 18
الادب والفن



لست ناقدة أدبية، وهذا المقال ماهو إلا قراءة هاوية لأدب الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وقد حفزني لكتابة هذه السطور قراءتي لمجموعة قصصية لألبرتو مورافيا ترجمتها باقتدار نهاد محرم، وقدمتها للقاريء مكتبة الأسرة، هذا المشروع الذي يدين له جيلي وأجيال ستأتي بفضل لا يمكن سبر مداه. لقد لفت نظري منذ الوهلة الأولي وجود مجموعة من السمات، وكذلك طابع وجو عام مشترك في أعمال الأديبين الكبيرين، فمن البداية يلفت نظرك صوت الراوية المؤنث، وهي ليست مجرد إنسان يحمل تاء التأنيث، لكنها امرأة بوضوح، وبشكل مميز، تخاطبك بما يفتعل داخلها من إحساسات تقتصر علي جنسها فقط في كثير من الأحيان، وهو ما أثار الدهشة عند كل من قرأ إحسان ولاحظ وصفه لكل دقائق الأمور الشخصية لجنسنا المؤنث، فقد تعرفت من كتاباته مثلا علي أسماء بعض أدوات الزينة والملابس التي استخدمتها نساء الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية في الخمسينيات باللغة الفرنسية، كما تعرض كل منهما، للمشكلات الصغيرة التي قد لا يتصور الرجال أنها تشغل بال نساء تميزن بالاستقلالية والذكاء، مثل قلق امرأة مثلا من عدم كونها جميلة بشكل كاف بسبب بروز سنتها الأمامية، أو اصفرار لون بشرتها بعض الشيء، وكلاهما أظهر تفهما لتلك الأمور، وربما تفوق إحسان في هذا الصدد (تفوق التلميذ علي أستاذه ؟) وقربه هذا من القارئات، وبسط له أرضية ولج بها بثقة إلي مجاهل أكثر وعورة في النفس البشرية الأنثي.
في تصوري أنه لم يكن من المستقبح بالنسبة لجيل إحسان عبد القدوس أن يتلمس طريقه علي هدي أدباء عالميين كمورافيا، وإن كان هذا لم يمنع شعورًا بسيطا يشبه الإحباط انتابني عند قراءة هذه المجموعة بالذات، فقد قرأت لمورافيا أعمالا روائية طويلة قبل ذلك، ولكن لم يتجل فيها تأثر إحسان به كما ظهر في القصص القصيرة، حيث أبرزت الروايات حيوات نساء أوربيات تختلف كثيرا عن حياة المرأة المصرية التي تعرض لها إحسان عبد القدوس في رواياته، حتي وإن التقت في بعض مظاهرها إلا أنها لا تظهر هذا التشابه الكبير الذي أبدته القصص القصيرة، فمورافيا تعرض فيها لنموذج الفتاة المنتمية للطبقة البرجوازية التي تعاني من مشكلات العصر، وتتمرد أيضا علي كل تقاليد تلك الطبقة، وتحتفي بالفكر الوجودي، والفكر اليساري، وتضج بروح تقدمية في العموم.
لقد كان إحسان ثائرا علي كل ماهو رجعي بالذات في الخمسينيات وبعض الستينيات، وهي الحقبة التي أفضلها شخصيا في أعماله، وكانت بطلاته تنتمين في الغالب للحضر وللطبقات الأرستقراطية والبرجوازية أو الوسطي، فإحسان شاء أم أبي برجوازي النشأة، كما أنه بحكم مهنته ومهنة والديه عايش الطبقة الأرستقراطية، وعاش حياتها وأحبها، وهو في تمرده علي رجعيتها لا يلصق هذه الرجعية بها كطبقة، فهو مدرك تماما لطبيعة مجتمعه التي تتفوق فيها الطبقات الدنيا في الرجعية، بالذات فيما يتعلق بقضايا المرأة التي كانت أهم ما ناقشه، علي الطبقات الأعلي، ولم يكن مطلوبا منه أن يتصنع عدم الإنتماء إلي طبقته أو يتقمص دورا غير دوره في الحياة . كان إحسان متطرفا في تقدميته وإيمانه بالحرية، حرية المرأة والإنسان والمجتمع في بداية حياته، وهو تطرف حميد في رأيي، وكان خير من مثل روح الثورة المصرية ليس بوصفها حدثًا سياسيًا وتاريخيًا فقط، لكن بما حملته من مباديء اجتماعية وفكرية، وسياسات تنويرية تقدمية، ودعوة للمساواة بين البشر، أيا كانت أصولهم وانتماءاتهم الاجتماعية، وأيا كان الجنس الذي ينتمون إليه، فقد دعت الثورة الجميع للمساهمة في بناء المجتمع الجديد رجلا كان أو امرأة، غنيا أو فقيرا، حضريا أو من الريف، وكان إحسان معبرا عن هذه الروح بما قام به في أعماله من تحليل للموروث المجتمعي الجامد، والدوجما المعروفة بالعادات والتقاليد، ودعوته لإخضاع كل هذه الأمور للنقاش والنقد .
لقد كان جمال عبد الناصر بالنسبة لبطل ملحمته (لا تطفيء الشمس)، وهي من أضخم أعماله وأشهرها، بمثابة الروح المحيية، والنور الملهم الذي أخذ بيده نحو الغد، فكان بكلماته ومواقفه باعثا للحرارة التي افتقدها حوله وبداخله، في مجتمع يرسف في أغلال الرجعية، فنداه ناصر بكل ما يمثله لهذا الجيل، حتي يلملم ما تبعثر منه وينهض، كما لملمت الأمة ما تناثر منها ونهضت في حرب 1956 ضد العدوان الثلاثي، فهب بطل الرواية الشاب مستعينا بهذه الروح، مستعيدا حبه للحياة، متصالحا مع نفسه وأخطائه وأخطاء الغير، مدافعا مع غيره من المصريين عن حياتهم وحلمهم وشبابهم. كان إحسان والثورة والشباب والحرية والحب عقد لم ينفرط في تلك الفترة، ونلمح احتفاءه بالروح الاشتراكية في قصصه القصيرة أيضا التي جمعت بين أدب الرحلات والقصة، ففي إحداها يلتقي بسيدة كوبية بدينة صاحبة مطعم، كانت في البداية ساخطة علي سياسات كاسترو التقشفية، ثم مباركة متفائلة ضاجة بالأمل في التغيير مع فرحتها بزيادة عدد البيض المقرر لها كحصة يومية، ولسان حالها يقول بأنه لا بأس من تحمل بعض الصعاب في البداية، نحن كلنا شباب، وأمتنا شباب وسويا سننتصر، وسنرى النور يزداد تألقا يوما بعد يوم. ولم يخف إحسان فرحته بها ومعها، كانت قصصه تلك مليئة بالقوة والحماسة والجنون والصبا، كما لو كانت الاشتراكية في تلك الآونة عروسا تقيم فرحها في كل بقعة من بقاع العالم الناهض، بينما نجدها عند مورافيا حلما ورغبة في إصلاح المجتمع الفاسد المتمحور فيه كل فرد من أفراده حول ذاته واحتياجاته المادية.
تطرق إحسان في عدد من رواياته وقصصه لما يعرف بالأدب النفسي، ومن الواضح هنا أيضا تأثره بمورافيا الذي روي في إحدي قصصه القصيرة عن الفتاة التي أصيبت بانفصام في الشخصية بسبب خضوع والدتها للقهر الذي اعتاد زوجها "والد الفتاة" أن يخضعها به، وإن كان القهر في رواية إحسان الشبيهة "بئر الحرمان" هو القهر أو الكبت الجنسي، فهو عند مورافيا قهرا نفسيا وعاطفيا، ومورافيا متألم، كما نري في هذه القصة وغيرها، من خضوع المرأة للرجل وللدور الذي أعده لها في الحياة و كبلها به، بصورة تبدد ملامحها الشخصية، و إيطاليا في تلك الآونة، الجنوب بالذات، كانت تشترك في بعض ملامح ثقافة حوض البحر المتوسط معنا، كتفوق الرجل وسيادته، وكذلك بعض مظاهر ما يعرف بثقافة العار، وحتي الآن عندما تتحدث مع بعض كبار السن من جزيرة صقلية مثلا، قد تندهش من أن أفكار كهذه مازالت مقيمة في عقلية أوربية، يختلف الأمر بالنسبة للأجيال الأحدث بالطبع. نجد أيضا في إحدي رواياته النفسية الأخري نموذج الفتاة التي ترتكب أمورا رهيبة أثناء نومها نتيجة عقدة باطنية، وهو ما نجده عند مورافيا أيضا، و إن كان في توليفة مختلفة، وكذلك نجد عند كليهما نموذج الشابة اللاهية العابثة التي يحاول الشاب المثقف إخضاعها عن طريق العمل علي تهذيب وإصلاح عقلها ! "النظارة السوداء"، ونموذج الفتاة التي باعتها والدتها لامرأة غنية لتتمكن من الإنفاق علي باقي الأبناء، ومضيفة الطيران التي تحرم علي نفسها الزواج لما يتطلبه من حياة مستقرة لا تتيحها مهنتها .ولا يمس هذا كثيرا في رأيي عبقرية إحسان، بنفس الطريقة التي لم تقلل بها "إقتباسات" محمد عبد الوهاب من الموسيقي العالمية من مكانته، وإن كان هو النموذج الأكثر شهرة بين مبدعينا، إلا أن هذا لا يمنع أن الكثيرين منهم لم يتوانوا عن استلهام منتجات الغرب، وتطويعها للذوق الشرقي. لقد فوجئت عند قراءتي قصيدة لجاك بريفير الفرنسي أنها تصور بالضبط نفس الموقف الذي تغني به نزار في قصيدته المشهورة "مع جريدة": الفتاة التي تراقب رجلا في المقهي، وتحادثه في سريرتها وتحزن لرحيله، كان الفن والفكر الغربيان بمثابة العصا السحرية التي مست عقول وقلوب مبدعينا المترعة بالموهبة، فأفاقتها من سباتها، لتنهل هذه العقول من نهر الإبداع العالمي، ثم تنطلق تعبر عن نفسها؛ برداء غربي تارة و تارة أخري بمصرية صافية (أو شرقية في المجال الأعم) تشهد عليها أعمال عديدة في منتهي الأصالة.
من السمات المشتركة أيضا بين إحسان ومورافيا أن الشخصية المحورية تتبني، بوعي أو لا وعي، فكرة غريبة، قد تكون تافهة للغاية، مثلا، أن القطط ماهي إلا أرواح شيوخ راحلة، كما في إحدى قصص إحسان، أو أن الجزار يسرق كل يوم بعض القروش في ثمن كيلو اللحم، أو كما كانت الرغبة في الشهرة عند إحدى أبطال مورافيا هي السبب الوحيد الذي دفعه للقتل أو تغير (الأماكن) و تبدل فصول العام، الذي جعل بطلة مورافيا في قصة أخرى من قصصه تتحول من النقيض للنقيض، و يبرز الكاتب هذه القضية التي ماهي إلا تفصيلة حياتية بسيطة إذا نظرنا إليها بصورة عقلية مجردة، كمحرك أساسي لسلوك الشخصية، تتمحور حياتها بل وموتها حوله، في صورة قد تكون فيها بعض المبالغة .وفي قصص إحسان كثيرا ما نجد عقدة القصة، وأحيانا حلها يأتي علي أهون سبب، ففي مجموعته "تائه بين الحلال والحرام"، جعل إحسان عقدة "شرب الخمر" عند بطل إحدي قصص المجموعة تحل باكتشافه إصابته بمرض في المعدة جعله يأنف من شرب الخمر، متصورا أنه كرهها لحرمانيتها في الإسلام، وتبدلت حياته كلها بسبب هذا الاعتقاد، وكانت معالجة إحسان لهذه القضية، أي الأسباب الذاتية الباطنية الخفية للشخص التي تتخذ قناعا دينيا أو أيديولوجيا ستارا لها، في منتهي البساطة والعبقرية في آن واحد.
الجو، مسرح الأحداث، والأسلوب، والحبكة، والجو العام تؤكد تأثر إحسان في بعض قصصه القصيرة بالذات بقصص مورافيا القصيرة، وكلاهما "حكاء" من الطراز الأول، .يتميز الاثنان باللغة البسيطة البعيدة في نفس الوقت عن أي شبهة ركاكة أو استسهال، وقراءة أعمال أي منهما أمر لا يتطلب منك أي جهد، و لا يكلف ذهنك أي عناء، فتشعر أن إحسان مثلا لم يرفع القلم لحظة ليتكلف كتابة أي جملة بعد تفكير وتنميق، ولكنه ترك الحكاية تتدفق متجانسة مشوقة متكاملة، سارية كالنغم من بدايتها للنهاية، ولذلك لن تتوقف أنت أيضا لتهضم كلمة عسيرة الفهم أو دخيلة أو ركيكة، فليس في قاموسه مثل هذه أو تلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني