الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بهاءالله - ميثاقُ اللهِ مَعَ بَني البَشَر( 13 والأخيرة)

راندا شوقى الحمامصى

2017 / 10 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


خرج بهاء الله من الإقامة الجبريّة أخيراً في شهر حزيران (يونية) 1877 وغادر مدينة السّجن عكّا يصحبه أفراد عائلته وتوجّه إلى "المزرعة" وهي ضاحية على بعد أميال قليلة شمال المدينة. وكما تنبّأ بهاء الله فقد سقط السّلطان عبد العزيز ولقي حتفه في انقلاب في القصر السّلطانيّ، وبدأت تكتسح العالم أرياح التّغييرات السّياسيّة لتغزو حتى التّخوم المغلقة للنّظام الإمبراطوريّ العثمانيّ. وبعد أن أمضى بهاء الله فترة قصيرة امتدّت لمدّة عامين في "المزرعة" انتقل إلى "البهجة" وهو قصر فسيح تحيط به الحدائق ويقع أيضاً في ضواحي مدينة عكّا. وكان عبد البهاء قد استأجره لوالده الجليل وأفراد عائلته الواسعة . وهكذا قضى بهاء الله سنوات حياته الاثنتي عشرة الباقية في كتابه آثاره في مجالات واسعة من القضايا الرّوحيّة والاجتماعيّة، وفي استقبال أفواج البهائيّين الزّوّار الذين سعوا للقائه قادمين من بلاد فارس ومن غيرها من البلدان متجشّمين في ذلك مصاعب جمّة.
وبدأت تبرز إلى الوجود في أنحاء الشّرقين الأدنى والأوسط نواةُ جامعة يعيش ضمن نطاقها أولئك الذين آمنوا برسالته. فأنزل بهاء الله هدايةً لهم نظاماً بيّنه أحكاماً ومؤسّساتٍ هدفه التّنفيذ العمليّ للمبادئ والتّعاليم التي جاءت بها آثاره. وخُوّلت السّلطة التّنفيذيّة إلى مجالس تنتخب ديمقراطيّاً انتخاباً يَشترك فيه كل فردٍ من أفراد الجامعة. كما اتّخذ كافّة الاحتياطات لمنع أيّ احتمال قد يسمح بقيام صفوة كهنوتيّة تستأثر بالسّلطة، بالإضافة إلى سنّ قواعد وقوانين تنظّم المشورة وتساعد على اتّخاذ القرارات الجماعيّة.

واحتلّ قلبَ هذا النّظام ما أسماه بهاء الله "بالميثاق الجديد" بين الله والبشر. فالملامح المميّزة لمرحلة بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد تتمثّل في اشتراك الجنس البشريّ بأسره، ولأوّل مرّة في التّاريخ، اشتراكاً واعياً ـ وإنْ كان ضئيلاًـ في الشّعور بمعاني وحدته واتّحاده وأنّ الأرض وطن واحد للجميع. وهكذا تمهّد هذه اليقظة السّبيل لخلق صلة جديدة بين الله والبشر. وقد قال بهاء الله إنّه إذا ما آمَنَتْ شعوبُ العالَم بالسّلطة الرّوحيّة الكامنة في الهداية النّابعة من المظهر الإلهيّ لهذا العصر، فستجد في أنفسها القدرة المعنويّة على العمل والتّنفيذ، وهو الأمر الذي لا تستطيع الجهود الإنسانيّة وحدها بعثه في النّفوس. ونتيجة لهذه الصّلة الجديدة يبعث الله "خَلْقاً جديداً" ويُشرَع في العمل على تشييد حضارةٍ تحتضن الكرة الأرضيّة بأسرها. أمّا رسالة الجامعة البهائيّة فليست إلاّ شاهدةً على فعاليّة هذا الميثاق ونفوذه في شفاء العلل والأمراض التي تزرع الفرقة والاختلاف بين بني الإنسان.
صعد بهاء الله في "البهجة" في اليوم التّاسع والعشرين من أيّار (مايو) عام 1892 وهو في سنّ الخامسة والسّبعين. وكان الأمر الذي ائتُمن عليه قبل أربعين عاماً في غياهب ذلك القعر المظلم في طهران يَهمُّ، عندما حدث صعوده، بالانطلاق حرّاً فيتخطّى الحدود التي قيّدته في البلاد الإسلاميّة التي شهدت تكوّنه ونموّه، وتترسّخ أركانه عبر القارّة الأمريكيّة في بادئ الأمر، ثمّ ينتقل إلى أوروبا، ومن هناك ينتشر في كلّ أنحاء العالم. وبهذا الإنجاز يُصبح هذا الأمر في ذاته محقِّقاً للوعد الذي جاء به الميثاق الجديد بين الله والبشر، ومبرِّراً لقيامه. والدّين البهائيّ هو الوحيد من بين الأديان العالميّة المستقلّة كلّها الذي تمكّن هو وجَامعة المؤمنين من أتباعه اجتياز السّنوات المائة الأولى الدّقيقة من حياته محافظاً على وحدته دون أن تُمَسّ، وبقي سليماً معافى من آفة الفرقة والانقسام. وتبرهن لنا الاختبارات التي مرّ بها هذا الدّين وجامعته بصورة قاطعة على صدق التّأكيدات التي صدرت عن بهاء الله بأنَّ أفراد الجنس البشريّ على اختلاف أنواعهم وتعدّدهم باستطاعتهم أن يتعلّموا كيف يعيشون سويّاً ويعملون جنباً إلى جنب كشعب واحد في وطنٍ عالميّ مشترك.

وقبل صعوده بعامين، استقبل بهاء الله في "البهجة" أحد الزّوّار الغربيّين القلائل ممّن تشرّفوا بلقائه، وهو الوحيد الذي ترك لنا سجلاًّ مكتوباً عن تلك الخبرة الشّخصيّة والمشاعر الذّاتيّة التي كان يثيرها لقاء بهاء الله. كان اسم ذلك الزّائر ادوارد غرانفيل براون، وهو شابٌّ من جامعة كمبريدج، كان نجمه كمستشرق آخذاً بالصّعود، وقد اهتمّ أصلاً بالتّاريخ المثير للباب ومجموعة أتباعه الأبطال. وفيما يلي ما سجَّله براون تخليداً لذكرى تشرّفه بلقاء بهاء الله فكتب يقول:

"وإنّي وإنْ كنتُ متصوِّراً تصوُّراً مُبْهماً المكان الذي أنا ذاهبٌ إليه ومن أنا قَادِمٌ لرؤيته، إذ لم تُعْطَ لي إيماءة واضحة حول ذلك، إلاّ أنّه قد مرّت ثانية أو ثانيتان من الزّمن، وأخذتني الرّهبة والذّهول، قبل أن أعرف معرفة تامّة بوجود من في الغرفة. وحانت منّي التفاتة إلى الرّكن، وحيث تلتقي الأريكة بالجدار، كان يجلس هيكل عظيم تعلوه المهابة والوقار... إنّ الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النّافذة التي تقرأ روح الشّخص. وتعلو جبينه الوضّاح العريض القدرة والجلال... فلم أكُ إذ ذاك في حاجة للسّؤال عن الشّخص الذي امتثلت في حضوره ووجدت نفسي منحنياً أمام مَنْ هو محطّ الولاء والمحبّة التي يَحسدُهُ عليها الملوك، ويتحسّر لنوالها عبثاً الأباطرة. وسمعت صوتاً هادئاً جليلاً يأمرني بالجلوس ثمّ استمرّ يقول: ’الحَمْدُ للهِ إِذْ وَصَلْتَ... جِئْتَ لِتَرَى مَسْجونَاً وَمَنْفِيَّاً... نَحْنُ لا نُريدُ إِلاّ إِصْلاحَ العَالَمِ وَسَعَادَةَ الأُمَمِ، وهُمْ، مَعَ ذلِكَ، يَعْتَبِرونَنا مُثيرينَ لِلفِتْنَةِ وَالعِصْيانِ، وَمُسْتَحِقّينَ لِلْحَبْسِ وَالنَّفْي... فأَيُّ ضَرَرٍ في أَنْ يَتَّحِدَ العَالَمُ عَلى دينٍ واحدٍ وَأنْ يَكونَ الجَميعُ إخْوانَاً، وَأنْ تَسْتَحْكِمَ رَوابِطُ المَحَبَّةِ والاتِّحادِ بَيْنَ بَني البَشَرِ، وَأنْ تزولَ الاخْتلافاتُ الدِّينيَّةُ وَتُمْحى الاخْتِلافاتُ العِرْقيَّةُ؟... وَلا بُدَّ مِنْ حُصولِ هذا كُلِّهِ، فَسَتنْقَضي هذِهِ الحُروبُ المُدَمِّرَةُ وَالمُشاحَناتُ العَقيمَةُ وَسَيَأتي الصُّلْحُ الأعْظَمُ.‘" (مترجم عن الإنجليزية)

المراجع

106 رغم أنّ أمر النّفي والإبعاد إلى مدينة السّجن عكّا الذي أصدره السّلطان عبدالعزيز لم يتمّ إلغاؤه أبداً، فإنّ السّلطات المسؤولة اعتبرته أمراً ملغيّاً باطل المفعول. وبناءً عليه أشار هؤلاء بأنّ لبهاء الله الحقّ في إيجاد مكانٍ للسّكنى خارج أسوار مدينة السّجن، إذا شاء ذلك.


107 كان القصر قد بناه تاجر من العرب المسيحيّين في عكّا، وتركه خالياً عندما تفشّى الطّاعون في المنطقة. وفي بادئ الأمر استُخدم القصر لقاء إيجار مدفوع. وبعد صعود بهاء الله قامت الجامعة البهائيّة بشراء البناء. أمّا مثوى بهاء الله فضريح تمّ بناؤه في الحدائق المحيطة "بالبهجة"، وقد أصبح اليوم قبلة المؤمنين من الزّوار يفدونه من كل حدب وصوب في العالم البهائيّ.

108 للاطّلاع على ملخّص لمجموعة هذه التّعاليم راجع كتابي شوقي أفندي: الأوّل المذكور سابقاً بعنوان The World Order of Bahá---’u’llá---h، ص143-157 والثّاني Shoghi Effendi,
Principles of the Bahá---’í--- Administration (London, Bahá---’í--- Publishing Trust, 1973).
أمّا الوثيقة الرّئيسيّة في مجموعة تعاليم بهاء الله فهو "الكتاب الأقدس" الذي أنزله بهاء الله كلّه باللّغة العربيّة. وسوف ينشر هذا الكتاب مع تعليق مفصّل من الحواشي في عام 1992 بمناسبة الذّكرى المئوية لصعود بهاء الله.

109 الأصل الفارسيّ ورد في "ظهور عدل إلهي"، ص36، وفيما يلي نصّه: "بعث خلق بديع ونفخ روح جديد".

110 مقتبس من كتاب براون بالإنجليزية Edward G. Brown, A Traveller’s Narrative
(New York, Bahá---’í--- Publishing Trust Committee, 1930), p.XXXIX-XI
الصّفحات الأولى 39-40، التّرجمة مأخوذة من كتاب "بهاء الله والعصر الجديد"، ص44-45.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود أمريكا: نحن مرعوبون من إدارة بايدن في دعم إسرائيل


.. مجلس الشؤون الإسلامية في أمريكا: الرد القاسي على الاحتجاج ال




.. نحو 1400 مستوطن يقتحمون المسجد الأقصى ويقومون بجولات في أروق


.. تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون




.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع