الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة الوطن بين روايتي موسم الهجرة إلى الشمال وكش وطن , مقالة موازنة

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2017 / 10 / 20
الادب والفن


كان الوطن وما زال موضوعا محببا للأدباء عامة والروائيين خاصة لما فيه من ثراء درامي وتنوع موضوعاتي لهذا قد لا نجد رواية تخلو من معالجة هذه الموضوعة أو على الأقل المرور بها أو الإشارة لها , فالوطن يمثل البعد المكاني للعمل الروائي مثلما يمثل الامتداد للإرهاصات النفسية للكاتب وأبطاله على السواء , وفي الوقت ذاته قد يعبر الكاتب من خلال هذه الموضوعة عن انتقاده للأوضاع القائمة بغية تصحيحها .
تُعدُّ رواية موسم الهجرة إلى الشمال , للكاتب السوداني الطيب صالح ( ت2013 ) من أبرز الروايات العربية المعاصرة التي حازت اعجاب النقاد والقراء على السواء لطريقة معالجتها لإحدى القضايا الوطنية وقد وصلت شهرتها إلى آفاق بعيدة حتى كتبت فيها رسائل واطاريح جامعية عديدة .
إن أهم ما يلفت القارئ في هذه الرواية الدقة في رسم شخصيات الرواية والبراعة في الفصل بين أنماط تفكيرها حيث تباينت تلك الشخصيات في طرق التفكير وعمق الوعي مثلما تباينت أيضا في شعبيتها وعالميتها وفي حركيتها ونموها الدرامي وثباتها لكن التباين الأهم كان في الفصل الحاسم بين طريقتي التفكير الواقعية والمثالية التي جسدهما الكاتب في بطلي الرواية مصطفى سعيد والراوي .
فأهم شخصيات الرواية شخصية الراوي الذي يروي عن نفسه وعن مصطفى , ومصطفى هذا يعد الشخصية المحورية الأولى في الرواية , ويأتي بعد شخص الراوي في الأهمية فهو يتكلم عن نفسه كثيرا ، وهناك شخصيات منها : ود الريس , وحسنة بنت محمود , وبنت مجذوب التي اشتركت في صناعة أحداث الرواية جميعا .
فـالراوي الذي لا يفصح عن اسمه يحكي عن عودته إلى أهله وبلده بعد غيبة في لندن دامت سبع سنوات حصل فيها على شهادة الدكتوراه ثم يلتقي بمصطفى سعيد الذي يعدَّه أهل القرية غريبا عنهم ، فيثير فضوله , ويتقرب إليه بغية أن يكتشف شخصيته وسر صمته الطويل مما يجعله يستمع إليه كثيرا ويعجب بثقافته ثم تنعقد بينهما صداقة أخذت تتطور شيئا فشيئا إلى درجة أن يوصي مصطفى بأوراقه السرَّية بعد موته للراوي ، ويأتمنه على زوجته وأولاده .
فنحن هنا أمام شخصيتين : مصطفى الشخص الغامض والراوي الذي يحدثنا عن مصطفى لكن بعد موت مصطفى يصبح الراوي هو صوت مصطفى من خلال قراءة الأوراق السرية التي تركها ، بحيث يصبح المتكلم مصطفى نفسه من خلال أوراقه التي تحكي ولادته في السودان ، وسفره إلى إنكلترا للدراسة حتى يصبح استاذا معروفا هناك , وكاتبا في الاقتصاد السياسي لكن الأهم من كل ذلك أن مصطفى أصبح زير نساء هناك يميل إلى النزعة السادية التي تدفعه إلى تعذيب معشوقاته وقتلهن بعد الاستمتاع بأجسادهن فيحاكم بالسجن وبعد خروجه من السجن وعودته إلى السودان يتزوج حسنة بنت محمود ويلتقي الراوي الذي هو الآخر كان قد درس في بريطانيا وعاد منها مؤخرا.
ومن خلال شخصيتي الروي ومصطفى سعيد وإدارتهما لدفة أحداث الرواية يجد القارئ نمطين من التفكير متمايزين يتمثل النمط الأول بطبيعة تفكير مصطفى سعيد الواقعي لذلك طالما نجده يتحدث عن قضايا الوطن والعلم والناس بطريقة مستقبلية متفائلة , أما النمط الآخر فيتمثل بطبيعة تفكير الراوي الذي يتسم بالمثالية الماضوية فلطالما تغني بقيم الماضي ومآثر أجداده وبطولات أبنائه لذلك نجده يكثر من مفردات مثل : أبي ، جدي ، بلدي ، دارنا , وطننا .
فمصطفى بتفكيره يأمل في وطن لا يقل شأنا عن بلدان الغرب الذي عاش فيها , وهو أيضا يحمل هموم بلده السودان ومشاكله وانسحاقه بين جنبيه لا سيما بعد أن اجتاحته القوات البريطانية , ومن هنا نستطيع أن نقول أن عقل مصطفى كان عقلا تحليليا وتفكره كان من النمط المقارن , فلطالما أخضع الحياة في السودان والجنوب عامة وأوربا للمقايسة , هذه المقايسة التي كشفت له بعد الهوة الحضارية بين الشمال والجنوب من جهة وجعلته يستشعر المسؤولية من جهة أخرى , لكن تحمله للمسؤولية كان عبارة عن التفكير بالانتقام من الشمال , فقد جعل نفسه ممثلا لبلدان الجنوب كلها فلا بد من طريقة للاقتصاص من الشمال المتطور المستبد .
وبذلك يمكن تفسير فعل مصطفى في تمثيل الوطن في المنفى الأوربي بأنه تعبير عن أيديولوجيا المستضعفين حين يجدون الفرصة سانحة وبما أن مصطفى تثقف بثقافة عالية استطاع من خلالها كشف ألاعيب الاستعمار فليس بإمكانه أن يحمل بندقية ليحارب هناك وهو صاحب الشأن العلمي المميز لذلك فقد اختار سلاحي الجنس والثقافة ليحارب بهما العدو في عقر داره وقد غاب عن باله أنه من غير الممكن أن يستعمل هذين السلاحين لولا الحرية التي منحها الغرب له لكن العداء الدفين وغريزة الانتقام تحكمت في نوازع مصطفى تماما .
فقد أخذ ثأره بحسب ظنه من النساء اللواتي تمتع معهن بأن قتلهن جميعا بل لقد وصل به حب الانتقام إلى تعذيب بعضهن رغم حبهن له بوصفه فحل أفريقي , ومارس الانتقام ثانية في قاعة المحكمة حينما قام بالتنظير لما فعله مع أولئك النسوة معلنا بأنه هزم الغرب في عقر داره .
وبعد عودته لم يتخل مصطفى عن أفكاره فقد ظل محافظا على أيدلوجيته الثورية ويستشعر المسؤولية حتى أنه عاش مع أهل قريته ليس بوصفه حاملا شهادة عليا وكاتبا معروفا بل كان يشاركهم حياتهم ويشرف على تنظيم أعمالهم ويساعدهم في تنمية المشاريع التي تصب في خدمة القرية بوصفه خبيرا اقتصاديا , وليس هذا فحسب بل تزوج من نساء القرية .
لكن نمط تفكير الراوي كان على الضد من ذلك فقد كان يمثل تفكير جيل ما بعد الاحتلال ومرحلة الاستقلال فلم يكن بهذه الوطنية والحماسة فهو فلم يعايش ما فعله المحتل ببلده ولم يقف على الأسباب الحقيقية لتخلف مجتمعه فمرحلة المقاومة انتهت ورفع العلم الوطني لذلك كان الراوي مستسلما للواقع مكتفيا بالتغني بالأمجاد والماضي رغم أنه يعيش في زمن كان فيه المجتمع السوداني متخلفا بحاجة إلى جهود جبارة من أجل بنائه .
واللافت أن مصطفى سعيد والراوي اللذين كانا يمثلان نمطين من التفكير المتباين درس كلاهما في الغرب ونهلا من أفكار الحضارة الغربية نفسها فما الذي دفع الكاتب أن يجعل مصطفى سعيد يتباين في طريقة تفكيره تماما عن زميله الراوي ؟ لماذا لم يكن التأثير الغربي واحدا , ولماذا لم يؤثر الواقع السوداني فيهما بالقدر نفسه ؟ أسئلة تظل خاضعة لقراءات مختلفة .
وفيما نجد الطيب صالح في مواسم الهجرة إلى الشمال يجعل من الغرب بيئة صالحة للعبث الأخلاقي وموضعا لأخذ الحيف والنصفة , ويجعل من وطنه السودان بيئة منكوبة متخلفة بسبب الغرب نجد الروائي العراقي شهيد شهيد ينحو منحى مغايرا فقد جمع الأمرين معا في وطن واحد وهو وطن الراوي لكنه جعل ما يحصل ببلده نتيجة لعدم الشعور بالمسؤولية بل لتنكر الوطن لنا , وهنا يتباين الكاتبان الصالح وشهيد في رؤيتهما للوطن فهو عند الأول لا حيلة له أما أبنائه , وعند الثاني فهو وطن طارد لأبنائه عاق بحقهم .
وقد استعمل الكاتبان لغة تجاوزت الممنوع فألفاظ الجنس ظاهرة واضحة في الروايتين وهو ما يشي بسيطرة النزعة الانتقادية المتمردة على الكاتبين فلطالما دفعت تصرفات السيئين وتفاهات الجهلاء وحماقات الصغار البعض منّا إلى التذمر من الوطن والشكوى من جحوده فقلب الوطن يتسع لزعل أبنائه وغضبهم بل ربما اتسع قلبه حتى لجحودهم إياه وتنكرهم له , فالوطن في هذه الوجهة مثل الدين فلطالما دفعت تصرفات الدخلاء على الدين بعض المخلصين إلى الإلحاد به , قد يكون ذلك تعبيرا عن حنق وشكوى لا محيص عنه بالنسبة للبعض إذ أين يلجأ المحروم والفقير ومن لا حول له إن استبد به الحاكم وعاث بمقدراته الجهلاء ؟ لكن ذلك في كل الأحوال يمثل تعبيرا عن موقف ذاتي لا يتعدى الشخص نفسه .
والأدب خير مصداق لما سبق قوله بوصفه شكوى مستمرة , ونقد لا يقف عن حد يسوق ذلك بلغة مسبوكة وأسلوب جمالي , فكثير من الأعمال الأدبية في حقيقتها عبارة عن غضب مستعر على الناس والسياسيين والمتنفذين وأصحاب الأطماع الهمجيين والمنحرفين والشاذين .
وراية كش وطن للروائي العراقي شهيد الحلفي أو شهيد شهيد تعد غضبة عارمة على سياسية عرجاء امتدت حوالي مئة عام من تاريخ العراق ومازالت مستمرة تتضاعف سلبياتها .
فالكاتب يواجهنا بجرأة غير معهودة في استعمال الألفاظ منذ الأسطر الأولى فالبطل قبل إعدامه كانت وصيته الأخيرة : (رجاءً لا ترفعوا النقاط الثلاث ) ... وما أن نعد العدة , ونهمّ بالدخول إلى عوالم الرواية حتى تأسرنا بتفاصيلها فمما انمازت به كش وطن أن الأحداث يأخذ بعضها برقاب بعض في انسياب وترو مسبوكة في لغة أقل ما يقال فيها أنها عذبة حتى أن القارئ لينتابه التردد إلى أي الامرين ينتبه ؛ ألهذه الجمل المسبوكة سبكا محكما أم لتلك الجرأة الصادمة التي تضحكنا أحيانا وتبكينا أحيانا أخرى وفي كلتا الحالين يظل قارئ كش وطن مأسورا لخديعة الفن الروائي الجميل .
كش وطن مدونة الانسحاق والتدهور الاخلاقي , وهي في الوقت حكاية رأس ــ وربما وطن ــ لعبت به الاقدار مثل بيدق مسكين فـ ( القوّادون يتناسلون .... ابتداء من أفلاطون وانتهاءً بــ (ابو نظمي) , كلهم هنا .. في رأسي .. هذا الرأس الذي تحوّل إلى متحف كبير للقوادة ... ) لكن هل كان الراوي بصدد تحديد هويته بهذا الوصف ؟ لا اعتقد فقد ظل في دوامة التيه وهو في عماية من التجاذبات التي لم تقف به عند حد معين (استغرقت في ذلك الغياب العقلي الذي يعود الفضل فيه لسلطان النوم , مرّت بي أطياف باهتة ليست ذات معنى أو دلالة , لم أتمكن من العثور على تصنيف خاص بها أهي من الاحلام أم من الكوابيس ؟ كنت فيها خليطاً غير متجانس من أجناس بشرية تقاذفتها الجهات الأربع , كائن أزرق بلون زرقة السماء , أطير تارة وأقع تارة أخرى لأرجع من جديد أُعيد المحاولة , أبحث عن نفسي وأنا اختفي بين النجوم وخلفي تحّلق كائنات وردية ... )
فالبحث عن الكينونة في متاهة الصراعات الدنيئة كثيرا ما آلت بالفرد إلى الانسحاق حتى ليبدو كأنه مسخ لا شكل له ( وجودي المنسوخ بالظلام يبحث عنك , يطلب منك أن تكون أنيسه في هذا الليل الموحش , أن كينونتي خاضعة لمونتاج التوقيتات , العالم بأسره يعترف بوجودي نهاراً ثم يُلقيني في سلة المحذوفات ليلاً ..)
إنه التيه إذا حتى الأماكن لم تعد هي نفسها حين تتنكر لروادها ( مررتُ بجميع الأماكن التي أحبها , المقاهي , المكتبات , دور السينما , مدن الألعاب , الحدائق العامة , دور المسنين , كان لدي طلب من تلك الأماكن ؛ أردت منها اغاثتي وتخليصي من قتامة المشهد ؛ طرقت على أبواب تلك الاماكن لكنها لم تفتح لي ؛ كان هنالك إخطبوط ضخم يلتف على معانيها المتمركزة في جوانحي ؛ سعيت الى تخليص تلك المعاني من ذلك الأخطبوط ولم أنجح في ذلك )..
وفي وسط الغربة المفروضة ما ذا بوسع المرء أن يملك ؟ ( أنا لا أملك من معجم الحياة شيئاً سوى مفردة الأنتظار , كابوسي لا توجد في قلبه ذرة رحمة وسجني لا يوسف فيه , فقدت شهيتي لكل شيء)
فلم تعد هناك قيمة لكل الأشياء , كل السلوكيات سواء , إنها اللاجدوى ( أنا لا أؤمن بالندم , ربما اؤمن بأشياء أخرى مقاربة له مثل الخيبة أو الخسارة او التلاشي او ما يقابلها من مفردات الانكسار ولكن الندم لا وجود له في قاموس حياتي ..) .
إنه لمن المضحك أن ننتمي لوطن يتنكر لنا ساسته دائما , يسحقنا كآلة عملاقة عمياء منذ زمن دونما رحمة , يقتلنا بخصومات لا شأن لنا بها بدم بارد , لكن هل هناك وطن حقا ؟ ما هو الوطن بل ( اين هو الوطن .. ؟ اُريد أن أراه , هل يمكنك أن تدلني عليه يا سيادة القاضي , أريد أن أستدعيه للشهادة في هذه المحاكمة , أطلب من محكمتكم الموقرة تدوين إفادته والاستماع الى أقواله , اطلب منكم ان تسألوه أولاً إن كان بإمكانه التعرّف علّي , وبعد ذلك اسألوه , هل سيكون شاهد إدانة أم شاهد دفاع , أنا أعلم إنه موجود هنا الآن , هو الافتراض المقيت الذي يتوسطنا , يجلس بين آمالنا وتهويماتنا وخساراتنا بروح اللامبالاة , إنه شاهد زور يا سيادة القاضي ..)
المصادر :
1ــ رواية موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح
2ــ رواية كش وطن لشهيد شهيد
2ــ تحليل الخطاب الادبي للدكتور محمد عزام
3ــ موسم الهجرة الى الشمال , دراسة في سحر السرد للدكتور علي حسين يوسف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة