الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاختراعات والعلاقات الاجتماعية (1 2)

سمير أمين

2017 / 10 / 21
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



ليس الهدف من هذا المقال القصير طرح مشروع نظرية حول العلاقات المتبادلة والمتشابكة بين كل وجه من أوجه الواقع المجتمعى الثلاثة المشار إليها فى العنوان. فمثل هذا المشروع يستوجب تشكيل فريق من الباحثين المتخصصين فى مجالات متنوعة تجمع خبراء فى العلوم والفنون التكنولوجية الخاصة بالاختراعات المدروسة وعلماء المجتمع.

بيد أن المعرفة فى المجالات التكنولوجية تصل لدارسى المجتمع عن طريق قراءات إرشادية فقط، وهى عادة سريعة قد تلهم تبعيات خاطئة. فسوف أكتفى هنا بإلقاء ملاحظات استهلالية حول هذه القضايا المستعصية ولا أكثر.

طابع ومقام الاختراعات

يجرى تصنيف الاختراعات تحت عنوانين: قد يتيح الاختراع تصورا وإنتاجا لشيء نوعى جديد كل الجدة مثل الآله البخارية والكهرباء أو السيارة وقد يتيح الاستناد على أسلوب إنتاج جديد لشيء قديم مثل أن يحل مصنع الغزل والنسيج محل الإنتاج الحرفي.

وبالتالى فإن ممارسة الاختراع قديمة قدم الانسانية. فهى تمثل ما يفرق البشر عن الحيوان. علما بأن الظروف المحيطة بانبعاث الاختراع وشروط تبنيه فى المجتمع هى عينها ظواهر مجتمعية تتحول ظروفها بالمكان والزمان. ولن تتناول الملاحظات التالية قضايا الاختراع بهذا المعنى المتسع، بل بيان ظروف بزوغه فى العصر الحديث للرأسمالية المعولمة فقط.

يروج الخطاب الجارى المهيمن فكرة مبسطة وخاطئة بكون الاختراع محرك التاريخ، وأنه حل محل مقاصد العناية الالهية، فيعمق نظرية أحادية الجانب للتاريخ تقوم على أسبقية التقدم التكنولوجي. لا أشارك هذه الرؤية؛ فليس الاختراع ناتج تشغيل ذكاء فرد عبقرى منفصل عن المجتمع، إنما هو ناتج عمل اجتماعي، وإن كان عملا فريدا فى بابه. وبالتالى فإن العلاقة بين انبعاث اختراع معين أتاحه تطور المعارف العلمية والكفاءات الفنية من جانب وإعادة تكوين العلاقات الاجتماعية السائدة فى المجتمع من الجانب الآخر هى علاقة محورية فى دراسة أمور الظاهرة.

لعل ما صار اختراعا عينيا ملموسا يكون متلائما مع تكريس العلاقات الاجتماعية السائدة. ففى هذه الحال يستفيد انتشاره من دعم وسائل المجتمع المدنى الذى يرحب به. وإذا كان تشغيل الاختراع يستدعى تغييرا معينا فى شكل عمل العلاقات الاجتماعية، فإن مرونتها تتيح إنجاز الملاءمة اللازمة بيسر. ولكن ثمة اختراعات يستدعى تشغيلها تغييرا جذريا فى العلاقات الاجتماعية، يتجاوز الإصلاح والتلاؤم البسيط. ففى هذه الحال نشهد عادة نفور المجتمع منه، الذى قد يذهب الى الحجر على إدخال الجديد؛ أو على الأقل تقلص شروط استخدامه لما يراه النظام مقبولاً ومفيدا.

فلا يعنى وجود اقتران بين بعض الأشكال الفنية للإنتاج من جانب وسيادة علاقات اجتماعية معينة من الجانب الآخر، لا يعنى أن الأولى هى سبب الثانية. على سبيل المثال: الاقتران بين المطحنة اليدوية ونظام العبودية، وبين المطحنة المائية والنظام الاقطاعي، وبين مطحنة تحركها آلة بخارية والرأسمالية.. لا يعنى أن أساليب الإنتاج الثلاثة المذكورة هى السبب فى اقامة العلاقات الاجتماعية المعنية. ويمكن التعبير عن مغزى هذا الاقتران بالجملة الآتية: إن هناك تلاؤما بين الأساليب الثلاثة وكل من النظم الاجتماعية الثلاثة هى الأخرى يضمن تكاملها ثنائيا، بحيث إنها تمثل وجهى نفس الواقع.

وتتكاثر الأمثلة فى هذا المجال التى توضح فعالية عمل الأدوات التى يعبئها المجتمع من أجل توجيه الاختراع لكى يفيد إعادة تكوين المجتمع.

وأضرب مثالا يكاد يكون كاريكاتوريا فى تطرفه: تخصص صناعة الأدوية أرصدة مالية مهولة (حيث تنتمى هذه الصناعة إلى قطاع الاحتكارات العملاقة) من أجل إنتاج مستحضرات ذات المنفعة الاجتماعية الهامشية (لترضية طلب الفئات المتيسرة على الرفاهية)، ويتم ذلك على حساب إنتاج الأدوية ذات المنفعة الحيوية بالنسبة إلى فئات فقيرة محرومة من القدرة الشرائية. وتقوم كوبا بالمثال المضاد، فالنظام هناك وجه البحث والاختراع لخدمة المصلحة الشعبية العامة، ومنح هذا القطاع وسائل فى ذروة الحداثة العلمية.

تفعل هذه العلاقة فعلها فى مجالات عديدة ولو بمناهج أقل بروزا. وأضرب مثالا بسيل الاختراعات الطارئة فى إنتاج التجهيزات الإلكترونية للاستخدام الجماهيري. هل تأتى الاختراعات المذكورة تلبية لطلب سابق؟ أم يتم تخيل الاختراعات من أجل خلق طلب ذى منفعة اجتماعية مشكوك فى صلاحيتها؟ فإذا كانت بعض هذه الاختراعات تبدو مفيدة (مثل موسوعات علمية وغيرها) فإن غالبية الاختراعات فى هذا المجال تسعى الى خلق أناس (خاصة فى صفوف الشباب) يفضلون التسلى بألعاب لا مغزى لها، عن بذل المجهود الفكرى والعمل الاجتماعي. وأتصور أن مجتمعا آخر يسعى إلى ترضية شغف الشباب وتدعيم قدرتهم الفكرية الناقدة، سوف يقوم بتوجيه البحث والاختراع توجيها مختلفاً.

وبصفة عامة أقول إن أصحاب السلطة سواء كانوا أصحاب القرار فى مجال المبادرة الاقتصادية أم اصحاب السلطة السياسية المرافقة يقومون بدور حاسم فى توجيه الاختراع بحيث يدعم تكريس العلاقات الاجتماعية التى تخدم مصالحهم. وبالمضاد أتخيل أن نظاما بديلا حقيقيا سوف يشجع البحث عن وسائل تُخترع من أجل إنعاش علاقات اجتماعية أخرى جديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من المعرفة الي الفائض الي الاستغلال
محمد البدري ( 2017 / 10 / 23 - 04:38 )
مثلت الالة في اي زمن (مثالها المطحنة في المقال) قوة وسلطة كما حدثنا العدد 259 من سلسلة عالم المعرفة. احتكرتها ربة البيت في شكلها البدائي (الرحي) من اجل الانجاز الاسري وامتلكها رب الارض وتشغيل بشر عليها في الزمن الاقطاعي ثم ماكينة عالية الكفاءة في زمن التكنولوجيا الحديثة يقوم بتشغيلها اقل عدد بسبب هيمنة التشغيل الالي للتكنلوجيا الحديثة كما في صناعة السيارات بالروبوتات. في زمن ماركس كانت غيرة الطبقات العاملة من الالة وماكينات الانتاج بسبب التفوق الادائي لها عليهم سببا في ان يحطموها حفاظا علي ارزاقهم. لم يدرك المالك والشغيلة ان العمل علي اي نمط انتاجي سيقوم بتغيير الاثنين معا الي مستوي ثالث. كان كل منهما يدفع بالصراع الي شكل اكثر رقيا. فبدلا من بذل كل الطاقة في صراع طبقي حدا بالاثنين الي تطوير قوي الانتاج لزيادة الفوائض وبالتالي زيادة لعوائد علي كل منهما رغم بقاء الاستغلال قائما كقاعدة للعلاقة بينهما. لا ينطبق هذا الشرح السابق علي مجتمعات توقفت عن المشاركة معرفيا وبالتالي انتاجيا لهذا خرجت طبقاتها الاجتماعية كافة من المعادلة العامة للتقدم. تحياتي وتقديري الكامل لكل كتاباتك الابداعية

اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري