الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستفتاء على ضوء -صحيح البخاري-

سلام عبود

2017 / 10 / 26
كتابات ساخرة


في برنامج حواريّ، بثـّته إحدى القنوات العراقيّة، استضاف البرنامج قياديّا من الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ، اسمه عبد السلام برواري، دافع فيه عن سياسة رئيسه البارزاني، ولكن بطريقة جديدة ومبتكرة.
جديدة، لأنـّها تتشدق بالقبول بالحوار، والدستور، والعمل المشترك، والحلول السلميّة، وطبعا بالأخوّة والصداقة والعيش المشترك، وتجنـّب خراب البلاد ودمار العباد، بدلا من نظرية "رسم الحدود بالدم".
ومبتكرة، لأنـّها ركـّزت على أمر واحد: الاستفتاء حصل ولا يمكن أن يُلغى، لأنـّه فعلٌ تمّ وأنجز. (لماذا تمّ؟ لماذا أنجز؟ لماذا لم يؤجل شهرا واحدا فقط، حتى يُستكمل تحريرالحدود الغربيّة؟ لماذا لم تعط للناس فرصة لالتقاط الأنفاس؟ من خطط لتصعيده بهذا التوقيت؟ لماذا تمّ تركيز شراراته "القاتلة" الأولى في أماكن لا تتبع أصلا قوات البارزاني؟هل يعني هذا أننا لا نملك حقا في إثارة هذه الأسئلة لأنها تمّت بأوامر من قوة علوية مقدسة ومعصومة عرقيّا وقبليّا!) وبناء عليه لا يجوز النقاش في موضوع الاستفتاء. وقد كرر برواري غير مرّة القول: "هذا موضوع انتهينا منه"، ولا معنى لإعادة النقاش فيه.
لاحظوا جيدا العنجهية الاستفتائية، المسالمة. حينما يقول برواري إن الموضوع انتهى، فهو يعني أننا ملزمون بأن ننهي تشغيل عقولنا ونلغي التفكير في مصائر ومصالح شعبنا يضا. فهو يبدأ برغبته وينتهي بمزاجه! أمرك مطاع، يا سيد برواري! ولكن قبل أن تبدأ، أما كان بمقدورك أن تفكـّر كيف سينتهي ما نويت واعتزمت وقرّرت أن تبدأ به من حريق؟
بيد أن الأطرف- الأسلم القول: الأسخف- هو تطرّف مقدم البرنامج. فقد ذهب بعيدا في تقليل أهمية الاستفتاء - كإشكاليّة سياسيّة وعرقيّة وعسكريّة، وكخيار وعواطف ودماء وبلاء- محوّلا، بتطرفه الدعائي، برواري وقيادته ومشروعهم القومي ودعايتهم الى جماعة من تلاميذ المدارس المهذبين والعقلاء والطيبين. لأن الاصرار على رفض الاستفتاء كسرُ عظم، وشرطٌ تعجيزيٌ، ورفضٌ لقبول الحوار والحلول السلميّة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فرفض الاستفتاء سذاجة وسخافة وغيرها من النعوت والإيماءات التحقيريّة.
ياللهول! كيف نلغي قدس الأقداس، الاستفتاء الذي حدث؟
مثل هذا الإعلام أحد أسباب البلوى الماثلة أمامنا الآن. الجديد القديم فيه أننا رأينا جميع الذين احتموا، سابقا ولاحقا، بزعامة "أربيل"، بمن فيهم شموليون متبرزنون، وقوميون عرب شوفينيون، وبعثيون خالصون، وتكفيريون وانفصاليون عرب، يقفون الموقف المتطرف ذاته: الاختباء خلف غبار الاستفتاء صفا واحدا، بانتظار الحريق الشامل. وهذا يعكس ثلاثة أمور مجتمعة: أوّلا، قوّة النزعة الانتقامية، مُعبّرا عنها، بالموقف السلبيّ من كل ما يصدر من السلطة العراقيّة الراهنة، بما في ذلك الاجراءات الصحيحة. ثانيا، الفجاجة العقليّة التي سادت الثقافة السياسيّة عندنا منذ أزمان بعيدة، ولم تزل. ثالثا، الإحساس المتدني بالمواطنة والوطن، بصرف النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة فيه.
إن رفض الاستفتاء يفهمه البعض- وهو ما يروّج له بارزاني وإعلامه- على أنه مفارقة هزليّة، مناقضة للمنطق، كأن يقوم العبادي بنهب أو حرق صناديق التصويت. أو أن يُرغم الوحشُ الشرّيرُ، المسمى بـ"الحشد الشعبي" المصوتين بالتصويت مجددا بكلمة "لا" بنسبة 99 بالمئة، أو أن يتمّ لحس أوراق التصويت، فتختفي النتائج.
هذا الخيال الغبيّ أصبح سياسة إعلاميّة يجاهر بها البعض ويحاججون بها علنا، من دون خجل.
رفض الاستفتاء ليس مزحة، أو فرضيّة للنقاش. رفض الاستفتاء موقفٌ. وهو موقفٌ وجوديّ وأخلاقيّ وقانونيّ قبل أن يكون خلافا سياسيّا. رفض الاستفتاء لا يعني سوى خمسة أمور دقيقة، ومحددة، ومترابطة:
تحديد الوضع الشخصي، الفردي، الذي يتمحور في السؤال المختصر التالي: هل أنت عراقيّ؟ أي هل تقبل بأن تحمل صفة عراقيّ، بصرف النظر عن قوميتك ودينك وطائفتك ومنطقتك؟
وإذا كنت لا تقدر أو تريد، فأنت بالضرورة خارج معادلة الحسابات الوطنية، بخيرها وشرّها. خض نقاشك من منطلق آخر يقبله العقل، ويسمح بالوصول الى نتائج تريدها أنت ويريدها خصومك!
السؤال العام الجغرافيّ: هل الموقع الذي تعيش فيه جزء من الأرض العراقيّة؟
فإذا كنت تعتقد أنك تعيش في شمال القطب الشماليّ، وليس في شمال العراق -جغرافيّا وليس سياسيّا- فأنت- حكما- تعيش خارج الخارطة المعنيّة بالنقاش.
السؤال الثالث: هل نظام الحكم المحلـّي، الذي تخضع له، جزء من نظام دولة واحدة أو عدة دول؟ إلى أيّ منها تنتسب؟
السؤال الرابع: من يحدد حقوقك كفرد وكجماعة؟ وبمعنى آخر: هل الدستور"الواحد" هو وثيقة الاحتكام الوطنيّ؟ (استطراد توضيحي: أنا أوّل من كتب دراسة مطولة فضحت هذا الدستور الترقيعيّ المشوّه، وأعيد نشرها في كتابي " من يصنع الديكتاتور").
السؤال الأخير: هل هناك طرق قانونيّة لمعالجة أيّ خلاف دستوريّ؟ ما الجهة الحاسمة في ذلك؟ من يحددها، وكيف يتمّ تحديدها؟
إن الأجوبة عن هذه الأسئلة الواضحة والبسيطة هي التي تحدد هوية ومضمون الحوار والمتحاورين، بصرف النظر عن الطبيعة القوميّة والطائفيّة والمناطقيّة، وبصرف النظر عمن شارك في الاستفتاء ومن لم يشارك، وبصرف النظر عمن قال نعم أو قال لا، أو الذي التزم الحياد.
هل أنت عراقي؟ هل عراقيتك جزء من كيان سياسيّ وجغرافيّ اسمه الدولة العراقيّة؟ هل أنت خاضع لدستور الدولة؟ هل أنت موافق على آليّات عمل ديمقراطية لتنفيذ الدستور والقوانين؟
حينما يقول سياسيٌّ من حزب البارزاني إنه كرديٌّ، وليس عراقيّا (أفضلهم وألطفهم وأكثرهم تهذيبا يقول مصانعا: أنا كرديٌّ قبل أن أكون عراقيا!)، وإنه يخضع بصورة مطلقة - بطريقة مباشرة وغير مباشرة - لسلطة كيان آخر، وإنه ليس له صلة ما بأيّة سلطة أخرى، بما فيها سلطة الدولة المركزيّة، وإنه المفسّر الوحيد للدستور والحقوق، يتمدد كما يشاء جغرافيّا وقوميّا، يصرف وينهب ويطير ويحطّ ويُؤوي وينبذ كما يشاء. حينما يقول لنا محاورٌ ما هذا الكلام، فنحن هنا لا نحاور شريكا، بل نحاور طرفا أقرب ما يكون الى "بوكو حرام"، وربما "الشباب الصومالي"، أو أيّة قوة لا تربطنا بها روابط المواطنة، بل نرتبط بها برابط واحد حسب: التنازع الأناني على المصالح. ولا أعرف هنا أيّ أحمق وشرّير أطلق تسمية "المناطق المتنازع عليها" على المناطق المختلطة، المختلف عليها إداريّا!
بهذه الفرضيّات الخياليّة نحن نحاور قوة من محيط جغرافيّ وسياسيّ وثقافيّ وتاريخيّ ودستوريّ آخر.
نحن نحاور قوّة لا تستفتي الجماهير على الانفصال، بل نحن نخاطب قوّة قرّرت سلفا أن تكون منفصلة انفصالا عاطفيّا وشعبيّا وثقافيّا واقتصاديّا وعسكريّا، قبل انفصالها السياسيّ والجغرافيّ، وقبل انفصالها الرمزيّ والعاطفيّ التحشيديّ بالاستفتاء.
إن المعضلة لا تكمن في الاستفتاء كوسيلة للتعبير عن عاطفة ما، بل تكمن في الإرادة السياسيّة الأنانيّة، الاستحواذيّة، المهيّجة لمشاعر الانفصال بالاستفتاء.
لقد دفعت حمى الاستفتاء بعض الرموز العدوانيّة الكريهة وجعلتها تطفو على السطح، في هيئة حرق الجنسيّة العراقيّة أمام عدسات التلفزيون، ورفع الأعلام الاسرائيليّة في الساحات والمواقع العسكريّة. أثار هذان المشهدان كثيرين، ممن رأوا فيهما مشاعر حقد وكراهية فائضة عن الحد، لا تنسجم أسلوبا وهدفا ونتيجة مع الرغبة في الانفصال، حتى لو كان من طرف واحد، وبطرق غير شرعية وابتزازية.
بيد أنني أرى أن الصيغة الرمزيّة للمشهدين العدوانيين السابقين أقل ضررا وقبحا من الصيغة الواقعية لسياسة الكراهية، التي ترفع عاليا شعار الاستفتاء من طريق إشعال المنطقة كلـّها، ورفع علم الاحتراب الدائم باستخدام ستراتيجيّة الكراهية.
نحن أحوج ما نكون الى خصم سياسيّ صادق يأتي الينا رافعا علم إسرائيل بيد وجنسيّة العراق المحروقة باليد الأخرى، حتى لو كان بصيغة رمزية، أو الى خصم سياسيّ يحمل جنسيّة العراق بيد والعلم العراقيّ بيده الأخرى، ولكن من دون مصانعة.
حتـّى يحين موعد ظهور هذا السياسيّ، غير المصانع، سيبقى "الوطن" نهزة للناهزين، ويبقى النقاش حول حقوق المواطنة وحدود الوطن مجرد حزّورات مسلـّية حينا، وقاتلة في أحيان كثيرة.
وحتـّى يحين الموعد، أنصح المشرّع العراقيّ بإعادة كتابة الدستور، والاستعانة بـ "صحيح البخاريّ"، وإضافة فقرة في ديباجة الدستور، تقول: " إنـّما الاستفتاء بالنيّات! وإنـّما لكلّ مستفت ما نوى!"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع