الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا من همس الذاكرة -6- ** الليلة نسكرو **

سليمان الهواري

2017 / 10 / 28
الادب والفن


حكايا من همس الذاكرة --7--
************
"هاد الليلة نسكرو "
**************
"هاد الليلة نسكرو" ..
الليلة خمر يا صاحبي ..قالها رشيد و هو يفرك يديه .. و نحن نغادر الثانوية ترافقنا معزوفات الجوع بعد يوم طويل من الدراسة .. صعدنا مختصر الطريق الذي يصل مباشرة الى قلب المدينة الجديدة حيث يتجاور بشكل غريب مسجد طرفاية الحديث البناء مع الكنيس اليهودي الذي يكتظ باصحاب الطرابيش السوداء كل عشية سبت بينما كنيسة المدينة المركزية على بعد خطوات فقط .. كان يغمرنا احساس غريب و نحن نربط احزمة أحذيتنا في باب المسجد و قد يصادف على بعد خطوات فقط ان يتوقف مجموعة شباب يعود أنيقي اللباس و هم يتسللون وراء حديقة الكنيس اليهودي و أصوات صلواتهم تختلط مع تهليلات المؤذن ، و قد تتصادف مع أدعية الجمعة و الخطيب المجلبب يصوب رشاشات قذائفه على اليهود و النصارى و الكفار و المشركين لا يستثني الا نفسه و عصابة لا تزال عاضة على الدين في زمن عاد فيه غريبا كما بدأ .. هذا الاحساس بالغربة كان يربك تفكيري الصغير كثيرا و انأ ارى اليهود الذين يغتصبون فلسطين يعيشون اسيادا بيننا يحتلون أجمل المناصب والمواقع بينما نحن نعيش على هامش الحياة فقط ..
كان مطعم "مرحبا" قريبا و مذاق الحريرة لا يضاهى " زلافة و زوج معقودات" كانت كافية لتهدئ جوع النهار .. كان يجب ان نأكل بسرعة فالسابعة تقترب و هو موعد الدخول لسينما "أمبير" حيث كل اربعاء كنا نحضر شريطا سينمائيا مع" نادي الشاشة" وهو النادي السينمائي الوحيد الذي كان مفتوحا للطلبة و التلاميذ حينها .. كانت نخب المدينة و طلائع مثقفيه تحضر و نحن كالاحمق في الزفة لم نكن نعلم مايدور من صراعات سياسية يين الفصائل و تقاتلها من أجل السيطرة على المكتب المسير .. كل ماكان يهمنا هو السفر في هذا العالم المدهش خاصة و ان كل عرض كان يرافق بورقة تقنية ونقاش تقني و فكري عميقين ، أصبحنا نعرف مع الوقت من مع من و من ضد من لكن الجميل هو اننا كل يوم نتمكن اكثر من أدوات هذه الفرجة الغريبة و نضبط تفاصيلها و معها كل يوم نكبر و إحساسنا يكبر .. قناعاتنا ورؤيتنا للاشياء هي أيضا اصبحت تتشكل بطريقة مغايرة ..و كلما اقتربت نهاية العرض الذي غالبا ما كان من انتاج دول اوروبا الشرقية حينها ، كنا نسارع للخروج لاننا نعرف صعوبة العودة الى البيت خاصة و الطريق غير مكهربة و في كل لحظة قد تجد شجارا ليليا او بعض شباب يختارون الظلمة لشرب قنينات خمرهم الرخيص .. كان علينا اتخاذ الحيطة دائما في العودة ليلا فقصص قطاع الطرق و اعتراض سبيل من يسلك هذا الطريق لا تنتهي .. لكن لا خيار أمامنا سوى ان نكون جزء من كل هذا المشهد ..كان علينا ان نسرع في اتجاه السوق المركزي واختيار اللحظة المناسبة للدخول الى الدكان المختص في بيع الخمور .. راقبنا المكان لحظة حتى تأكدنا ألا احد من أولاد الحي موجودين هنا ثم دخلت وحدي و انا أتطلع الى جدران "البيسري" الممتلئة عن آخرها بكل الالوان و القناني و الاسماء .. حاولت ان ابدو كبيرا و كأن الامر شيء عادي بالنسبة لي ان أشتري هذا الشيء العجيب الذي يسمونه " الشراب " ..
- وأنت ماذا تريد ؟ سألني عامل المحل و هو يسلم البضاعة لأحد زبائنه ..
" زوج قراعي د عيشة " .. كنت أقصد طبعا قنينتان من البيرة "عيشة الطويلة "
صاحب المحل أخذ مني " الفلوس" وكأنه لا يراني .. سلمني القنينتين في كيس بلاستيكي سرعان ما وضعته في محفظتي التي كانت في حقيقتها جرابا عسكريا متينا لم أتخل عنه تقريبا طيلة دراستي الثانوية مادام يقوم بعدة أغراض بالاضافة لكونة محفظة تلم شتات دفاتري المبعثرة ..
خرجت و رشيد يترقب متلهفا حتى يمسك بيديه القنينتين .. أعدت اقفال الجراب باحكام ثم قصدنا الحديقة الخلفية للملعب البلدي في الطريق الى البيت .. كان الليل مظلما حقا و المارة قليلون خاصة و ان الفصل شتاء ..
"الليلة نسكرو" ..
هذا إذن هو الخمر الذي يحرمه الرب و يعاقب عليه المجتمع .. و انا و رشيد سنتحداهما معا و نتذوق الليلة هذا السائل المغري الذي سيرفعنا بعد قليل و ينقلنا الى مصاف الكبار ، اولئك الذين يسجلون كل ليلة مشهدا في الرجولة ومشاهد القوة داخل ليالي الحومة التي لا تنتهي ..
جلسنا على أول كرسي منزو قريب من الطريق العام تغطينا ظلمة الاشجار التي تنتشر في الحديقة .. كان اسم المكان رومنسيا يعرفه كل ابناء المدينة " حديقة الحب jardin d amour" .. فتح رشيد اول قنينة ، و لأننا لم نكن نحمل اي كأس معنا شرب اول رشفة مباشرة من شفاه القنينة .. رشيد كان شابا جميلا يعرف الجميع بانه سيضع كل مقابلة هدفا برأسه في شباك الخصوم ، كان أنيقا بشكل كبير مادام هو الإبن الذكر الوحيد عند والديه و كانت كل طلباته مستجابة .. أخذت منه القنينة و شربت رشفة صغيرة اتبعتها رشفة كييرة حتى توقفت أنفاسي .. لا مجال للتراجع رغم ان المذاق ليس مغريا كما يبدو من حديث الناس .. أنهينا القنينة الاولى بسرعة و كأننا في سباق .. انتظرت ان اسكر حقا لكن شيئا لم يقع .. سألت رشيد اذا ما كان يحس بتغيير ما فأجابني بالنفي فضحكنا من هذا الخمر الذي لا يسكر .. ضحكنا اگثر و نحن نفتح القنينة الثاني .. خمر بدون خمر ما دامت مهمتنا في الارتفاع عن الارض قد باءت الليلة بالفشل .. في حقيقة الامر لا اعرف ما الذي أضحكنا حينها اكثر و نحن نفرغ نصف القنينة الثانية في معدتنا ، كلما تذكرته ان رشيد قام بغتة وقال ان الوقت تأخر و علينا الذهاب .. حاولت ان أقف لكني تعثرت و كدت اسقط .. رميت القنينتين تحت شجرة ووضعت المحفظة على كتفاي .. و كأن المسافة الى البيت تضاعفت هذه الليلة .. كانت الارض غير الارض و انا اسرع في المشي .. خدر جميل احسه في رجلاي و دوار لذيذ يسري في رأسي .. توقفنا قليلا في السقاية الموجودة في بداية الحي .. غسلت وجهي و يداي مرة أخيرة ثم أخذت اراقب رشيد حتى دخل البيت .. كانت أختي الكبرى و كأنها تنتظرني وراء الباب ، فتحته مع الطرقة الاولى لاتوجه مباشرة الى غرفة النوم محاولا الابتعاد عن خديجة حتى لا تشم اي رائحة و هي تقترب مني .. البيت يغط في نوم عميق و الظلام يطبق على المطبخ الصغير .. وضعت أمامي خديجة صحنامن الفاصوليا الدافئة و هي تحمل نصف شمعة صغيرة هي كل ما تبقى لإضاءة الليلة ثم انسحبت الى فراشها و هي نصف نائمة .
أحكمت إقفال باب الغرفة ما أمكن مادام الأمر مستحيلا و جنباته متفاوتة بشكل يترك البرد يتسلل كما يشاء و صوت المطر يغير موسيقى ايقاعه على السقف القصديري الذي يغطي وسط البيت .. وضعت الشمعة كما العادة وسط كأس صغير على اللحاف المجاور قريبا من وسادة نومي .. ثبتها جيدا حتى لا تنقلب و قد تحرق شعري كما فعلت كثيرا و انا غارق في احدى الروايات الفرنسية التي تمتلئ بها مكتبة أخي الأكبر "سي محمد"
"سي محمد" يشتغل الآن مدرسا للفرنسية في مدينة بعيدة لكنه يحضر في تفاصيل البيت و كأنه موجود حقا .. كان إبن زمنه السياسي و جاكيطته العسكرية لا تغادره .. سي محمد أكبر من أخ و أكبر من أب حتى ، كان معلما حقا .. يستحيل ان تراه و هو لا يتأبط كتابه و كل يوم يدق ساعي البريد ، يحمل مجلات فرنسية و كتبا صغيرة ياما سرقتها و قرأتها دون ان افهم بالضرورة كل ما فيها .. كانت تغريني فيها صور لينين و ماركس وومواضيعها الفرنسية المعقدة لكن الاجمل كانت هي تلك الكتيبات الصغيرة التي كانت تصله من "كوبا" و كاسترو يصرخ فيها مع غيفارا .. "سي محمد" لم يكن انسانا عاديا ، لا يهدأ و هو يشتغل مع الفرقة المسرحية التي أسسها مع تلامذته و سماها " الدراويش " نسبة لشاعر فلسطين محمود درويش ..
سجل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
و تاسعهم سيأتي بعد صيف
لأول مرة اشاهد محمود درويش مجسدا حيا يرزق و هم يتدربون على قصائده في إحدى دور الشباب ..
"النادي السينمائي المستقل" هو نادي سينمائي خاص بالموظفين و كل نقاشاته كانت بالفرنسية مادام نصف مرتاديه كانوا من الفرنسيين المقيمين بالمدينة .. "سي محمد" يحضر تفاصيل كل الحياة و هو يرافقني الى المدينة القديمة عند بائعي الكتب القديمة الذين يعرفهم واحدا واحدا ، و دأبت على مرافقته حتى صرت مدمنا على المكان و كل أسبوع آخذ منهم وجبة دسمة من الروايات و الازليات و المسرح العالمي .. كانت تأتيني نوبات ادمان للمطالعة بالعربية سرعان ما تكسرها قصة جميلة لإميل زولا لتتوالى السفريات في كل اتجاهات الكون دون حدود ..
حاولت ان انام على أغنية "الحال" للغيوان دون جدوى .. بوب مارلي كان يحدث داخلي حالة خشوع غريب .. أسمعه و مشاهد فيلم النادي السينمائي تتراقص في الظلام أمامي كما صورة زكرياء الاستاذ الذي أدار نقاش الليلة .. بيني و زكرياء علاقة خاصة فهو ليس مجرد وجه نضالي في المدينة فقط .. زكرياء كان شابا جامعيا لما رأيته اول مرة و سني دون العشرة .. لما رافقني ذات صبيحة أخي "سي محمد" و أنا في القسم الثاني ابتدائي الى "النطاق الثقافي " لأفاجأ باطفال في مثل سني يغنون و يرقصون في مشاهد جماعية .. كان زكرياء هو من يمرنهم على الأداء ..
يا زهرة المدائن ..
يا قدس .. يا مدينة السلام
اختلط في عيوني وجه زكرياء بالعقال الفلسطيني الذي كان يضعه على كتفيه مع كلمات فيروز و مشهد الاقصى المغتصب و نحن نردد كل صبيحة أحد مع "الجمعية المغربية لتربية الشبية لاميج" .. زكرياء كان شابا جميلا حقا و هو يدفعنا للاشتراك في مخيمات الصيف التي جبنا خلالها و خلال سنين متعاقبة اغلب الشواطئ و الغابات .. لقد أضاف لنا زكرياء و رفاقه أعمارا لأعمارنا ..
صورة زكرياء تداهمني و أخي "سي محمد" وصفحة كتاب لم أركز في سطر منها .. بينما رأئحة الشمعة تزكم أنفي و هي تموت .. ضغطت على فتيلتها بأصبعي حتى أتأكد من انطفائها ثم استدرت نحو الحائط كي أنام وأنا أتكوم تحت الغطاء ..
تأكدت حينها أن "البيرة" ليست خمرا و أنها مجرد إشاعة للسكر .. مادامت قنينتان لم تسكراننا وها أنا كما جني أجول العالم بدماغي كما كل ليلة .. قررت حينها أن أقتني الاسوع الموالي قنينة خمر أحمر " الروج " وأسكر حقا .. ثم نمت ..
" الليلة لم نسكر يا رشيد "...
*** سليمان الهواري /رضا***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و