الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة سماوية عالمية

راندا شوقى الحمامصى

2017 / 10 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن الأمر الذي أعلنه حضرة بهاءالله (المظهر الإلهي للدين البهائي) قد جنّب نفسه أن يصنّف كطريقة أو نهضة أو ما شابهها لأن إطلاق مسميات كهذه على نظامه الدائم التوسع هو عمل خلاف للعدل والإنصاف. كما أنه قد برأ نفسه مما نسبته إليه النفوس الغافلة ذوو النية السيئة من ألقاب وعناوين كالفرقة البابية، مذهب آسيوي، أحد فرق الشيعة. وأخيراً وليس آخراً فقد نأى عن قبول أوصاف من قبيل أنه نوع من الفلسفة الحياتية أو أنه إلتقاط ومزج لتعاليم أخلاقية متنوعة أو حتى أنه مجرد دين جديد. بل أنه قد أثبت للجميع أن إدعاءه وعنوانه إنما هو دين عالمي ومرامه هو إيجاد مجتمع عالمي موحد الأهداف في موعد محدد. المجتمع الذي هو باني الصلح الأعظم وحافظه وصائنه في آنٍ واحد. ليس قصد البهائية أن تضيف نظاماً جديداً إلى تلك الأنظمة الدينية التي كدرت -بسبب إختلافات أتباعها- هدوء العالم سنين طويلة، بل إن هذا النظام الإداري البديع الذي جيئ في رسالته الإلهية قد زرع عشقاً ومحبة جديدتين في قلوب أتباعه ليبرزوا الحب والرحمة تجاه أتباع الأديان السابقة الذين دخلوا في الأمر لتظللهم جميعاً سماء غاية واحدة الا وهي الإعتقاد بوحدة الأديان الإلهية.

كتب أحد الملوك (ملكة رومانيا) ما مضمونه "لقد فتح هذا النظام البديع أحضانه لكل من كان يسعى خلف الأمل، وهو ينظر إلى جميع الأنبياء السابقين نظرة إعتراف وإعتبار و لا يزدري إي مذهب. بل أنه يفتح كل الأبواب". وأيضاً: "التعاليم البهائية تبعث على الطمأنينة وتمنح القلب أملاً. إن مثل كلمات الأب السماوي لمن يبحث عن الطمأنينة هي كمثل الماء الزلال الذي يروي عطش كل من ضل في الصحراء". كما تفضلت هذه الملكة المبخوتة في إعلامية أخرى بما مضمونه "إن الآثار القلمية لحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء لهي بعينها نداء الصلح السامق الذي يمرق من حدود كل الأقاليم ويلقي خلف ظهره بكل الإختلافات المذهبية المتعلقة بالرسوم والآداب...إنه نداء بديع ذلك الذي حمله لنا حضرة بهاءالله وابنه الجليل. وهما لم يرغبا في إنتشار هذا النداء بالقوة الجبرية لثقتهما الكاملة بأن القوة النامية المودعة في ذلك البذر الطاهر إنما هي الحقيقة الأبدية المكنونة فيه والتي سرعان ما سوف تستحكم جذوره فينمو ويزدهر". وتتفضل أيضاً في فقرة أخرى من مقالها الذي هو عبرة لمن يعتبر: "متى ما سمعتم إسم حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء فاقرأوا آثارهما وابحثوا عن كتبهما واجعلوا دروسهما وكلماتهما العالية الهادئة الباعثة على المحبة تترسخ في قلوبكم كما ترسخت في قلبي".

لقد تمكن نظام حضرة بهاءالله بفضل قواه الخلاقة المنظمة والمانحة للعزة أن يحتضن كل الأعراق والأمم والأيديولوجيات المختلفة والطبقات المتباينة التي ولجت في ظله وتمسكت بأمره، كما تمكن أيضاً من تقليب قلوبهم وحرق حجبات تعصبهم وإخماد نار عداوتهم والسمو بأفكارهم ونياتهم وأهدافهم وتبديل وجهة نظرهم وتوحيد جهودهم في تناغم متواز, كما تمكن -بالإضافة إلى ما سبق- من جعلهم من محبي البشرية ومن أشد المتحمسين لمصالح العالم الإنساني، كل ذلك دون أن يتخلوا عن هويتهم القومية وحبهم لوطنهم ووفاءهم لكل إلتزاماتهم الثانوية.
كما تمكن أيضاً من إطلاعهم على حقيقة جميع الأديان ومنزلتها بدون أن يجعلهم يتخلون عن إعتقادهم الراسخ بشرعية أديانهم وكونها مبعوثة من الله. كما وتمكن من أن يبرز للعيان ظهور الأديان تباعاً وترابطها وجامعيتها ووحدتها وأن يجعلهم يعترفون بأن الدين البهائي مرتبط ببقية الأديان برباط محكم لا ينفصم. لا يجب أن ننظر إلى هذا العشق وتلك المحبة الشاملة الفائقة التي يكنها البهائيون لإخوانهم الروحانيين من كل عرقٍ ودين وطبقة وشعب على أنه عشق مزيف ومتكلف بل أن ذلك العشق هو عشق حقيقي وتلك المحبة هي محبة ذاتية وإن أي شخص يشتعل قلبه بنار محبة الله فإنه سوف يحب كل الناس حباً في الله لأنه سيعتبر إن أي إنسان إنما هو صورة عاكسة عن نور وجه الله.

يمكننا أن نقول عن هؤلاء الرجال والنساء الذين يحملون إعتقاداً كهذا بأن (أي بلد غريب هو في نظرهم وطن لهم وأي وطن هو بلد غريب) لأن أهل البهاء هم الرعايا الملكوتيون لحضرة بهاءالله، فهم ومع أنهم يشاركون حتى الإمكان في حيازة منافع هذا العالم الفاني ويغترفون بقدر المستطاع من المتع الزائلة لهذه الحياة الترابية ومع أنهم يرحبون بكل ما من شأنه أن يزيد من راحة هذه الحياة الفانية وسرورها إلا أنهم لا يغيبون عن ذهنهم لحظة واحدة أن حياتهم الجسمانية ليست إلا مرحلة قصيرة مؤقتة من مراحل وجودهم وأن كل من هو متواجد في هذه الدنيا ليس أكثر من مجرد عابر سبيل يرنو ببصره إلى الدولة السماوية الدائمة المليئة بالفرح والإنبساط والسرور والبهجة.

ومن جهة أخرى فإنه ولئن كان أتباع الأمر أوفياء لدولهم المتبوعة ومرتبطين بكل ما من شأنه المساهمة في أمن بلدهم ورفاهة وتقدمه إلا أن إعتقادهم راسخ وثابت في أن المولى سبحانه وتعالى قد وضع الدين الذي آمنوا به فوق مستوى كل الزوابع والتشرذمات والتشنجات السياسية، فالدين البهائي ليس سياسياً في الأصل، كما أنه فوق كل الأمم وينفر من كل التحزبات والتكتلات إلى جانب أنه يتجنب كل مطامع وأهداف ورغبات القوميين المتطرفين. ودينٍ كهذا يرفض كل أنواع الإختلافات الطبقية والحزبية ويرجح -بدون أدنى تردد أو تقاعس- المصالح السامية للجامعة البشرية على المصالح الشخصية المناطقية والقومية ويدرك جيداً أن المصالح الفردية في هذا العالم إنما تكمن في المصالح العمومية لترابط الشعوب في ما بينها ولحاجة بعضاً إلى الأخرى. ولا يجب تخصيص جماعة بشيء إذا لم تكن مصلحة الجماعة مختزلة فيه.

إذاً فلا عجب أن خط قلم حضرة بهاءالله المنيع -مع أخذه في الإعتبار وضع العالم الحالي- البيان التالي: "ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم".
ويتفضل أيضاً بما مضمونه: "في الحقيقة فإن العالم هو وطن واحد ومن على الأرض أهله".
وتفضل في مكانٍ آخر بما مضمونه: "إن الإنسان اليوم هو من يقوم على خدمة جميع من على الأرض".
ويتفضل أيضاً بما مضمونه: "لقد علم بهذه الكلمات العاليات طيور الأفئدة طيراناً جديداً ومحا من الكتاب كل تقليد وتحديد".

يحمل البهائيون هذا الإعتقاد أيضاً أن الدين البهائي ليس مذهباً ولا يتقبل أي فرقة كما أنه يتنكر لكل الزعامات الدينية مهما كان شكلها أو المبدأ الذي تتبعه وبغض النظر عن الطريقة التي تدير بها شئونها، وبإمكاننا أن نقول بثقة تامة بأن أي منظومة دينية أو زعامة روحية أخرى بمعتقداتها وسننها ومحدوديتها وقصر نظرها لا يمكن لها أن تتطابق من جميع النواحي مع أصول وعقائد الأمر البهائي، بالإضافة إلى أن الفرق السياسية بكل أحزابها وتنظيماتها وبرامجها لا تتوافق مع الأمر بشكلٍ كامل. من الممكن طبعاً أن يكون لفرد بهائي بعض الآراء الموافقة لمبادئ وعقائد التيارات السياسية والدينية غير أنه لا يستطيع أن يكون عضواً في أيٍ منها أو أن يوافق على عقائدها وبرامجها وتوجهاتها. إذ كيف يمكن لهذا الأمر الذي شيدت مؤسساته الإلهية الموهوبة من الله في أكثر من 235 دولة ومقاطعة ً مختلفةً -تتناحر حكومة كلٍ منها مع الأخرى في سبيل مصالحها الشخصية- أن يحافظ على أصالة تعاليمه وإتحاد أتباعه إذا كان يجيز لهم بالإنخراط فردياً أو عبر التشكيلات في الفعاليات السياسية لتلك البلدان المختلفة التي تتشابك أنظمتها وتتعقد مصالحها يوماً بعد يوم مما يجرها إلى نزاعات مستمرة؟ فلو أنه فعل شيئاً كهذا فكيف يمكنه أن يضمن التقدم النشط المطرد والفعال لمؤسساته دائمة التوسع؟

وكيف يمكن لمثل هذا النظم الذي احتك بالأدوات الدينية المتنافرة والعقائد الهدامة أن يتوقع من أتباعه الخلوص والإنقياد في قبول نظمه الموهوبة من الله؟ ولو أنه سمح لأتباعه بأن يكونوا مقيدين لآداب أولئك الناس وعاداته الممسوخة فكيف يمكنه الحيلولة دون حدوث سوء التفاهمات والتناقضات والتصادمات المستمرة التي ستنتج لا محالة بسبب التضاد بين العضو الرسمي الدائم والعضو المستجد المنتسب؟

(هاتيكم العقائد المنظمة والهادئة التي تقيد بها حماة أمر حضرة بهاءالله بيقظة وحذر في الوقت الذي يتوسع ويتقوى فيه نظمهم الإداري حيث أن مقتضيات هذا الدين المتجه صوب التشكل قد ألقت وظيفة ثقيلة على أكتافهم لا مفر منها). وهم يعرفون أيضاً أن رعاية الأحكام وإجراءها إنما هو واجب ضروري لأنه لا إنفصام بين الأحكام الإلهية وبين مبادئ وأصول النظام البديع حيث أنهما بمنزلة النسيج الذي سيستقر عليه بالمآل بنيان نظام حضرة بهاءالله العالمي. واليوم تبذل المجتمعات البهائية في الشرق -ومؤخراً في الغرب- مختلف التضحيات اللازمة لتبيين فوائد تلك المبادئ وكفاءتها وكي تحافظ أيضاً على أصالتها وتحصل على نتائجها وتسهل إنتشارها، وقد لا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي تحول فيه بعض بلدان الشرق -والتي تتولى فيه الهيئات الدينية مسائل الأحوال الشخصية بصورة شرعية- هذه الوظيفة إلى المحافل الروحانية حتى تباشر رسمياً مهامها بصفتها محكمة بهائية لتقضي بين بهائيي منطقتها طبقاً لنصوص الكتاب الأقدس في مسائل الزواج والطلاق والميراث وتكون الدولة بنفسها مشرفة عليه وضامنة لتنفيذه.

من آيسلندا حتى تسمانيا، من فانكوفر إلى بحر الصين بسط هذا النظام العالمي وتلك الأخوة العالمية ظلها ونفخت بقوة جديدة نور الإيمان والأمل في قلب كل رجل وإمرأة انضووا تحت لوائه عندما حجب الجيل الحالي -للأسف الشديد- عن إدراكه. كم سيكون جميلاً لو فتح قادة العالم -الذين يتحكمون في مصير هذا العالم المضطرب والذين هم أنفسهم سبب هرج العالم ومرجه وقلقه وتعاسته- أعينهم وهم في عز الحيرة والإضطراب على شواهد ودلائل عناية حضرة الموجود التي هي في متناول أيديهم ليكتشفوا كيف أن هذا الفضل الرباني يخفف من أعبائهم ويحل مشاكلهم وينير طريقهم مثل مشعل الهداية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س