الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصفورٌ بلا حقيبة

فاطمة ناعوت

2017 / 10 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذا العصفورُ لا يهرُم. تمرُّ عليه السنواتُ والعقودُ، مرورَ شعاع ضوء على حجرٍ من الألماس، فلا تنالُ منه، بل تُزيده وهجًا فوق وهج. جلسَ بكامل هَيبته وتمام أناقته، على مِنصّة قاعة المؤتمرات بالمجلس الأعلى للثقافة داخل حرم "دولة الأوبرا" المصرية، ليحدّثنا حول تغيرات العقل العربي، خلال السنوات الأخيرة. بدأ تجواله التاريخي منذ محمد علي باشا الكبير، وبداية تشييد مصر الحديثة، وانتهى إلى الأمس القريب الذي تعثّر في كبوة الإخوان الإرهابيين، حتى أفاق الأمسُ على غدٍٍ، يحاولُ البزوغَ، ولم يزل.
"نحن في زمن جابر عصفور". يقولُ واحدُنا للآخر، ويقولُ آخرُنا لأبنائه. لكنّ المعاصرةَ حجابٌ! فلا يدري امرؤٌ أنه يعاصر هرمًا، لأن للهرم ظلالاً كثيفةً قد تحجبُ الرؤية النجلاءَ، فلا ندري مَن عاصرنا إلا بعد مُضّي الوقت. فمَن عاصروا الوليد بن رشد، لم يدروا أيَّ كنز شهِدوا في حينها. ومن صافحوا فولتير، ما علموا أيَّ جبلٍ صافحوا لحظتها. ومَن عاينوا طه حسين، لم يدركوا هَولَ مَن لامسوا وقدر مَن حادثوا، إلا حين خبا الوهجُ وانطفأ النَجمُ، إن كانت النجومُ تُطفأ. لا تُطفأ. فالنجوم عصيةٌ على الأفول. مراوغةٌ تبدّل أماكنَها.
قاومتُ الكتابةَ عن أستاذنا، تلميذ أستاذنا الأكبر، سنواتٍ وسنوات. أما أستاذُنا، فهو د. جابر عصفور، الذي علّمنا أن نقلب الطاولةَ على الموروث الرثِّ، ولا نستبقي منه إلا الإرثَ الطيبَ والتراث النقيّ. وأما أستاذُنا الأكبر، الذي أستاذُنا تلميذُه، فهو كبيرُنا الذي علّمنا السِّحرَ، أو علّمنا الفكر، د. طه حسين. ولماذا قاومتُ الكتابةَ عمّن أحبُّ أن أكتب؟ أنا المطيعةُ لقلمي، الصاغرة لمشيئته! لأنه كان وزيرًا، وقلمي يأبى الكتابة عن ذوي الحقائب المُلغّمة والياقاتِ العالية.
القلمُ يتحرّجُ أن يمنحَ قلبَه لرجالات الدولة، لكن مدادَه يُقبّل جباهَ الأساتذة المُعلّمين. ويحدث المأزقُ حين يصبحُ "الأستاذُ" من رجالات الدولة!  هنا، تُرفعُ الأقلامُ وتَجفُّ الصُّحفُ، ويُنذرُ للرحمن صومًا عن الكلام، حتى يخلعَ الأستاذُ عنه عباءةَ الدولة العابرة، ويدخل من جديد في عباءة المُعلّم الأصيلة. هنا، وفقط، يعودُ للقلمِ مدادُه الحُرُّ فرحًا، ويكتب. اليومَ عاد الأستاذُ إلى مقعد الأستاذية الذي يليق به، وزال عن القلم الحرجُ. لهذا سأكتبُ اليومَ عن عصفور، من دون حقيبة، علّمني وعلّم جيلي والجيلَ السابق لجيلي.
لأنه عصفورٌ، فإنه يكره الظلام؛ ذاك الذي يمنعه من رؤية أستاذه، العميد، الذي انعكست وجوهُه العديدةُ على عديد "المرايا المتجاورة"؛ شيّدها مرآةً جوار مرآةٍ لكيلا يغيبَ وجهُ المُعلّم عن عينيْ تلميذه، وعن عيوننا.
ولأنه عصفورٌ، فهو يكره الأقنعةَ التي يتخفّى وراءها الصيادون المكرة، ويكره القيود. لهذا كسر السوارَ الذهبيَّ الذي زيّنوا به معصمه بعد عشرة أيام، فقط، وعاد ليُحلّقَ طليقًا في رحب السماء يُغنّي، ويعلّم صغارَ العصافير، كيف تُغنّي في حرية. لم يكن المناخ طيّبًا وصالحًا للعصافير، لهذا طار بعيدًا. وبعد ثورة "مزعومة" وأيام، انتظم الشدوُ، وطرد النغمُ الطيبُ، الزعيقَ النشاذ، فوافق العصفورُ أن يعود للسرب من جديد، بشروطه الحرّة، لا بشروط القيد، وإن كان من ذهب. لهذا استقال من حكومة تحمل بقايا عهد قديم، وألقى في وجوههم حقيبة الثقافة وعاد إلى كتبه وأبحاثه وطلابه وفكره. عاد لنا. ليس قبل ثورة تشعل التنويرَ في وجه الإظلام، ليس قبل وجوهٍ تصفو، وغيوم تنقشع، يعود العصفورُ إلى عصافيره الحائرة في أعشاشها، ليقبل أن يحمل من جديد عبء الثقافة، حاملاً مشعلَ الحرية والتنوير، وهما ميراثه الثقيل من أستاذه العظيم.
أما أستاذُه، فهو الخالد د. طه حسين. وإنه هَولٌ عظيم أن تكون تلميذًا مباشرًا لطه حسين! هولٌ بالمعنيين: الإيجابي والسلبي. الإيجابي، لأن مَن أسعده زمانُه بالجلوس طالبَ علمٍ أمام عميد الأدب العربي، لابد سيحمل قبسًا من نوره الغامر. فأما لو كان ذاك السعيدُ طالبًا نجيبًا، فسوف يصبح هذا القبسُ مشعلاً وضّاءً، وهذا حالُ عصفورنا.
وأما السلبيّ، فلأن  هذا المشعلَ التنويريّ، قد يكون أثقلَ مما يتحمل كاهلُ مجتمع يزحف من الظلام نحو النور في بطء وتعثّر. وقد يكون هذا المشعلُ حارقًا، إن لم يكن المجتمعُ، مستعدًا للتنوير، وهذا حال مجتمعنا، للأسف.
عصفورٌ إذن، يعشق النورَ، ويكره العتمةَ، شأنَ العصافير. يعشقُ الحريةَ ويكره الأصفادَ، كما يليق بتلميذ نجيب للدكتور طه حسين.  لهذا، فأنتِ يا مصرُ محظوظةٌ أبدًا بأبنائك النجباء، فثمة "طه حسين" في كل جيل، فلا تخافي، ولا تحزني!
حينما حمل الحقيبة مجددًا في حفل افتتاح "المهرجان القومي للمسرح" عام 2014، ألقى وزيرُ الثقافةُ الأسبق، عصفورُنا،  قطعةً من الشعر الصافي دون عَروض ولا قافية؛ قائلاً: لن يُسمح بأن يُغلَق ستارُ مسرح. ولا تُطفأ أنوار مسرح في أية بقعة من بقاع مصر، بعد اليوم. قال، إن  شيطان"داعش" صناعة أمريكية جاءت ردًّا قاسيًّا على ثورة 30 يونيو 2013، التي صنعها المصريون الشرفاء وخرّبت أحلام أمريكا الاستعمارية في بلادنا. وقال إن شيئًا لن يئد هذا الطاعون المدمر، إلا المسرحُ الراقي، والأدب الراقي، والفكر الراقي، والتنوير الحقيقي. وعد وتعهد بأن تنتشر الثقافةُ الجماهيرية المستنيرة في كل نجع وقرية وحارة وشارع من أرض مصر. قال إن القادم أجملُ؛ لأننا شعبٌ عظيم يستحقُّ أن يعيش حياة كريمة، ولا حياةَ كريمة دون فنون راقية، والمسرح أبو الفنون الراقية. ثم قال في الأخير: "احلموا، فإن الحُلمَ.... حياةٌ.”
د. جابر عصفور، كلمتُك في ذاك الحفل، وفي كل محفل سمعناك فيه، قبل أن تصبح وزيرًا، وبعد تقلّدتَ منصب الوزارة، وبعدما وضعتَ عن كاهلكَ العبءَ الثقيل، هي الريشة التي سنرسم بها أحلامنا، وأثقُ أننا قادرون على تحقيق حلمنا، مادام في مصر مستنيرون يحلمون مشعل طه حسين، وزكي نجيب محمود، ومحمد عبده، وجابر عصفور، وأضرابهم. حلمتَ وحلمنا، ونحلمُ أن تغدو مصرُ كما يليق باسمها العريق الذي كتبتْ به السطرَ الأول في كتاب التاريخ. أن تعود مصرُ كما كانت قبل نصف قرن، وكما تركها لنا أستاذُك وأستاذنا، العظيم طه حسين. هنيئًا لك عودتك، دون حقيبة، إلى مقعد الأستاذ الذي لا يجفلُ من حمل العقول المنيرة النيّرة. وهنيئًا لنا وقوفنا على بابِك من جديد، لنتعلّم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى


.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة




.. #shorts - 49- Baqarah


.. #shorts - 50-Baqarah




.. تابعونا في برنامج معالم مع سلطان المرواني واكتشفوا الجوانب ا