الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خبيئة العارف.. لماذا؟

طارق سعيد أحمد

2017 / 10 / 29
الادب والفن


يتسع العالم أكثر كلما مُدت جسور الواقعي الآني إلى الماضي، وتذوب المسافة بين المكان والزمان بطبيعة الحال، ومن ثم يعلو ويرتفع المستقبل _ الثقيل _ هذا القابع في المجهول، ويتضح أمام الأعين ويبدو متأهبا للتفعيل والمعايشة أكثر دون مراوغة منه أو خوف يحوم حولنا. بتلك الحيلة الإنسانية يسقط عنا القلق المزمن والتوتر المصاحب لأفكارنا ليل نهار. على تلك العتبة يبدو لنا العالم أكثر هدوءا وتتبدل صفات الشخوص من حولنا من مصدر للإنزعاج والزعر إلى حالة دافئة من الونس!.

أتلمس في البناء الإبداعي المتماسك داخل المشروع الأدبي للكاتب الروائي والمفكر الدكتور عمار علي حسن سعيه الدؤوب لتحقيق وإنجاز هذه المصالحة بين تاريخ الإنسانية والعالم!، بتفكيك كل منهما وتجريده حتى العراء بأسلوب أدبي راقي يتأدب في لغته وأوصافه، ليعيد بناء الإنساني في العالم والعالم في الإنساني برومانسية يمكن أن أصفها بالواقعية أو التي تمشي ببطئ في اتجاه الواقع دون أن تخدش أو تخمش بحُلمها حضور الآنية أو رموزها.

في روايته الأخيرة "خبيئة العارف" والصادرة عن دار نشر "المصرية اللبنانية" يمد "عمار" جسوره إلى عالم الصوفية هذا العجائبي والسري للغاية من شرفته المطلة على تاريخ مصر المحذوف أو بمعنى آخر المتواري خلف التاريخ المشهور. ويحاول إعادة ترسيخ الثقة بين طرفي المعادلة (الإنسان/ العالم) حينما يثبت أن العالم والإنسانية قابلان للتفكيك أو بمعنى أدق قابلان لتفكيك المفاهيم الكبرى التي تشكلت عبر مشوار للـ "مصري" له سماته وخصائصه ومكوناته الثقافية الفريدة و أزمات وحروب وانتصارات.

رغم هذا الهم الإبداعي لا يكف "عمار" واتصور أنه لن يكف في أدبه عن وخز الأنظمة الدكتاتورية بالكلمات كما يفعل في مقالاته السياسية دوما، مع فارق السياق. ففي بداية "خبيئة العارف" والتي جاءت تحت عنوان "خطى العراف" تشكل البناء الدرامي والحوار حول مصطلح "الجالس على الكرسي الكبير" ليشير بالضرورة على السُلطة بصورتها القبيحة برمزية غير مشفرة أو ضبابية، وكأنه يعترف أو ربما يفسر مبدأ البساطة أو اللامغالاه في صك المصطلحات داخل أعماله الأدبية وخصوصا في سرديته الأخيرة. حيث غزل مفارقة رشيقة بفرض هيمنة السلطة في الواقعي وفي الحُلم!.

يقول في احدى فقرات الرواية:ــ "كان بالأمس جالسا أمام الناظر يضع إصبعيه في أذنيه وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه، فقد عرف أن الجالس على الكرسي الكبير بات مشغولا بإخراج ما في باطن الأرض من كنوز، بعد أن فشل في توظيف ما فوقها لتجاوز الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد. تصرف على هذا النحو بعد أن رأى في منامه، وهو الذي يصدق ما يحلم به ويجري خلفه فور استيقاظه، رجلا يرفل في جلباب أبيض واسع، ويمسك عصا بيميناه، ويرفع يسراه نحو السماء البعيدة. كان يمشي على مهل، ثم يقف في أماكن يختارها، ويضرب قدميه في الأرض فتنفلق، وتخرج منها شرائح سميكة وسبائك ومشغولات ذهبية. تقف في وجه الريح، ثم تتمايل لترقص فرحا بخروجها من سجن الأرض إلى العيون، التي تتابعها في لهفة، والأيدي التي تمتد إليها محاولة أن تقبض عليها". ما انتج في خلفية المشهد كوميديا سوداء يلتقطها البعض.

تتشابك الأحداث وتدور في فلك البحث عن خبيئة العزمية، ويكشف الراوي العليم عن ما تفيض به المكاتب المغلقة التي يقال فيها الكلام همسا، ويصف بلغته البليغة ما ترسمه الملامح على الوجوه، وكل ما تبوح به العيون وهي تلمع ببريق ذهب الشيخ الكبير "أبو العزائم" الدفين. يُسقط (الكاتب / الراوي)أقنعة المناصب الزائفة في رحلة البحث عن الكنز، وتضبط إرادته السردية إيقاع الأحداث التي اسرعت بشكل ملحوظ، وبدأت تطفو على السطح (شخوص / أبطال) الجزء الأول من الرواية كما لو أنها صُعقت لتوها بضربة برق في ليل احتله المطر الغزير!.

استدعى "الجالس على الكرسي الكبير" ناظر وقف البلد في الوقت الذي كان فيه "ماهر" حفيد الشيخ الكبير وزميله في العمل "عليوة" يرتعشان في مكتبه القابع في وزارة الأوقاف بالقدر الذي كان يشعر به الناظر نفسه، وهو يقترب بسيارة فارهة من باب قصر الجالس على الكرسي الكبير. والذي سبقه إليه الساحر المغربي الذي بدا عليه البهاء والمكر والكثير من الغموض. وانتهت المقابلات السرية جدا بتكليف الجميع بالبحث عن الكنز الدفين تحت منزل "أبو العزائم"، بعد أن استعان الناظر بأستاذ جامعي يدعى الدكتور "خيري محفوظ" الباحث في تاريخ التصوف والمتصوفه والطامع في منصب كبير في الجامعة.
من عرف مكان الكنز؟ وكيف حصل عليه؟ وماذا حدث بعد رجوع شيخ الطريقة العزمية من باريس؟، مازلنا في البداية ورحلة "خبيئة العارف" طويلة وأبطالها لا يهدأون. في المقال القادم سنصل للنهاية.






كانت تدور وتتنقل على ألسنة الناس حدوته من الزمن القديم كانت أبطالها الأجداد مفادها أن هناك ثمة كنز مخبأ في مكان ما ابتلعته الأرض منذ ما يقرب من قرن تحت منزل الشيخ الكبير شيخ الطريقة العزمية الشيخ "أبو العزائم"، اكتشفه مريديه حينما كانوا ينقبوا في الأرض بالفؤوس لرشق "طرمبة" ماء لكنه سرعان ما قذف الشيخ الكبير في عيونهم الرمال الرطبة وفور انتهاءهم من التخلص منه لم يروا الذهب مرة أخرى!.

يتلصص الراوي في هذا الجزء على الأوراق والنوايا!، ومن على بُعد يسمح للدكتور (خيري محفوظ) أن يحكي عن رحلته إلى الكنز ويبوح بالأسرار. لم يتنحى الراوي كما تخيلت في بادئ الأمر حينما شرعت في استكمال قراءة "خبيئة العارف"، بل اكتشفت اللعبة أو الحيلة السردية التي أراد فيها الروائي "عمار على حسن" أن يستعرض مهاراته السردية بالشكل الذي عمق التجربة أكثر وحملها إلى القارئ إلى أقرب نقطة ممكنة.

القسم الثاني من الرواية جاء تحت عنوان (أوراق العارف)
_ خطاب طويل وحُلم

هذا القسم بدأ بخطاب!، أرسله (محفوظ) إلى (من يجلس على الكرسي الكبير) يقول فيه:ــ
"فخامة السيد الجالس على الكرسي الكبير..
تحية طيبة
أود ابتداء أنا الدكتور (خيري محفوظ)، وأعوذ بالله من قول أنا لاسيما في حضرتكم، أن أعبر لفخامتكم على عظيم امتناني وسعادتي بتكليفكم لي عبر ناظر وقف البلد بكتابة سيرة الشيخ "محمد ماضي أبو العزائم"، أو حكايته. أقول حكاية، وأعنيها، لأنني كتبتها على هذا النحو، حتى تكون طيعة سلسلة أمامكم وأنتم تطالعونها كاملة، وتمنحكم متعة، تُسري عنكم بعض شقاء يومكم الذي تقضونه في التفكير والسعي وراء مصالح البلاد والعباد.
أمعنت في هذا، وزدت عما اعتدته في كتبي السابقة، التي يسعدني أن أرسل إليكم نسخا منها مع ما طلبتموه مني، واتمنى أن يكون لديكم بعض وقت لمطالعة ولو عناوينها ومحتوياتها، وقد يجذبكم بعضها فتقرأونه كاملا، أو على الأقل تأخذون فكرة عن طريقتي في كتابة التاريخ، والتي عرفت بها حتى أثارت علي غضب بعض الأكايميين، لكنني صممت على التمسك بها، لأنني أريد أن أفتح التاريخ أمام قراء من غير المهتمين به، وهي طريقة أتمنى أن تروق لكم فتتاح لي فرصة تأليف كتب التاريخ لمختلف المراحل التعليمية، أو تأليف كتاب عن حياتكم، فنعمق حب الوطن وحبكم في قلوب الناشئة، ونواجه أهل الشر الذين لا عمل لهم إلا تدبير المكائد، والسعي في الخراب، كما تحدثوننا وتبصروننا دوما بهم في كلماتكم التي أنتظرها، وأعيها، بل أحفظ مقاطع منها عن ظهر قلب.
وأنتهز هذه الفرصة الثمينة لأبلغ فخامتكم أنني من قرية بدلتا النيل، هي نفسها التي ينتمي إليها جدكم، قبل أن ترحل الأسرة الكريمة إلى "القاهرة"، ولا أقصد من هذا سوى أن أبين لكم أن هناك جذورا مشتركة بيننا، ربما تلهمني، عن بعد، بما تقصدونه بدقة من كتاب سيرة هذا الرجل الصوفي الذي أرى أنه لم يأخذ حقه من المعرفة والاهتمام، ليس لأن تلاميذه ضيعوه، بل لأن هناك من أراد طيلة العقود الفائته التعمية على ما تركه من علوم.
وأشكر فخامتكم على كل ما وفرتموه لي من مدد مادي ومعنوي أعانني على أداء هذه المهمة على أفضل وجه ممكن، وإن كان هناك نقص فهو مني، أما ما يأتي منكم فهو، من دون شك، في سعي حثيث إلى بلوغ الكمال في كل شئ.
لن أطيل عليكم حتى لا أضيع وقتكم الثمين، وها هو ما كتبته بعد رحلات وزيارات ومقابلات وتأملات وإمعان نظر في صفحات الوثائق والكتب ووجوه الناس. وقد وضعته أولا أمام معالي ناظر وقف البلد، الذي طالما كان له رأي لا ينقطع فيما أطلعه عليه هاتفيا، وبناء على هذا، كانت هذه الصياغة التي اتمنى أن تروق لفخامتكم، وتجدون فيها ما تصبون إليه، وهو خير لنا جميعا.
خالص المودة والتقدير...
خيري محفوظ".


أكثر ما يجذبني لأعمال الروائي والمفكر الدكتور "عمار على حسن" هو انطلاقاته فهي دائما تكمن في منتصف (الحدوته / الفكرة) ويتخذ منها قاعدة لإنطلاق أرحب، وضمن صفاتها أنها تتحرك في شتى الإتجاهات، وتنمو في أكثر من زمن بالتوازي، وبالتالي تتحرك أحداث الرواية في مشهدية قادرة على تحويل الكلمات إلى لغة بصرية تنسحب عليها الواقعية الآنية أحيانا وأحيانا أخرى تسبح في الواقعية السحرية. المدهش المعتاد هو أن الكاتب يلتقط بمهارة قناص "السحر" المتدلي من الماضي المصري والبارز من الواقعي ويصيغ عالمه الخاص.

لم يقف خطاب الدكتور (محفوظ) إلى هذا الحد، أو حتى تباطأ في خطواته بل امتد إلى "محلة أبو علي" مغامرته الأولى في رحلة البحث عن الذهب الدفين تحت منزل الشيخ الكبير "أبو العزائم"، فسافر إلى مسقط رأسه لعله يجد أحدهم ليفسر له سلوك الطفل "أبو العزائم" حين كان يجلس بالقرب من المسجد ينقش على وجه الأرض كلمات بإصبعه الصغير ويتركها للريح تمحوها!.


في تصوري أن الكتابة الروائية أشبه بالنحت حيث أن زاوية وضع الإزميل وقوة طرق المطرقة هم ما يحددان تشكيل التفاصيل في كتلة الحجر الصلب، ويمتثلان _بالضرورة_ لإرادة المبدع وقوانينه الخاصة لا ليده كما يعتقد البعض!. هكذا هو العمل الروائي لكن الفارق بينه وبين تمثال أسطوري نحته مثال مبدع هو أن الروائي ينحت بسن قلمه في كتلة من الخيال لا كثافة لها!. أرى ذلك في أعمال الروائيين الكبار أمثال "نجيب محفوظ، كونديرا، ماركيز، كويلهو، دان براون..." وغيرهم من الأسماء التي نحتت بعناية فائقة أعمالها السردية مع اختلاف عوالمهم ورموزهم ودلالاتهم، في هذا الاتجاه يمشي مشروع "عمار" الروائي بخطوات مسرعة وعلامات مضيئة في مشواره السردي، والتي اتضحت في رواياته مثل "بيت السناري، جبل الطير، السلفي، سقوط الصمت، شجرة العابد، وروايته الأخيرة "خبيئة العارف" التي أقرأها معكم الآن بالقلم، والتي تمتلئ بالتفاصيل الممتعة والرموز والدلالات والصور المائلة للشاعرية فضلا عن واقع سحري يلامس المصرية العذبة والأصيلة، والتي هنا تحتشد حول "من يجلس على الكرسي الكبير" لتجرده وتفسره وتقذفه أحيانا باللعنات.


القسم الثالث والأخير جاء تحت عنوان "طريق المعروف"
_ ما قبل اكتشاف الكنز
يقول الكاتب "في مكتبه الوثير، حيث الصمت والرهبة، جلس رئيس جهاز السلطة، مستترا بضوء خافت إلا من بقعة مبهرة، تنبعث من أباجورة فضية اللون، مغروسة بإحكام فوق المكتب العريض. سحب أنفاسا متلاحقة من سجارته، وفتح الدرج وأخرج ورقة بيضاء، والتقط قلما، وراح يكتب مسودة مذكرة مطلوبة منه، قبل أن يدفعها إلى الطابع كي ينقلها على الكمبيوتر.
فخامة الجالس على الكرسي الكبير
تحية طيبة،".

خطاب آخر!، وله!؟، يشرح فيه الضابط كيف كانت متابعة خطى الدكتور "خيري محفوظ" في كل مكان ذهب إليه، وهو يقتفي أثر الشيخ "محمد ماضي أبو العزائم" بغية إيجاد دليل إلى الكنز الثمين الراقد تحت بيت آل العزائم، في شارع "مجلس الأمة" بوسط القاهرة. وكيف كانوا يعدوا عليه أنفاسه منذ أن حل بقرية "محلة أبو على" حتى مدينة "أسوان"، وحين سافر إلى السودان!. كلما اقترب الكاتب للنهاية وقف على عتبة بداية جديدة واحتمالات تبدل اثوابها، يقول البعض أن رواية "خبيئة العارف" قد أرسلت رسالة قوية مفادها أن الكنز بداخلنا واشاروا ناحية القلب، وأنا لا أختلف معهم في هذا السياق حيث أن "عمار" ذاته أبرز هذه الرسالة ومهد لها الطريق، وصنع الفخاخ المحكة ليسقط فيها البعض!، ولكن تصوري يبتعد قليلا، وتنحرف رؤيتي _حين أقرأ رواية_ عن البحث عن رسالة النص الواحدة. فالعالم ينمو بالتوازي في الزمان والمكان ويتحقق ويهيمن بزمكانيته على الإنساني الذي يتضاءل أمام هذا النمو المرعب، فالبحث عن حكمة ملهمة داخل عمل ابداعي أصبحت تقليد قديم وذهاب للوراء وقيود نكبل بها الوعي. فـ "خبيئة العارف" مغامرة أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي