الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاتحاد السوفييتي في عهد -خروتشوف- الذكرى المئوية لثورة أكتوبر

ماهر الشريف

2017 / 10 / 30
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


2017-09-23
الذكرى المئوية لثورة أكتوبر
الاتحاد السوفييتي في عهد "خروتشوف"
 (الحلقة الثامنة)

عقب وفاة جوزيف ستالين في 5 آذار 1953، تقرر تشكيل قيادة جماعية يتقاسم أفرادها المهمات، فأصبح جورجي مالينكوف أميناً أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ورئيساً لمجلس الوزراء، لكنه تخلى، بعد فترة قصيرة، عن المنصب الأول لنيكيتا خروتشوف، وتقرر تقليص عدد أعضاء هيئة رئاسة اللجنة المركزية من 25 عضواً أصيلاً إلى 11أعضاء أصيلين، ومن 11عضواً احتياطياً إلى 4 أعضاء احتياطيين.
وشغل لافرينتي بيريا، المسؤول عن البوليس السياسي منذ سنة 1939، منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية. وبغية تعزيز شرعيتهم، قام خلفاء ستالين بتنشيط الدور السياسي لهيئات الحزب القيادية. فمنذ سنة 1953، تحولت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي - كما كانت في العشرينيات- إلى محور الحياة السياسية، بحيث صارت تُطرح عليها جميع قضايا الخلاف بين أعضاء هيئة الرئاسة. وما بين 5 آذار 1953 و10 تشرين الأول 1964، اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ثلاث مرات وسطياً في العام، بينما لم يعقد بين شباط 1947 وتشرين الأول 1952 أي اجتماع موسع لها. ومنذ 23 آذار 1953، صار يقل ذكر اسم جوزيف ستالين في صحيفة "البرافدا".
الخطوات الأولى على طريق "نزع الستالينية"

بادر بيريا، بصفته وزيراً للداخلية، في 28 آذار 1953 إلى إعلان عفو عام، نجم عنه إطلاق سراح جميع المعتقلين الذين يقضون عقوبة مدتها أقل من خمس سنوات، وجميع المدانين بقضايا اقتصادية أو إدارية وجميع الذين لا يشكلون تهديدا لأمن الدولة. كما قلصت مدة عقوبة الآخرين إلى النصف. وبات نظام معسكرات الاعتقال يخضع لسلطة وزارة العدل وليس لسلطة وزارة الداخلية، وفي آذار 1954 تحول جهاز البوليس السياسي إلى "لجنة أمن الدولة" (ك.ج.ب.)، وأعيد الاعتبار إلى الآلاف من الأشخاص.
بيد أن بيريا الذي اختفى عن الأنظار منذ 17 حزيران 1953، اعتقل في 26 حزيران وأعلنت "البرافدا" رسمياً عن اعتقاله في 10 تموز وإزاحته من منصبه وطُرده من الحزب، ثم حكم عليه بالإعدام وأُعدم في 23 كانون الأول من العام نفسه، بعد أن وجهت له تهمة محاولة قلب نظام الحكم ووضع وزارة الداخلية  فوق مجلس الوزراء والحزب الشيوعي. ومن جهة أخرى، أعيد الاعتبار إلى الشعوب التي اتهمت بالتعاون مع المحتلين الألمان وسمح لها بالعودة إلى أراضيها باستثناء تتار القرم. كما أدخلت تعديلات على قانون العمل نجم عنها إلغاء البند الذي يحول دون حركية قوة العمل. كما خُفف القانون الذي يمنع المواطن السوفييتي من الاتصال بالخارج. وفي سنة 1957، تم تنظيم مهرجان للشباب في موسكو سمح للشبيبة السوفيتية بالاحتكاك بعشرات الآلاف من شباب وشابات نحو مئة بلد. وعلى الصعيد الثقافي، حدث انفراج  سمح بنشر مؤلفات كان نشرها محظوراً في السابق، وصار المثقفون   يتمتعون بدرجة أكبر من حرية التعبير والنقد.
المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي

شهدت قيادة الحزب الشيوعي الجماعية التي تشكّلت عقب وفاة ستالين تنافساً حاداً بين مالينكوف، من جهة، وخروتشوف، من جهة ثانية، حول التغيرات التي ينبغي إحداثها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. فبينما رغب الأول في إعطاء الأولوية لتنمية اقتصادية متوازنة والسعي إلى خفض أسعار المواد الاستهلاكية، شدد خروتشوف على ضرورة تجديد الزراعة وتطوير تقنياتها، معتبراً أن إصلاح الزراعة هو أكثر إلحاحية من أي توجه آخر ويستجيب لتطلعات السكان، شريطة ألا يكون ذلك على حساب مصالح الصناعة الثقيلة والمؤسسة العسكرية. وفي إطار تنفيذ مشروع استصلاح الأراضي البكر في كازاخستان وسيبيريا وشمال القفقاس، ضمن خروتشوف نوعاً من التكامل بين الزراعة والصناعة الثقيلة عن طريق تأمين التراكتورات والآلات اللازمة للزراعة من الصناعة الثقيلة. وفي نهاية الخطة الخمسية الخامسة في سنة 1955، حقق الاقتصاد السوفييتي نجاحات ملموسة، لكن من دون أن تتغير طرائق التسيير، والإدارة والتخطيط الاقتصادي. 
وتحسن وضع الزراعة قليلاً، إذ ازداد إنتاج الذرة والبطاطا والشمندر، لكن إنتاج الخضراوات والفواكه بقي قليلاً. وشهدت صناعة المواد الاستهلاكية تقدماً أكبر، لكنه لم يكن قادراً على تلبية جميع حاجات السكان.
وفي 8 كانون الثاني 1955، كسب خروتشوف الجولة وقدم مالينكوف نقداً ذاتياً أمام مندوبي الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، معترفاً بعدم كفاءته في الأمور الزراعية واستقال من منصبه في رئاسة الحكومة. واختار مجلس السوفييت الأعلى نيكولا بولغانين كي يحل محله على رأس الحكومة، بينما حل الماريشال غيورغي جوكوف محل بولغانين وزيراً للدفاع. وبعد كسبه تلك الجولة، قام نيكيتا خروتشوف باستدعاء بعض الذين عملوا معه عندما كان سكرتيرا للحزب الشيوعي في أوكرانيا ما بين 1938 و 1949، وفي مقدمهم ليونيد بريجنيف الذي عُيّن سكرتيرا للحزب الشيوعي في جمهورية كازاخستان. وبدأ خروتشوف ينشط من أجل توفير شروط نجاح مؤتمر الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي القادم.
في اجتماعها المنعقد في تموز 1955، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الدعوة إلى انعقاد المؤتمر العشرين، الذي التأم في الكرملين ما بين 14 و 25 شباط 1956. وفضلاً عن تقرير لجنة التحقق من العضوية، وانتخاب الهيئات القيادية، كانت على جدول أعمال المؤتمر نقطتان رئيسيتان: تقرير اللجنة المركزية عن نشاطها قدمه خروتشوف، وتقرير عن الخطة الاقتصادية الخمسية السادسة قدمه بولغانين.
أكد المؤتمر العشرون توجه الحزب نحو "نزع الستالينية" ووسّع نطاقه. وعرض خروتشوف رؤية متفائلة للأوضاع الدولية وطور فكرتين أساسيتين بشأن النظرية والممارسة السياسيتين، فأظهر أن التعايش السلمي معطى أساسي للسياسة الشيوعية وليس توجهاً قائماً على الاستفادة من لحظة عابرة، وأن الحروب لم تعد حتمية نظراً  لتوازن القوى الجديد الناشئ في العالم وامتلاك وسائل الدمار الشامل. وشدد خروتشوف على تنوع أشكال الانتقال إلى الاشتراكية، وهو انتقال يمكن أن يتم باللجوء إلى المؤسسات البرلمانية وتجنب الحرب الأهلية. وعلى الصعيد الاقتصادي، عرض خروتشوف نتائج تطبيق الخطة الخمسية الخامسة مركزاً على أهمية رفع مستوى  الإنتاجية والنضال ضد البيروقراطية، كما اقترح توسيع حقوق الجمهوريات الاتحادية وخصوصاً في الميدانين الاقتصادي والثقافي، وتوسيع الديمقراطية الاشتراكية ودور السوفييتات، وذكّر بضرورة تعزيز الشرعية الاشتراكية وتطبيقها.
وفي تقريره أمام مندوبي المؤتمر حول الخطة الاقتصادية الخمسية السادسة، توقع بولغانين زيادة بنسبة 70 في المئة في مجال إنتاج وسائل الإنتاج، وبنسبة 60 في المئة في مجال إنتاج المواد الاستهلاكية، ورفع نسبة الإنتاجية بـ 50 في المئة. وبعد أن أكد ضرورة الحفاظ على أولوية الصناعة الثقيلة، توقع، فيما يتعلق بالمجال الزراعي، أن يزيد الإنتاج الزراعي الشامل بنسبة 70 في المئة، وأن يتم توفير 1650000 تراكتور زراعي وأن تتحقق كهربة الخطوط الحديدية بصورة كلية وأن يجري مد 6500 كيلومتر من هذه الخطوط. وأعلن بولغانين عن عدة إجراءات مهمة، مثل  زيادة الأجور المتدنية لبعض فئات العمال ورواتب المتقاعدين، وإلغاء رسوم الالتحاق بالمدارس (الذي أعيد العمل به خلال سنوات الحرب)، والانتقال إلى يوم عمل من سبع ساعات، وتخفيض ساعات العمل في يوم السبت ساعتين، وزيادة إجازة الأمومة، وبذل جهد مضاعف في مجال التعليم.
وشارك في أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي 1436 مندوبا، فضلا عن ممثلي 55 حزبا أجنبيا. وكان المكسب الأول الذي تحقق هو عودة "الشرعية" اللينينية، من خلال تأكيد مبدأ القيادة الجماعية ورفض عبادة الشخصية. وفي السياسة الخارجية، تم تأكيد مبدأ التعايش السلمي والحق في التعددية داخل المعسكر الاشتراكي.
وفي ليلة 24- 25 شباط 1956، قدم خروتشوف تقريره السري إلى مندوبي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، الذي استند إلى أعمال لجنة تحقيق شكلتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وبدأت عملها منذ  كانون الأول 1953. وفي ذلك التقرير، عرض خروتشوف دور ستالين ووجه نقداً شديداً لظاهرة "عبادة الشخصية"، وتجميع كل السلطات في أيدي رجل واحد، قام بحرف النظام منذ سنة 1934 نحو "نظام استبدادي".
وأدان خروتشوف التعديات على "الشرعية الاشتراكية"، وبعض حملات التطهير التي خلقت حالة من عدم الاستقرار في البلاد وجعلت المسؤولين أنفسهم  يعيشون حالة رعب، كما انتقد عدم الكفاءة التي أبداها ستالين في بدايات العدوان الألماني على الاتحاد السوفييتي في سنة 1941. واستندت هذه الانتقادات الموجهة إلى ستالين إلى الأحكام القاسية التي أطلقها لينين عليه في "وصيته ". وقد أحدث هذا التقرير صدمة كبيرة حتى بين مندوبي المؤتمر، وتسبب في حدوث اضطرابات في بعض المناطق وخصوصاً في جورجيا حيث اندلعت مظاهرات مؤيدة لستالين. كما كان صدى التقرير كبيراً في دول أوروبا الشرقية والوسطى وداخل أحزاب  الحركة الشيوعية العالمية.
ولعب خروتشوف دورا كبيرا في اتخاذ قرار نشر هذا التقرير منذ آذار 1956 داخل منظمات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والمنظمات الاجتماعية الرديفة له، ثم توزيعه على المواطنين كي يجري نقاشه على أوسع نطاق، حتى في المدارس. وعقب صدور التقرير، تم الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وجرى، في سنة 1960، حل إدارة معسكرات الاعتقال، من دون أن تختفي هذه المعسكرات بصورة كلية، ثم تقرر في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي، المنعقد في سنة 1961، إزالة جثمان ستالين من الضريح في الكرملين، وسحب اسمه من المصانع والمدن، بما فيها مدينة ستالينغراد التي استعادت اسمها "فولغوغراد"، وهي إجراءات استقبلت باستياء من قسم كبير من المواطنين السوفييت. ومن جهة أخرى، تبنى خروتشوف، عقب المؤتمر العشرين، سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي أحيت بعض عناصر اقتصاد السوق، في إطار النسق المخطط، وعززت استقلالية مدراء المصانع، وهدفت إلى رفع مستوى معيشة المواطنين.
انتصار خروتشوف ونهاية عهد القيادة الجماعية.

بدأت مقاومة "نزع الستالينية" تنتظم ما أن انتهت أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي. ففي الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 30 حزيران 1956، أقر قرار غير منسجم، من ناحية المضمون، مع قرارات المؤتمر العشرين، إذ وُصِف ستالين بأنه "منظر ومنظّم كبير" نجح في تحييد المعارضات التي كانت تهدد عمل الحزب الثوري وضمن "انتصار الاشتراكية". أما ظاهرة "عبادة الشخصية" فقد نجمت، كما ورد في ذلك القرار، عن تجاوزات ارتكبها ستالين، الذي تبقى فضائله أكبر من مثالبه. وخلال صيف العام نفسه، تم تأكيد هذا الموقف "المحافظ"  في مقالات عديدة نشرتها مجلة "كومونيست". وقد استغل أنصار هذا الموقف الأحداث المناهضة للاتحاد السوفييتي التي شهدتها بولونيا وهنغاريا في خريف سنة 1956 كي يضعفوا مواقع خروتشوف وأنصاره من "الإصلاحيين" داخل الحزب.
وبينما كان خروتشوف يقوم بزيارة إلى فنلندا، قرر عدد من رفاقه دعوة هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى الاجتماع في 18 حزيران 1957. وفي ذلك الاجتماع، دعا سبعة من أصل أحد عشر عضواً أصيلاً في هذه الهيئة، كان من أبرزهم جورجي مالينكوف، وفاتيسلاف مولوتوف، ولازار كاغانوفيتش، وكليمنت فوروشيلوف، ونيكولا بولغانين، خروتشوف إلى الاستقالة من منصب الأمين الأول للجنة المركزية، فطالب هذا الأخير بطرح مسألة استقالته على جدول أعمال اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، التي انبثقت عنها هيئة الرئاسة. وبفضل الدعم الحازم الذي قدمه له الماريشال غيورغي جوكوف وقادة الجيش السوفييتي، الذين نقلوا بالطائرات العسكرية أعضاء اللجنة المركزية، الموزعين على مناطق البلاد المختلفة، إلى موسكو، التأم اجتماع هذه اللجنة في 22 حزيران، وقرر إعادة تثبيت خروتشوف في منصبه، وانتقد "النشاطات التكتلية للمجموعة المناهضة للحزب"، كما قرر فصل مالينكوف، ومولوتوف، وكاغانوفيتش، وسابوروف من هيئة الرئاسة ومن اللجنة المركزية، وتوسيع عضوية هيئة الرئاسة بحيث تضم خمسة عشر عضواً أصيلاً، عوضاً عن أحد عشر عضواً، وهو ما سمح بانتقال جوكوف، وبريجنيف، وشفرنيك، وفورتسيفا، من أعضاء احتياط في هيئة الرئاسة إلى أعضاء أصيلين، وانضم إليهم عضوان من سكرتارية اللجنة المركزية هما أريستوف وبليايف.
لقد أثار الدور الكبير الذي لعبه الماريشال جوكوف في حل هذه الأزمة الحزبية قلق خروتشوف والقيادة المدنية للدولة. فاستغل خروتشوف زيارة قام بها جوكوف إلى خارج الاتحاد السوفييتي كي يطرح على اجتماع هيئة الرئاسة "ظاهرة عبادة شخصية جوكوف ومخاطر ميله نحو نزعة بونابرتية". وفي الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشرين الأول 1957، تقرر عزل جوكوف عن هيئة الرئاسة وعن اللجنة المركزية للحزب. وفي آذار 1958، استغل خروتشوف انتخابات مجلس السوفييت الأعلى كي يعزل بولغانين ويحل محله على رأس الحكومة، بحيث صار يجمع منصب الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ومنصب رئيس مجلس الوزراء. وبذلك انتهى عهد القيادة الجماعية التي تمت الإشادة بها، بناء على التقاليد اللينينية، في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.
محدودية سياسة خروتشوف ونزعتها "الإرادوية"

لم تفقد الصناعة الثقيلة في عهد خروتشوف المكانة المتميزة التي احتلها في إطار الاقتصاد السوفييتي، إذ تعاظم ما بين 1953 و 1964 بنسب كبيرة إنتاج الفولاذ واستخراج الفحم والنفط. ومع ذلك، سعى خروتشوف إلى تحقيق تنمية أكثر توازناً وأكثر انفتاحاً على الابتكارات التقنية، كما تمت زيادة الاستثمارات الموظفة في الصناعات الكيميائية، وهو ما سمح بتنوع أكبر لقطاع مواد الاستهلاك ، بحيث أصبحت المواد البلاستيكية والمواد المصنوعة من النايلون أقل ندرة.
وشهدت الحياة اليومية للمواطن السوفييتي تحسناً ملحوظاً. فبفضل برنامج طموح لبناء العقارات، ازداد عدد المساكن بنسبة 80 في المئة ما بين 1955 و 1964، علماً بأن هذه الزيادة لم تحل أزمة السكن العويصة. وتقرر رفع أسعار المواد التي تبتاعها الدولة من المزارع التعاونية (الكولخوزات)، ما ساعد على زيادة إنتاج الفلاحين التعاونيين ورفع مستوى إنتاجيتهم. كما حصل تحسن على استهلاك الحبوب والخضار والفواكه. 
بيد أن سياسة خروتشوف الاقتصادية انطوت على نزعة إرادوية. ففي خطاب ألقاه أمام اجتماع لمسؤولي الكولخوزات في 22 أيار 1957، أطلق خروتشوف عبارة باتت شهيرة وهي: "سنلحق بالولايات المتحدة الأميركية ونتجاوزها". وعلى الرغم من أن حديثه عن التنافس مع الولايات المتحدة  والتفوق عليها كان يدور آنذاك حول إنتاج اللحوم ومنتجات الحليب، فإن خطابه آذن بتبلور سياسة لا تراعي الواقع وحقائقه. فالأهداف غير القابلة للتحقيق التي طرحها  كانت تعبيراً عن توجه طموح لديه يرمي إلى تحقيق نسب نمو عالية للإنتاج والاستهلاك على السواء، تمهد الطريق أمام قيام "مجتمع الوفرة"، أي "المجتمع الشيوعي"، وهو ما كان ينطوي على مشكلات كبيرة ليس على صعيد الاقتصاد فحسب، وإنما أيضاً على صعيد العلاقات الاجتماعية.
وكانت حملة استصلاح الأراضي البكر مثالاً على هذه السياسة الإرادوية. فما بين عامَي 1954 و 1957، قام عشرات الآلاف من المتطوعين وأعضاء الشبيبة الشيوعية باستصلاح 37 مليون هيكتار من الأراضي البكر. وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاح لدى انطلاق هذه الحملة، فإن التركيز على إنتاج محصول واحد، هو محصول القمح، في إطار مزارع دولة (سوفخوزات) ضخمة أدّى إلى حتات سريع للأرض وإلى إنخفاض مردودها. وقد تفاقم هذا الوضع في سنة 1963 عندما ضرب جفاف شديد أراضي الاتحاد السوفييتي. وكان خروتشوف قد راهن في سنة 1955 على الذرة بصفتها منتوجاً قادراً على حل مشكلة الأعلاف في البلاد. وبعد عامين، كان 18 مليون هيكتار من الأراضي مزروعاً بالذرة في مناطق لم تكن صالحة لإنتاج هذا المنتوج. وفي سنة 1959، تعهد الأمين الأول لمنظمة الحزب الشيوعي في منطقة "ريازان" بزيادة إنتاج اللحوم ثلاثة أضعاف خلال سنة، وبغية تحقيق تعهده هذا قام بالقضاء على أعداد كبيرة من رؤوس الماشية.
وقد بالغ خروتشوف في تقدير  إمكانيات تحديث القطاع الزراعي واعتقد أن من الممكن الانتقال إلى مرحلة "الشيوعية الريفية" من خلال تجميع الكولخوزات وتطوير السوفخوزات. بيد أن هذا التوجه المركزي تسبب في مطلع الستينيات في انخفاض مستوى الإنتاجية وندرة بعض البضائع في الأسواق وارتفاع أسعار منتجات الحليب واللحوم في مخازن الدولة، كما تسبب في اضطرار الحكومة إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب في سنة 1963 بقيمة مليار دولار، تجنباً لحدوث مجاعة في البلاد.
سياسة "التعايش السلمي" إزاء البلدان الرأسمالية

تبنت القيادة السوفيتية بعد رحيل ستالين سياسة خارجية أقل تشدداً إزاء الغرب. ففي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي طرحت نظرية "التعايش السلمي" التي بدأ تطبيقها في الواقع منذ سنة 1953. فالحرب مع القوى الإمبريالية لم تعد حتمية، ويمكن للنظامين الاجتماعيين، الاشتراكي والرأسمالي، أن يتعايشا في ظل السلام. وعلى الرغم من أن الهدف على المدى البعيد يبقى ضمان انتصار الاشتراكية على الصعيد العالمي، فإن التنافس مع المعسكر الخصم ينبغي أن يقتصر على المستويات السياسية، والإيديولوجية والاقتصادية، بحيث تنتصر الاشتراكية من دون اللجوء إلى الحرب. وكان الاتحاد السوفييتي يحتاج إلى مرحلة طويلة من السلام لتحقيق مشروع خروتشوف الرامي إلى تجاوز القوة الاقتصادية ومستوى الحياة الأميركيين في حدود سنوات الثمانينيات، وهو ما يتطلب كبح سباق التسلح.
وكانت القيادة السوفيتية قد تخلت، بعد امتلاكها السلاح النووي، عن عقدة الشعور بأنها في قلعة محاصرة، وصارت تراعي مخاطر اندلاع حرب نووية تدمر الطرفين، وترى في السلاح النووي عنصراً من عناصر استراتيجية ردع. ومما زاد من شعورها بالثقة، تفوق الاتحاد السوفييتي في مجال غزو الفضاء، عقب قيامه بإطلاق أول صاروخ عابر للقارات في تموز 1957 ، ونجاحه في إطلاق القمر الصناعي الأول "سبوتنيك" في تشرين الأول من العام نفسه، ثم  إرساله أول رجل إلى الفضاء، هو يوري غاغارين، في 13 نيسان 1961.
خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في سنة 1952، انتقد المرشح عن الحزب الجمهوري دوايت أيزنهاور، الذي فاز في تلك الانتخابات، سياسة "الاحتواء" التي مارسها سلفه هاري ترومان في تعامله مع الاتحاد السوفييتي. وكان وزير الخارجية الجديد جون فوستر دالاس من أنصار إبعاد السوفييت عن مناطق نفوذهم، وبتأثير منه تبنت الإدارة الأميركية الجديدة عقيدة تقوم على أساس أن أي هجوم سوفييتي مهما كانت طبيعته سيولد رداً أميركياً فورياُ وعاماً في أي موقع في الكتلة الاشتراكية. بيد أن هذه السياسة الخارجية "الهجومية" كانت موجهة نحو الداخل الأميركي في الأساس، بينما كانت السياسة الفعلية أقرب إلى السياسة البراغماتية.
شهدت السنوات ما بين 1953 و 1955 نوعاً من الانفراج في العلاقات الدولية. ففي كانون الثاني 1954 استؤنف حوار القوى الأربع، أي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي، حول ألمانيا، كما توصل مؤتمر جنيف في تموز 1954 إلى وقف حرب الهند الصينية، وهو المؤتمر الذي برزت فيه مشاركة وزير خارجية الصين الشعبية. ورداً على إعلان الحلفاء الغربيين عزمهم على إعادة تسليح ألمانيا الاتحادية، وضمها إلى "حلف شمال الأطلسي"، قرر الاتحاد السوفييتي ودول "المنظومة الاشتراكية"  الأوروبية، في 14 أيار 1955، تأسيس "حلف وارسو".
وفي 15 أيار 1955، أبرم الاتحاد السوفييتي مع النمسا والحلفاء الغربيين معاهدة سلام قائمة على حيادية هذه الدولة، وهو ما سمح بسحب الجيش الأحمر وجيوش الحلفاء الغربيين من النمسا. وما بين 18 و23 تموز 1955، عقد في جنيف اجتماع قمة رباعي، جمع  الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، ورئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن، ورئيس الوزراء الفرنسي إدغار فور، ونيكولا بولغانين ونيكيتا خروتشوف، وهدف إلى التوصل إلى اتفاق حول الرقابة على إنتاج الأسلحة النووية، لكن الاجتماع فشل في التوصل إلى اتفاق باستثناء تبادل بعض الكلمات الجميلة حول تعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية بين الشرق والغرب. وفي كانون الثاني 1956، قام كل من خروتشوف وبولغانين بزيارة رسمية إلى بريطانيا.
ولم تتدخل الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها عندما قامت القوات السوفيتية بالتدخل في أحداث هنغاريا. كما تمّ تفادي المواجهة بين "المعسكرين" خلال أزمة برلين الثانية  وخلال "أزمة الصواريخ" في كوبا.
فقد انفجرت أزمة برلين الثانية ما بين عامَي 1958 و 1961، عندما دعا خروتشوف في تشرين الثاني 1958 إلى تحويل برلين إلى مدينة حرة محايدة، وهو ما رأى فيه الحلفاء الغربيون خطوة على طريق طردهم من برلين الغربية. وبينما ضاعف السوفييت إقامة نقاط المراقبة على جانبي خط الفصل بين القسمين الشرقي والغربي للمدينة وعرقلوا المرور بينهما، رفض الحلفاء الغربيون تقديم أي تنازل.
وقام خروتشوف بزيارة الولايات المتحدة الأميركية في 25 و 26 أيلول 1959، حيث أجرى مباحثات مع أيزنهاور في منتجع كمب ديفيد، لكن من دون أن يتوصلا إلى أي اتفاق حول مستقبل برلين، وعاد التوتر في ربيع سنة 1960عندما أُسقطت طائرة استطلاع أميركية فوق الأراضي السوفيتية وأسر طيارها. ثم كان الفشل نصيب مؤتمر باريس، في أيار 1960، الذي سعى إلى التوصل إلى حل نهائي للمسألة الألمانية. وقدّر خروتشوف أن الرئيس الأميركي الجديد جون كينيدي، الذي دخل إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 1961، سيكون أقل حزماً من سلفه أيزنهاور، لكن كينيدي زاد عديد القوات الأميركية المرابطة في ألمانيا، فقام السوفييت بإغلاق حدود برلين الشرقية وبدأوا ببناء جدار يمتد على مسافة 46 كيلومتراً، ويتراوح طوله ما بين 3 و 6 أمتار. وفي حزيران 1961، انعقد مؤتمر في مدينة فيينا، وحصل لقاء بين كينيدي وخروتشوف لم يتم التوصل فيه إلى أي اتفاق. وفي 13 آب 1961، أعلن رسمياً عن إقامة "جدار برلين"، الذي جعل المرور من شرق مدينة برلين إلى غربها شبه مستحيل.
وفي هذا السياق المتوتر أصلاً بين "المعسكرين"، اندلعت "أزمة الصواريخ" في كوبا في تشرين الأول 1962.
كان الثوار الكوبيون الذين استلموا السلطة في هافانا في كانون الثاني 1959 قد اختاروا فيديل كاسترو رئيساً للوزراء. وفي شباط 1960، وقّع كاسترو أول اتفاق لتوريد السكر إلى الاتحاد السوفييتي. وبعد أن فرضت الولايات المتحدة الأميركية في شهر آب من العام نفسه حظراً على التجارة مع كوبا، قام كاسترو في تشرين الأول 1960 بتأميم المصالح الأميركية في الجزيرة، فردت الإدارة الأميركية في كانون الثاني 1961 بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، ثم سعت في نيسان من العام نفسه إلى مساعدة متمردين كوبيين مناهضين لحكم كاسترو على مهاجمة كوبا من خلال تنظيم  إنزال بحري في "خليج الخنازير"، وهو الإنزال الذي كان نصيبه الفشل. ورداً على هذا التدخل الأميركي السافر في شؤون بلده، أعلن فيديل كاسترو كوبا "جمهورية اشتراكية"، وتوجّه نحو الاتحاد السوفييتي طالباً تزويده بالأسلحة والصواريخ للوقوف في وجه الولايات المتحدة الأميركية.
وفي 14 تشرين الأول 1962، اكتشفت طائرة استطلاع أميركية منصات إطلاق صواريخ في كوبا، ووجود مستشارين عسكريين سوفييت، وطائرات قاذفة من نوع" اليوشن" وصواريخ يصل مداها إلى ما بين 1500 و 3000 كيلومتر، كما رصدت الطائرات الأميركية توجه 26 سفينة سوفيتية نحو الشواطئ الكوبية. وفي 22 تشرين الأول 1962، ألقى جون كينيدي خطاباً حازماً وفرض حصاراً بحرياً على كوبا  لمنع نقل معدات عسكرية سوفيتية إليها، كما قرر وضع القوات الأميركية في حالة تأهب قصوى، وبدأ التحضير لشن هجوم جوي لتدمير المنشآت العسكرية السوفيتية في الجزيرة. وتابع العالم بقلق بالغ تقدم السفن السوفيتية وهي تقترب من السفن الأميركية. وفي 26 تشرين الأول، أرسل خروتشوف رسالة إلى كينيدي يعرض فيها استعداده للتفاوض، ثم أصدر، في 29 تشرين الأول، أمراً يقضي بعودة السفن السوفيتية إلى بلادها ووعد بسحب الصواريخ والقاذفات من كوبا، في مقابل التزام الولايات المتحدة الأميركية بعدم مهاجمة كوبا. ويعتقد بعض الباحثين أن تعامل خروتشوف مع "أزمة الصواريخ" في كوبا أثار استياء بعض الأوساط القيادية، العسكرية والمدنية، في بلاده، وساهم في إبعاده عن الحكم في سنة 1964. 
الاتحاد السوفييتي إزاء أحداث "بولونيا" و"هنغاريا"

عشية انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وغداته، شهدت علاقات الاتحاد السوفييتي مع دول "المنظومة الاشتراكية" تطورات في اتجاهات مختلفة. فبينما تحققت المصالحة بين الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا، اندلعت أحداث خطيرة في كلٍ من بولونيا وهنغاريا هددت مستقبل علاقات الاتحاد السوفييتي من هاتين الدولتين، في حين راحت علاقات الاتحاد السوفييتي المتميزة بالصين الشعبية تسوء أكثر فأكثر منذ أواخر الخمسينيات.
فما بين أيار و حزيران 1955، قام وفد سوفييتي كبير برئاسة نيكيتا خروتشوف بزيارة رسمية إلى بلغراد، حيث أقر الزعيم السوفييتي بالأخطاء التي ارتكبتها بلاده، كما اعترف بأن هناك طرقاً مختلفة، وطنية، لبناء الاشتراكية، ووقّع مع الزعيم اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتيو معاهدة تعاون بين البلدين، تحصل بموجبها يوغوسلافيا على مساعدات اقتصادية كبيرة من الاتحاد السوفييتي. وكان قد أُعلن، في 17 نيسان 1956، عن حل منظمة "الكومنفورم" التي كان تأسيسها سبباً من أسباب الخلاف السوفييتي-اليوغوسلافي.
وفي خريف سنة 1956، واجه الاتحاد السوفييتي مشكلات خطيرة في بولونيا وهنغاريا. ففي بولونيا، توفي الأمين العام لحزب العمال البولوني الموحد بوليسلاف بَيروت في موسكو غداة انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وحل محله "إدوارد أوشاب" الذي أصدر عفواً عاماً أُطلق بموجبه سراح الشيوعيين المعتقلين، وفي عدادهم فلاديسلاف غومولكا المعتقل منذ سنة 1951، فضلاً عن عدد كبير من السجناء الآخرين. وبعد فترة، بدأت تبرز خلافات داخل الحزب، وتبلور تيار صُنف على أنه "تحريفي"، ثم تشكلت خلف عدد من الصحف حركة تطالب بالإصلاح، انضم إليها عدد كبير من العمال ووقعت أحداث دامية في "بوزنان" في 28 حزيران 1956، حيث احتل المتظاهرون مراكز الشرطة، الأمر الذي تسبب في تدخل الجيش وسقوط عشرات القتلى. وفي 20 تشرين الأول، وبتوصية من المكتب السياسي للحزب، انتخب غومولكا أميناً أول للحزب، فطرح في برنامجه تطوير الديمقراطية الاشتراكية والتخلي عن فكرة وجود نمط واحد لبناء الاشتراكية والحفاظ على العلاقات المتميزة مع الاتحاد السوفييتي. وهكذا، تم التوصل إلى حل سلمي للأزمة في بولونيا.
بيد أن الأوضاع تطورت بصورة مأساوية في هنغاريا. فقيادة الحزب الشيوعي كانت منقسمة على نفسها في سنة 1953؛ وفي سنة 1955، نجح الأمين العام للحزب ماتياس راكوزي في إبعاد رئيس الوزراء إيمري ناجي وفصله من الحزب، رافضاً تحقيق أي إصلاح. بيد أن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ولّد حراكاً سياسياً في البلد. وبعد أحداث "بوزنان" الدامية في بولونيا، اضطر راكوزي إلى الاستقالة، وحل محله مساعده إرنو جيرو، وتشكلت حلقة من الطلاب والمثقفين، دُعيت باسم حلقة "بتوفي"، وتصاعدت الدعوات إلى رحيل القوات السوفيتية عن هنغاريا.
وعلى الرغم من إعادة ناجي إلى صفوف الحزب وتعيين يانوش كادار، الذي سجنه راكوزي خلال خمس سنوات، مساعداً للأمين العام للحزب، استمر التوتر واندلعت، في 23 تشرين الأول 1956، تظاهرات في بودابست وفي مدن عديدة، وأطلقت سريعاً شعارات مناهضة للشيوعية وللاتحاد السوفييتي.
وفي 24 تشرين الأول، انتشرت "الانتفاضة" على نطاق واسع، واستغلت عصابات فاشية ومجموعات من اليمين المتطرف هذا التمرد كي تقوم بتنظيم مذابح واسعة للشيوعيين. وتم استدعاء القوات السوفيتية المرابطة في هنغاريا كي تتدخل، لكنها لم تفعل ذلك في 24 تشرين الأول. وحل كادار محل جيرو على رأس الحزب، فاقترح عقد مفاوضات مع الاتحاد السوفييتي على "قدم المساواة"، وتشكلت حكومة جديدة  ضمت ممثلي الأحزاب القديمة كحزب الفلاحين وصغار الملاك. غير أن الأوضاع لم تتحسن واستمرت المصادمات في بودابست وفي عدد من المحافظات. وفي 30 تشرين الأول، أصدرت الحكومة السوفيتية بياناً أقرت فيه بالأخطاء المرتكبة "التي قلصت مبادئ  المساواة في الحقوق في العلاقات بين البلدان الاشتراكية". وفي هذا النص، أقامت الحكومة السوفيتية تمييزاً بين الاتجاه الذي تمثله حركة العمال "العادلة والتقدمية" وبين "القوى الرجعية والمناهضة للثورة التي استغلت هذا الاتجاه". وبعد أن اقترح البيان سحب القوات السوفيتية من بودابست، أعلنت الحكومة السوفيتية أنها تبحث فكرة قيام "رابطة كبيرة لأمم اشتراكية تقيم بلدانها علاقات فيما بينها على أساس مساواة كاملة في الحقوق واحترام السيادة الإقليمية، والاستقلال السياسي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتقوم بينها علاقات تعاون أخوية وثيقة ومساعدات متبادلة". 
وبغية تجاوز انقسامات الحزب الشيوعي الداخلية وعجزه عن التصدي للأوضاع، قرر كادار ورفاقه في 1 تشرين الثاني 1956 تأسيس حزب جديد باسم: "حزب العمال الاشتراكي الهنغاري"، بينما قرر رئيس الوزراء إيمري ناجي، الذي أعادته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الهنغاري إلى منصبه، انسحاب هنغاريا من عضوية "حلف وارسو" وإعلان حيادها. ورداً على هذا القرار "الخطير"، نزع كادار وزعماء الحزب الجديد ثقتهم بناجي وشكّلوا، في 3 تشرين الثاني "حكومة ثورية عمالية وفلاحية"، طلبت من القوات السوفيتية التدخل، وهو ما فعلته هذه القوات في اليوم التالي بسيطرتها على بودابست، ما اضطر ناجي إلى الالتجاء إلى السفارة اليوغوسلافية. وفي 9 تشرين الثاني 1965، كانت الاشتباكات المسلحة قد توقفت في البلاد. وأسفرت أحداث هنغاريا عن سقوط آلاف الضحايا من المتظاهرين الهنغاريين ومن الجنود السوفييت.
انفجار الخلاف الصيني - السوفييتي
عقب استلام الشيوعيين الصينيين السلطة في بكين في تشرين الأول 1949، قام ماوتسي تونغ، في شباط 1950، بزيارة الاتحاد السوفييتي حيث وقّع مع ستالين معاهدة صداقة وتعاون، وتعهد الاتحاد السوفييتي بتقديم مساعدات تقنية ومالية لجمهورية الصين الشعبية.
وفي 29 أيلول 1955، قام نيكيتا خروتشوف بزيارة الصين الشعبية على رأس وفد كبير أجرى مباحثات مثمرة، طوّرت معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين البلدين.
وفي شباط 1956، شارك رئيس وزراء الصين الشعبية، شوين لاي، في أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ثم زار موسكو في كانون الثاني 1957 وأشاد بالصداقة الصينية-السوفيتية ودور الاتحاد السوفييتي في دعم الشعوب. وتعاظمت المساعدة الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد السوفييتي للصين الشعبية في الفترة نفسها، إذ كان السوفييت يقدمون للصينيين مصانع جاهزة وخبراء تقنيين سوفييت بلغ عددهم ما بين عامي 1950 و1960 نحو 10000 تقني، وكان 11000 طالب صيني يدرسون في الجامعات السوفيتية، واستثمر الاتحاد السوفييتي مليار و 720 مليون روبل في مشاريع صينية عديدة.
وكانت الصين تقدم في المقابل مواد أولية إلى الاتحاد السوفييتي، وفي سنة 1959 كانت نسبة 50 في المئة من تجارة الصين الشعبية الخارجية مع الاتحاد السوفييتي.
بيد أن العلاقات بين البلدين بدأت تشهد بروداً منذ سنة 1958، عندما قرر ماوتسي تونغ، في نيسان من ذلك العام، إقامة "الكومونات الشعبية" ثم تبنّى سياسة "القفزة الكبرى إلى الأمام". وفي 31 تموز 1958، توجه خروتشوف إلى بكين للإعراب عن قلق الزعماء السوفييت من السياسة التي ينتهجها ماوتسي تونغ. وفي آب 1958، قامت القوات الصينية بمهاجمة جزيرتين في مضيق فرموزا، فهددت الولايات المتحدة الأميركية باستخدام السلاح النووي ضد الصين الشعبية، فرد خروتشوف عليها، في 8 أيلول 1958، بإعلانه  أن أي هجوم على الصين الشعبية سيعتبر هجوماً على بلاده.
عندما أعلن الرئيس دوايت أيزنهاور في 5 آب 1959 عن زيارة سيقوم بها نيكيتا خروتشوف إلى الولايات المتحدة الأميركية، أعرب القادة الصينيون عن استيائهم الشديد من هذه الزيارة في الوقت الذي تستمر فيه الإدارة الأميركية في رفض الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. وفي 25 و 26 أيلول 1959، جرت المباحثات بين أيزنهاور وخروتشوف في منتجع كمب ديفيد، وبدا، منذ ذلك الحين، أن القطيعة بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية باتت وشيكة. فالزعماء الصينيون رفضوا سياسة "الوفاق" التي ينتهجها الزعماء السوفييت، كما كانوا مستائين من الدعم الذي يقدمه الاتحاد السوفييتي إلى الهند. وراح النزاع بين البلدين يتخذ طابعاً إيدبولوجياً، ففي شباط 1960، اتهمت وثيقة صادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الزعماء الصينيين بممارسة "سياسة قومة ضيقة"، بينما اتهمت القيادة الصينية الزعماء السوفييت  بـ "التحريفية" والابتعاد عن مبادئ اللينينية إزاء قضايا الحرب والسلام والثورة. وتم التقدم خطوة جديدة على طريق تكريس انقسام الحركة الشيوعية العالمية لدى انعقاد مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمي، الذي حضره في موسكو ممثلو 81 حزباً في تشرين الثاني 1960.
فالمؤتمر دعم المواقف السوفيتية من دون أن يدين مباشرة السياسة الصينية. ومنذ ذلك التاريخ، صار الحزب الشيوعي الصيني، بدعم من حزب العمل (الشيوعي) الألباني، يتحوّل إلى مركز منافس حقيقي داخل الحركة الشيوعية العالمية، ويقوم بتشجيع حدوث انقسامات وتشكيل كتل لصالحه داخل العديد من الأحزاب الشيوعية. وفي تشرين الثاني 1962، عندما اندلعت الحرب الصينية-الهندية، اتخذ الاتحاد السوفيتي موقفاً أقرب إلى الموقف الهندي منه إلى الموقف الصيني، وهو ما زاد في توتير العلاقات بين البلدين.
دعم الاتحاد السوفييتي الدول المستقلة حديثاً وحركات التحرر الوطني

كان من نتائج تبني سياسة "التعايش السلمي" تركيز الدبلوماسية السوفيتية على تعزيز العلاقات مع الدول المستقلة حديثاً في آسيا وأفريقيا ودعم حركات التحرر الوطني؛ فنزع الاستعمار سيضعف القوى الإمبريالية الغربية، والانتصار على الرأسمالية  يمكن أن يتحقق في الضواحي وليس في المركز.
وراح الاتحاد السوفييتي يقدم مساعدات كبيرة اقتصادية وتقنية، وأحياناً عسكرية، للدول المستقلة حديثاً، وصار النفوذ السوفييتي يتعاظم في الهند، وأفغانستان، وبورما، ومصر وسورية وغيرها. ففي خريف سنة 1955، قام نيكيتا خروتشوف ونيكولا بولغانين بزيارة الهند، وأفغانستان وبورما، وقدم قروضاً كبيرة لهذه الدول لتطوير اقتصاداتها. كما لعب الاتحاد السوفييتي دوراً بارزاً في إحباط أهداف "العدوان الثلاثي" على مصر.
فقد شهدت الأيام الأخيرة من تشرين الأول والأيام الأولى من تشرين الثاني 1956 قيام تحالف من القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية بالهجوم على مصر. وكانت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي قد عرفت تطوراً كبيراً منذ سنة 1955، وخصوصاً بعد صفقة الأسلحة التشيكية إلى مصر، وتعهد الاتحاد السوفييتي بمساعدة مصر على بناء السد العالي. وعقب قيام الزعيم المصري جمال عبد الناصر بإعلان تأميم قناة السويس، في 26 تموز 1956، بدأت كلُ من بريطانيا وفرنسا، بالتوافق مع إسرائيل، تخططان لاتخاذ تدابير عسكرية ضد مصر. وفي 29 تشرين الأول 1956، قامت القوات الإسرائيلية بالتوغل داخل صحراء سيناء، واحتلت قطاع غزة، بينما كانت القوات البريطانية والفرنسية تقوم بقصف المطارات المصرية، ثم احتلت، في 5 تشرين الثاني، بور سعيد وبور فؤاد. ومساء اليوم نفسه، أرسل رئيس الحكومة السوفيتية نيكولا بولغانين إنذاراً شديداً إلى كل من فرنسا وبريطانيا حمل تهديداً مبطناً باللجوء إلى السلاح النووي ما لم توقفا عدوانهما على مصر فوراً، وتسحبا قواتهما من الأراضي المصرية. وفي 6 تشرين الثاني، مارس الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية، بدوره ضغوطاً على قوات الدول الثلاث الغازية كي توقف المعارك وتبدأ بسحب قواتها من مصر. وهذا ما تحقق، وساهم في تعزيز علاقات مصر، ومعها سورية، أكثر فأكثر مع الاتحاد السوفييتي.
إزاحة خروتشوف عن السلطة
استمر نيكيتا خروتشوف في تجميع السلطات بين يديه، إذ جمع في سنة 1958 منصب الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ومنصب رئيس مجلس الوزراء. بيد أن سلطاته هذه بقيت خاضعة لإرادة أعضاء هيئة الرئاسة واللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وبعد أن نجح في القضاء على المعارضة "المحافظة" التي جمعت مولوتوف، ومالينكوف وكاغانوفيتش في المقام الأول، أثار استياء ضباط المؤسسة العسكرية عندما استبعد جوكوف من هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب، وعندما سرّح من الخدمة عشرات الآلاف من الضباط، الذين عبّروا عن عدم رضاهم عن تعامله مع أزمة كوبا. وفي المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي، الذي انعقد في سنة 1961، أُقر تعديل على النظام الداخلي للحزب، بتوصية من خروتشوف، قضى بالتجديد الدوري لكوادر الحزب وهيئاته القيادية الوسيطة، الأمر الذي أثار حفيظة عدد كبير من هؤلاء الكوادر الذين كانوا من مؤيدي خروتشوف. وهكذا، راحت تتبلور جبهة من المستائين وبدأت تتجمع رياح العاصفة التي أطاحت ، في نهاية المطاف، بحكم خروتشوف.
ففي اجتماع هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في 12 تشرين الأول 1964، الذي عقد بينما كان خروتشوف يقضي إجازته في سوتشي على البحر الأسود، تقرر الدعوة إلى عقد اجتماع موسع للجنة المركزية للحزب، صبيحة اليوم التالي. وقد صادق هذا الاجتماع على استقالة خروتشوف واستبعاده من هيئات الحزب القيادية، وإحلال ليونيد بريجنيف محله في منصب الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وألكسي كوسيغين في منصب رئيس مجلس الوزراء.
وفي 15 تشرين الأول 1964، صدر في الصحف السوفيتية بيان قصير عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي يعلن أن الاجتماع الموسع للجنة المركزية "وافق على تلبية طلب نيكيتا خروتشوف بأن يتحرر من مسؤولياته كأمين أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي، وعضو هيئة رئاسة اللجنة المركزية ورئيس مجلس الوزراء، وذلك بسبب تقدمه في العمر وتفاقم وضعه الصحي".
أهم المصادر:
 إيلنشتاين، جان (Elleinstein, Jean)، من روسيا إلى أخرى: حياة وموت الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الاجتماعية، 1992.
 خروتشوف: ذكريات (Khrouchtchev)، باريس، منشورات روبير لافون، 1971.
 دُولين، سابين (Dullin, Sabine )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، الطبعة الثالثة، باريس لاديكوفيرت، 2009.
 رياسانوفسكي، نيكولا ف. ( Riasanovsky, Nicholas V.)، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا هذه، الطبعة الثانية، باريس، منشورات روبير لافون، 1994.
 سابير، جاك ( Sapir,Jacques)، عودة إلى الاتحاد السوفييتي: اقتصاد، مجتمع، تاريخ، باريس، لارماتان، 1997.
 غرازيوسي، أندريا (Graziosi, Andrea)، تاريخ الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2010.
 ماري، جان جاك ( Marie, Jean Jacques)، تقرير خروتشوف [أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي]، باريس منشورات سوي، 2015.
ويرث، نيكولا (Werth, Nicolas)، تاريخ الاتحاد السوفييتي، من الإمبراطورية الروسية إلى رابطة الدول المستقلة (1900-1991)، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2012.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - خبث تاريخي
فؤاد النمري ( 2017 / 10 / 31 - 08:04 )
ثمة خبث حرفي في هذا العرض اللاتاريخي

اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟