الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية التأريخ والانسان الأوّل!

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2017 / 11 / 8
المجتمع المدني


نهاية التأريخ والانسان الأول!
محمد طه حسين
على العكس من ما قاله هيغل، ومن بعده آخرون أمثال أزوالد شبنغلر وأرنولد توينبي وكوجييف والكاتب الاستراتيجي الامريكي الجنسية والياباني الاصل فرانسيس فوكوياما حول نهاية التأريخ والانسان الأخير أو شيخوخة الحضارة الغربية وشيخوخة الانسان بالمعنى التطوري للفكر الانساني والتأريخ بات مغلقا، أنني ألزم نفسي بالاصرار على قناعة فكرية قديمة لي حول استثنائية المجتمعات الشرق أوسطية وأفرادها من كل هذه الاستنتاجات الفلسفية والتاريخية لهؤلاء العظماء من رجالات الفكر والفلسفة الغربية. فكرة الاستثناء راودتني من خلال المقارنات الذهنية بين ما نقله تأريخ الفكر وتناقلته النظريات الفلسفية والتأريخية والحضارية من حركية الحضارات الغربية والبوذية والكونفوشيوسية والشنتوية من جهة، وركود الزمن الشرق أوسطي والذي لجم قدرة الحراك الحضاري الباعثة من جانبها للسبات التأريخي الطويل الأمد للعقل الفاعل والوعي النشط.
ألزم نفسي عن أنَّ منطقتنا تنطبق عليها مفهوم النهاية كما وضعوا الفلاسفة الغربيين حضارتهم أمام نقطة النهاية في مسيرة التطور العقلي، ولكن نهايتنا ليست كنهايتهم، انهم وصلوا الى القمم كما يعتقدون ولا يرون أية نهاية أخرى أو بالأحرى قمة أخرى لكي يصعدوا ويتسلقوا عليها.
النهاية هنا موتٌ أو وصولٌ الى حالة فوات الأوان دون اللحاق بما يجري ويتحرك ويُحَرِّض حواسنا وشعورنا، بقاءنا الى الآن خارج مدار سيرورة الزمن العقلاني بمثابة الحياة لمُقعَدٍ لا يتحول الى اي متحوَّلٍ سوى البقاء مُقعداً الى أن يموت.
هم في النهاية أعلنوا اكتمال مشروعهم التنويري والحداثوي، فعليهم اذن البت في بداية اخرى لا تشبه البدايات التقليدية، حداثتهم وصلت بهم الى اكتشافات طبية وهندسية وفلكية وفيزيائية وكيميائية وادبية وفنية وفلسفية وتكنولوجية عظيمة، تَجُرّهم عظمة الاكتشافات هذه الى البحث عن زمن غير هذا الزمن، هم في حالة حيرة خيالية وذهنية دفعتهم صوب مخاطرة النهايات، طرحوا الحلول وقدموا البدائل لكل هذه المخاوف، انهم اعترفوا بنهاية تأريخهم ليس استسلاما لليأس بقدر المضي قدماً نحو بديل حضاري آخر يفصلهم عن تأريخهم الهرم، والبت في زمن بلا تأريخ حيث يتقدمون بلا التفاتة وادارة الوجه الى الخلف.
النهاية عند هيغل ليست سوى اعترافه بتقديم النموذج الانسانيّ الغربيّ لأرقى أشكال وصياغات العقلانية والوعي المتمثلة في الفرد الواعي والحر والديموقراطي وهذا بالنسبة له نهاية طريق التي طال بهم الزمن الى أن وصلوا الى تشكيلها وبنائها ومن ثم تكميلها. وعند شبينغلر تعني النهاية وصول الكيان الحضاري الغربي الى مرحلة الشيخوخة كونه مرَّ بكل مراحله وأثقل كاهله بكل منجزات الزمن التنويري والحداثوي، فالتحديث لا يفيد هذا التأريخ الزاخر بالعطاءات العقلية من جهة، وكذلك المزدحم بالانفلاتات التي سببت الكوارث كالحروب والنزاعات المسببة للاستنزاف العقلي باتجاه الهدر المتعدد الأوجه من جهة أخرى، ولم يعد باستطاعة هذا التأريخ حمل المزيد وتقديم الأفضل، ولهذا أقتربت من نهايتها الحتمية على حد رأي شبنغلر.
الاعلان عن لحظات النهاية اطلق فيما بعد على لسان ميشيل فوكو في اعلانه لموت الانسان، والفيلسوف الايطالي جياني فاتيمو في كتابه" نهاية الحداثة"، والفرنسي آلان تورين في كتابه" نقد الحداثة" وآخرين، هذه النهاية قدمت لنا انساناً يعي ذاته ويؤكِّدها، يُقَدِّر ذاته ويشعرها، يُقَيِّم ذاته ويكشفها، يدرك ذاته ويديرها، يفهم ذاته ويحللها. اذن أبلى الفرد الغربي في كل هذه المدة بلاءً حسناً وكان مستجيباً موزونا لنداءات الفكر الفاوستي، على الرغم من أنزلاقات فكرية وتطبيقية أدت الى بروز أتجاهات متشائمة نحو مستقبل المجتمعات الغربية ومفهوم الانسان في المراحل القادمة نتيجة هذه الانزلاقات والانحرافات العقلية المتأسسة على نزعات متفلسفة لهيغل نفسه كتمجيده للنسل الألماني والمركزية الأوروبية، ومن بعده نيتشة في تركيزه على ارادة القوة وضرورة تجلياتها في السيطرة.
أين كُنّا نحن في كل هذه المدة؟ وبماذا كُنّا منشغلين؟ هل دخلنا دوائر الحضارة وساهمنا في بناء أساسياتها؟ أم ما زلنا طور التكوين البيواجتماعي المحتفظ بوجوده وبقاءه ككائن يتحرك ويتنفس فقط ويقدم نفسه كظاهرة تقليدية وكأحد خلق الله على الأرض!؟.
اذا كان التأريخ الغربي يطلق أنفاسه الأخيرة حسب آراء المؤرخين والفلاسفة الغربيين الآنفة الذكر، واذا كان الانسان فيه تجاوز فقرات هذا التأريخ ومفاصله المرحلية المتلاحقة وأكتمل بناء مشروعه الانساني وفق الأطر الانسانية، فالحضارة هنا عندنا لم تبدأ، والأنسان مازال في طوره الأوّلي لم يدخل التأريخ وما زال خارجه، كونه الى الآن يساير هذا التأريخ ويتكيف انعكاسيا مع حركية الطبيعة والمناخ والتحولات الحضارية التي يخلقها الآخر الحضاري البعيد جغرافياً، والبعيد تقليديا وفكريا ومعرفياً منا.
دخول التأريخ يأتي من خلال عنصر الصراع واتخاذ مواقف ذهنية تجاهه بغية ايجاد مواضيع من هذه الطبيعة وجعلها قيد تصرف هذا الانسان الفعال والنشط الذي قرر أن لا يبقى مسلوبا أو بالأحرى سلبياً تجاه التحولات التي تجري دون أن يكون له موقف عقلي ومعرفي تجاهها.
نحن لم نقرر الى الآن أن يكون لنا أثر لفاعليتنا العقلية على طبيعتنا، تأريخنا يبدأ عند انتهاء مفصل من مفاصلها، دون الوعي بأهمية الترابط التكاملي بين المفاصل بغية رؤيتنا لطبقات متماسكة تكمل بعضها البعض. نحن لم نعمل أبداً لبناء حضارة وسط هذا التأريخ المزدحم بالحضارات، استهلاكية الزمن أصبحت سمة سايكولوجية جماهيرية تتجلى في التعامل الفردي مع المواقف، وكذلك في ضعف الذاكرة الجمعية غير المستثمرة لقدرتها في البناء الهرمي للوجود المجتمعي والحضاري التي تقدم نفسها كلاعب لها مهاراتها ضمن الحراك الثقافي والحضاري العالمي.
قدرة بناء الذاكرة والشعور الجمعيين مرتبطة عضوياً بقدرة الثقافة على الايداع المستمر لمكونات التفكير العقلاني المنبني أساساً على سايكولوجية الوعي بالصراع والوعي بأهمية وضع الأثر البشري الفاعل على المحيط. الحضارة لها شخصيتها المكوَّنة من تأريخ المراحل المكوِّنة لبعضها والتي تأتي كحلقات زمنية تكون في النهاية عمر الحضارة. هنا بيننا لم نحس ونشعر بالبنيان الهرمي لهذا الجسد الحضاري وهذه الروح الواعية الفاعلة التي تحرك هذا الوجود الحي.
اذن الانسان هنا مازال في طوره التكويني البدئي لم يهيئ له أو بالأحرى لم يتمكن بناء أرضية، يكون هو الفاعل الرئيسي عليها بدل أن يجعل من نفسه مستجيباً سلبياً لمثيرات المحيط. الانسان الأول هو المتوغل في دهاليز البساطة الروحية والزيف الذاتي، بساطة الروح عنده بمثابة سذاجة الذات التي لم تعي وجوده الضائع في الحشد اللامتفكر.
الانسان الأول لم يدخل عمليات الأنسنة بالمعنى الحداثوي للمفهوم، هو المستقوي بالجمع والآخرين، ويرى أن بقاءه لوحده يعني انعزاله عن مصدر الطاقة التي تحميه وهو الجمع، وقد يُؤكل ولا يمكنه السير وسط المخاطر والتهديدات الموجهة لوجوده المادي. الانسان الأول هو المتمرد الخائف على النظام والتنظيم ولا يدرك منفعة الاستقامة الذاتية في وجه المواقف التي تواجهها، لا يعي قدراته الكامنة التي تتحرر عند الاعتراف بقيمته الفردية والشخصية.
بناء الحضارة بحاجة الى الاصلاح الثقافي الواسع والغربلة الجريئة في هذه الثقافة المشلولة، والاصلاح يبدأ بالخروج أولاً من حالة الرضاعة الأزلية على حد قول أريك فروم، والبحث عن مقومات صناعة الحياة وجودتها مثلما يرشدنا مارتن سليغمان، وبهذه الجرئة بمقدورنا أن نرفع رأسنا وصوتنا بين الآخرين الذين لهم ما نحسدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط


.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا




.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد