الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنهم يهزون الأرض

فهد المضحكي

2017 / 11 / 11
سيرة ذاتية


عبدالله خليفة في مجموعته القصصية الجديدة «إنهم يهزون الأرض» الصادرة حديثاً عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع يكتب عن ذاك الفتى الأسمر المحب لقصائد الحرية وللياقات الزرقاء وليالي الحارات القديمة.. يكتب عن العاشق للموسيقى وهو يقهر الحزن والصمت بين جدران الزنازن من أجل الحرية والمساواة. ومن أجل حياة سعيدة ورقي إنساني لم يتوقف عن فك الحروف الموسيقية والرقص في تلك الجزيرة البعيدة.
يقول خليفة: في تلك العشش التي نبتت في جوار البحر مع اليابسة، في ذك الخوص المشتعل في القيظ وجد نفسه يخرج من بطن أمه الأرض وهو يرقص!
عارياً في المياه يستعيد رحلة العبيد المسلسلين في السفن، يمسك أداته الموسيقية ويعزف في كل الدروب، في يقظة الخلايا، بجسمه القصير، وبوجهه الأسمر وعينيه النفاذتين كأنه فهد يطالع الأشياء والبشر، يغرز حربته في التراب والورق وخرائط الأرواح.
وفي حديثه عن إبداعه الخلاق المتدفق يقول في زنزانته في وسط jail كما يردد السجناء يشعل النور في ظلمة الجزيرة، ويكتب في دفاتره التي لا تنتهي، ويحدق في الكتب الاجنبية يستل حروفاً وكلمات، يترجمها، يعربها، يُحضر عالماً من الفرح والأنين والغناء والهمس وانفجارات الموسيقى بين بحر من القتلة واللصوص.
كما يحكي خليفة عن ولادة ذاك الفتى الأسمر والعشش وأمواج الطبول والطارات والأقدام العارية والرقص الجماعي الذي يدور حول صارية، حول ثلة تضرب الجلود بقوة لتهز الأرض، تدور حول صارية السفينة التي تاهت في البحار، وعن نساء ورجال يرقصون، يفرحون، يتجمعون، يأتون من كل مخزن غارق تحت الأرض ومن الحفر ومن الموانئ التي سلخت ظهورهم ببضائعها وشمسها، ويطلقون الأرواح المحبوسة فتصير وردة او تصير سكيناً تغوص في صدر ما، او تصير نشوة في كوخ يضج بعدها طفل بصراخ الولادة او تصير لحناً يبتكر المشاعر.
وسيتطرد خليفة في سيارة الشركة الطويلة، وامتدادها الثعباني السائر نحو البرية، هذا الثعبان الذي يبلعهم كل يوم، ليقذفهم في الصحراء، يخرجون ذلك الساحر من بطن الأرض ليضعوه في البراميل والأنابيب، كان يعزفُ، العمال الذين تهدهدهم سيارة (سالم الخطر) وتتقلب بهم، وينعسون، يوقظهم مجيد بصراخه وعزفه وضحكاته، كانوا ينتزعون الساحر الأسود الذي لعب في الأعماق، ويحيلونه الى أسماك صغيرة في أيديهم.
ويستطرد ايضاً أمه الصامتة الهادئة، تترنم بالفارسية والعربية، صنعت أولاداً انغمروا في العيش الصعب، لا أحد يسمع ما تهمس به، لا تغضب من رفاقه الذين يتدفقون على بيته، يجثمون ليتكلموا كثيراً، هو ينتزع منها تلك الأغاني التي ضاعت في البراري والجبال والسفن الغارقة، وحملها المهاجرون الى أصقاع البحر النائية، يدونها، يحرك موسيقاها الداخلية، ويجلب المعاجم، هذا الفارس العربي العالمي، هذا الأسود القمحي المضيء يدس رأسه الصغير في جبال الكلمات، وسيجارته لا تفارقه، Lucky Strike الامريكية الحمراء، عدوة الإضرابات والصدور، يصنع الشاي الأحمر المميز، ويرى نفسه يصعد، يصير بتهوفن آخر في الشرق، العازفون حوله، وهو يصعد المسرح، الخشبة عالية، وهو يمسك عصا المايسترو ويحرك العالم والبشر بموسيقاه.
ويقول عنه في تلك الجزيرة يطلق صرخاته ومعزوفاته الهادرة، يحرك يديه ويخرج المايسترو من بدلة السجن المهترئة، التي فقدت لونها في ما قبل تاريخ الألم، ويتراءى وله حشد من العازفين، واللحن يهدر ويرتخي وينام وينقض على بقع الظلام ويصرخ في الأنام، فيرى السجناء موج البحر يتحرك وتمشي الجبال الصغيرة نحو الحرية، وتهرول ضفاف الحلم القريبة من مصائدهم وجراحهم الى النساء والشوارع والبيوت.
قليل من الكوابيس تطارده، الكابوس المستمر جثومه في جوف السمكة الكبيرة العفنة التي تبدو أنها لا تمضي، متكلسة في المياه العميقة، وتفرز عليه أحماضها وصديدها وماء نارها، وهو يزحف في الظلام نحو سيارة الضابط الأجنبي، يصنع قنبلته، لتصعد السيارة في اليوم التالي الى الطابق الثاني من العمارة تنزل الملابس المعلقة والحديد، الشاب الغامض المجنون والغريب العازف، العالم الساحر، لم يظن أحد انه يفعل شيئاً، لكن العيون تسللت الى مخدعه، ينهض في عمق الليل وهو مغسول بالعرق والقيود تطبق على رقبته، ويرى الأمهات اللواتي تعذبن يمسحن ماءه.
السنوات تمر وهو الذي كان يجرجر سلاله في الجزيرة تعب منه الحديد وغادره، ولم يرَ أمه وهي تموت في المستشفى نازفة آخر أمعائها، تلك المرأة الكستناء، بائعة الحلوى للأطفال في الحي بعباءتها الجاثمة على البساط، في الشارع المشعة، التي تواصلت معه طوال خمسة وعشرين عاماً تركته أخيراً، رحلت، وهو يصرخ عند الأسلاك الصدئة، والعالم نائم، العالم كله تركه، لكن السجناء جاءوا اليه في عمق الظلام والصمت.
يهز الأرض بقدميه، تعب الزمان منه والوحوش التي أكلت من جسمه يئست، وغادرت قوقعته الضاجة، بالأنين والحنين والأصداء المخيفة، والأوراق تعبر الحدود، تسكن في مدينة السين والتماثيل، يظهر المايسترو هناك يتطلع الى ورق أصغر ممزق قادم من جزيرة صغيرة بحجم نملة في الخليج، يحدق فيه بإعجاب ويحرك عصاه ليحرك الأرض ويهز طبقات الصمت.
لا شيء يبقى، لا شيء يزول، ومجيد راقد ينزف رئته من التبغ والموسيقى حوله صبية، وزوجه وأصدقاء كثيرون، يحمل جزيرته الشبحية الدامية معه كما يحمل النوتات والدفائر الكثيرة التي كتبها، وما تزال قدماه الشيطانيتان تدقان الأرض بتوتر.

• للراحل عبدالله خليفة أعمال أدبية وفكرية لم تطبع بعد وبجهود شقيقه عيسى أنجز البعض منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة