الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السَبي ومغالطة الأستاذ طلعت خيري !

سرمد أبي وداد

2017 / 11 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


السَبي

السبي هو حالة الوجود تحت عبودية الأسر, على الأخص في أرض غريبة, وقد اعتاد الكلدانيون أن ينقلوا أهل البلاد التي يفتحونها إلى بلاد أخرى حتى يفقدوا حماسهم الوطني, بعيدًا عن ذكريات الوطن.

ويذكر الكتاب المقدس سببين هامين وقعًا للعبرانيين بسبب الخطيئة والبعد عن الله:

السبي الأول سبي الأسباط العشرة أو مملكة إسرائيل الشمالية:-

ففي عام 842 ق.م. كان ياهو يؤدي الجزية إلى شلمنأَصر ملك آشور, وأثناء حكم تغلث فلاسر (746 - 728 ق.م) بدأ الآشوريون يسبون سكان الأرض. وفي أثناء حكم فقح سبي سبط نفتالي (2 ملوك 15: 29) ثم سبي بقية السكان من الروأبينيين والجاديين ونصف سبط منسى إلى ما بين النهرين (1 أخبار 5: 26) ثم حوصرت مدينة السامرة وسقطت بيد سرجون عام 722 ق.م. وسبي السكان إلى مادي وما بين النهرين (2 ملوك 17: 5 و6 و18) أما الباقون في الأرض فقد دفعوا الجزية. وملأ الآشوريين الأرض بغرباء أتوا بهم من بلاد أخرى, فامتلأت الأرض بعبادة أصنام هؤلاء الغرباء.

وبعد أن ردّ الرب سبي الشعب بقي كثيرون من اليهود في الخارج, وكانوا يزورون أورشليم بين آن وآخر (أعمال 2: 8 و9).

أما السبي الثاني الهام فهو:

سبي يهوذا (سبي بابل):-
وقد سبق أشعياء وتنبأ عن هذا السبي قبل وقوعه بمئة وخمسين عامًا (أشعياء 6: 11 و12) وتنبأ إرميا أن مدة السبي ستكون سبعين عامًا (25: 1 و11 و12).

وقد تم هذا السبي على يد نبوخذناصر في أربع مراحل في عام 605 ق.م 597 ق.م. و587 ق.م. ثم في عام 582 ق.م. (2 أخبار 36: 2 - 7) فأخذ نبوخذنصر عظماء البلاد ومنهم دانيال ورفاقه, والعمال الفنيين, كما أخذ آنية الهيكل وأخربه بعد ذلك.

وقد وصل اليهود في السبي إلى مراكز محترمة جدًا, فامتلكوا البيوت, وكان لهم الخدم, واشتغلوا بالتجارة (عزرا 2: 65 ودانيال 2: 48 ونحميا 1: 11) وكان كهنتهم يعلمونهم هناك, كما كان حزقيال يتنبأ لهم (عزرا 1: 5 وحزقيال 1: 1) ثم سقطت بابل في عام 539 ق.م. في يد كورش الفارسي, فسمح بعودة اليهود إلى أرضهم, ولكن كثيرين منهم فضلوا البقاء في بابل, فصار اسمهم يهود الشتات؛ وعاد بعضهم إلى أرض آبائهم تحت قيادة زربابل (عزرا 2: 2) ثم تحت قيادة عزرا (عزرا 7: 1 - 7) ثم تحت قيادة نحميا (نحميا 7: 5 - 66).

السَبي البابلي
سبي المملكة الجنوبية , سبي يهوذا

حدث السبي البابلي ليهوذا علي يد نبوخذراصر ملك بابل الكلداني. فبينما تعرضت المملكة الشمالية (إسرائيل) للكثير من الانقلابات وقيام أسرات ملكية في تعاقب سريع، ظلت مملكة يهوذا موالية لبيت داود، وقد ساعد علي ذلك وجود الهيكل والكهنوت في أورشليم عاصمة يهوذا، وقد استمرت مملكة يهوذا نحو 150 سنة بعد القضاء علي المملكة الشمالية - (إسرائيل) علي يد الأشوريين.

1- انحلال الامبراطورية الأشورية: فبعد سرجون الذي غزا السامرة في 722 ق.م. جلس علي عرش أشور بعض الملوك العظام الذين اشتهروا بفتوحاتهم والمباني الكثيرة التي أقاموها والكتابات والنقوش العديدة التي خلفوها، مثل سنحاريب وآسرحدون وأشور بانيبال. وعندما مات أشور بانيبال في 625 ق.م.، كانت الإمبراطورية الأشورية قد أوشكت علي الانحلال، فضعفت قبضتها علي الأقطار الغربية، وبدأت الشعوب الخاضعة للجزية في التمرد وشق عصا الطاعة، فزحفت جحافل السكيثيين -وهم قبائل بدوية من الجنس الآري- من المنطقة المحصورة بين جبال القوقاز وبحر قزوين، علي الامبراطورية الأشورية حتي وصلت إلي فلسطين وحدود مصر. وتلقي نبوات إرميا وصفنيا الضوء علي أسلوبهم في الحرب وطبائعهم الشرسة، ولكن مصر صدتهم، ويبدو أنهم عادوا أدراجهم شمالًا دون أن يحاولوا غزو يهوذا.

2- سقوط نينوى في 606 ق.م.: أطبقت هذه الجحافل الزاحفة من الشمال علي نينوي، وكانت قوة أشور قد بدأت في الاضمحلال في كل ناحية. ويتنبأ النبي ناحوم في "وحي علي نينوى" عن ابتهاج يهوذا بسمع الأخبار المفرحة عن سقوط نينوي القريب"، "هوذا علي الجبال قدمًا مبشر مناد بالسلام! عيدي يا يهوذا أعيادك أو في نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضًا المهلك - قد انقرض كله" (1:5 مع 3:8-11)، واستعاد الميديون استقلالهم وتحالفوا بزعامة ملكهم سياجزارس مع الكلدانيين الذين سرعان ما ثاروا بقيادة نبو بولاسار نائب الملك علي بابل، وحشد نبو بولاسار حوله كل هذه القوي المتمردة وحاصر نينوي عاصمة أشور في 606 ق.م. فسقطت نينوى التي كانت قصبة المملوك الأقوياء والفاتحين العظام، والتي أكثرت تجارها أكثر من نجوم السماء ( ناحوم 3:16). سقطت نينوي مرة واحدة ونهائيًا أمام حجافل الميديين والكلدانيين، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.

3- تمرد فرعون نخو: ولا ريب في أننا نفهم دواعي ابتهاج يهوذا بسقوط نينوى والإمبراطورية التي تمثلها. لقد نجت أورشليم برحمة الله من حصار سنحاريب لها قبل ذلك بنحو قرن من الزمان، عندما سبي من البلاد المحيطة بها 150 ,200 من النفوس، ودمر ما فيها من مدن وحصون. ولكن نير أشور البغيض استقر علي يهوذا للنهاية، وليس علي يهوذا فحسب، بل وعلي مصر ووادي النيل. وفي 608 ق.م. تمرد فرعون نخو ملك مصر علي سيده ملك أشور، وعزم علي الزحف شرقًا، ولم يكن في نيته أن يحارب يوشيا ملك يهوذا، الذي كان لابد أن يعبر في أرضه، ولكن يوشيا -موالاة لسيده ملك أشور- اعترض طريق المصريين، فقتله فرعون نخو في معركة مجّدو ؛ ويبدو أن فرعون عاد إلي مصر وأخذ معه يهوآحاز بن يوشيا، وأقام عوضًا عنه أخاه يهوياقيم ملكًا علي يهوذا بعد أن غرَّم يهوذا جزية كبيرة (مئة وزنة من الفضة ووزنة من الذهب - 2 مل 23: 31-34).

4- هزيمة نخو في كركميش في 604 ق.م.: لم يرجع نخو عن غايته في تكوين إمبراطورية شرقية، فسار في طريقه حتى بلغ نهر الفرات حيث تقابل مع الجيوش البابلية بقيادة نبوخذراصر، فهزمه بنوخذراصر هزيمة منكرة في موقعة كركميش في 604 ق.م.، وبذلك أصبح الكلدانيون سادة أسيا الغربية بلا منازع، وأصبحت مملكة يهوذا خاضعة للنفوذ البابلي بعد أن كانت خاضعة للنفوذ الأشوري.

5- الإمبراطورية البابلية الجديدة في زمن نبوخذراصر من 604-562 ق.م.: ولم يكن هناك فرق كبير بين قسوة طغيان السادة الجدد وطغيان السادة السابقين، حيث يصف حبقوق الإمبراطورية الكلدانية بالقول:"الأمة المرة القاحمة.. خليها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلي الأكل" (حب 1: 7 و8). وبعد موقعة كركميش، أصبح نبوخذراصر سيدًا علي كل أسيا الغربية بما فيها يهوذا، وكان من العبث أن تحاول يهوذا الارتماء في أحضان مصر، وهي تري أن لنبوخذراصر ذراعًا طويلة وقوية يستطيع بها تأديب من يخرج من عبيده عن طاعته.

وكانت رسالة إرميا النبي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ يهوذا، وهي أن السبيل الوحيد للنجاة من نقمة الله التي توشك أن تقع علي البلاد والشعب، هو الخضوع والطاعة لملك بابل والإِصلاح الأدبي بعد أن استشري الفساد. ويخبرهم باسم الرب، بالدينونة الوشيكة الوقوع علي يد الكلدانيين علي أورشليم والشعوب المجاورة، بل إنه ينبئهم بمدة خضوعهم للكلدانيين: "وتصير كل هذه الأرض خرابًا ودهشًا وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة" (ارميا 25: 11). ولكن لم تكن رسالة إرميا هذه مقبولة عند أنصار مصر وعند الذين كانوا يعتقدون في مناعة أورشليم. ولكن النبي أعلن مصير أورشليم في عبارات صارمة وتصوير قوي، فأدي رسالته بكل أمانة في مواجهة اضطهادات عنيفة بل والمخاطرة بحياته.

6- تمرد يهوياقيم وعقابه في 608-597 ق.م.: كان يهوياقيم -الذي كان خاضعًا أولًا لفرعون نخو، ثم لنبوخذراصر- مثالًا صادقًا لما كان عليه شعبه من فساد وشر، فقد وبخه إرميا علي الطمع وسفك الدم الزكي والاغتصاب والظلم (ارميا 22: 13-19). وكانت السنة الرابعة ليهوياقيم هي السنة الأولي لنبوخذراصر، الذي انتشي بنصره في موقعة كركميش، فبسط سطوته علي العالم الغربي، وأصبح ملك يهوذا الذليل خاضعًا لنبوخذراصر، واستمر في ولائه له ثلاث سنوات " ثم عاد فتمرد عليه " ولكنه لم يجد تشجيعًا أو معاونة من الشعوب المجاورة، بل بالحري "أرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الأراميين، وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون، وأرسلهم علي يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الأنبياء" (2 مل 24: 2). وتاريخ يهوياقيم بعد ذلك، يحوطه الغموض، فنقرأ في سفر الملوك الثاني، أنه بعد أن ملك إحدى عشرة سنة، اضطجع مع آبائه (2 مل 23: 36، 24 : 6) مما نفهم أنه مات موتًا طبيعيًا. ونقرأ في نبوة دانيال ":" أنه في السنة الثالثة من ملك يهوذا ذهب نبوخذاصر ملك بابل إلي أورشليم وحاصرها " وأخذ معه -بالإِضافة إلي آنية بيت الله- أفرادًا من النسل الملكي ومن أشراف يهوذا، كان منهم دانيال النبي، ويبدو من سفر أخبار الأيام الثاني، أنه كان بينهم أيضًا الملك يهوياقيم نفسه:" عليه صعد نبوخذناصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب (؟) به إلي بابل" (2 اخ 36: 6). ويضيف المؤرخ في سفر الملوك بعد أن سجل موت يهوياقيم، هذه العبارة الهامة:" ولم يعد أيضًا ملك مصر يخرج من أرضه لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلي نهر الفرات كل ما كان لملك مصر" (2 مل 24: 7).

7- حصار أورشليم واستسلامها في عهد يهوياكين في 597 ق.م.: ملك يهوياكين الذي خلف أباه يهوياقيم، ثلاثة أشهر، وهي نفس المدة التي ملكها عمه يهوآحاز المسكين ( 2 مل 23: 31). وقد سُبي يهوآحاز إلي مصر، أما يهوياكين فقد سُبي إلي بابل، وكانا موضوع المرثاة الرائعة التي أمر الرب حزقيال أن يرفعها علي رؤساء إسرائيل، حيث يشبهما بشبلين ابني لبوءة هي إسرائيل تعلما افتراس الفريسة والتهام الناس، ولكنهما أُخذا في حفرة الأمم ووضعا في قفص بخزائم حتى لا يسمع صوتهما بعد علي جبال إسرائيل (حز 19: 1-9).

8- السبي الأول في 597 ق.م.: جاء نبوخذنصر بنفسه بينما كان عبيده يحاصرون أورشليم، فاستسلم يهوياكين علي الفور، فأخذ نبوخذنصر يهوياكين وأمه وعبيده ورؤساءه وقواده وجميع جبابرة البأس حتى بلغ عددهم عشرة آلاف، "لم يبق إلا مساكين شعب الأرض".. "وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وكسَّر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب كما تكلم الرب " .. وجميع أصحاب البأس سبعة آلاف والصناع والأقيان ألف وجميع الأبطال أهل الحرب سباهم ملك بابل إلي بابل. وملك ملك بابل متنيا عمه عوضًا عنه وغير اسمه إلي صدقيا" (2 مل 24: 10-17). وتبدأ مدة السبي البابلي بسبي يهوياكين الملك في 597 ق.م. وقد عاش هذا الملك المسكين مدة 38 سنة في السبي، ويبدو أنه استعاد احترام وولاء المسببين الذين عاش بينهم.

ويشير إرميا إلي سبي الرؤساء والصناع والأقيان، برؤيته التي رأي فيها سلتي التين، في أحدهما تين جيد مثل التين الباكوري، وفي الأخرى تين رديء جدًا لا يؤكل من رداءته ( إرميا 24: 1-3). والتين الجيد إشارة إلي سبي يهوذا الذي أخذ إلي أرض الكلدانيين للخير، أما التين الرديء فأشار إلي صدقيا الملك ورؤسائه وبقية أورشليم الذين ستنصب عليهم دينونات قاسية حتى يفنوا عن وجه الأرض.

9- خدمة حزقيال: كان بين المسبيين إلي بابل الذين وضعوا علي ضفاف نهر خابور، النبي الكاهن حزقيال، وفي السنة الخامسة من السبي بدأ يري "رؤي الله العجيبة ويوضح معانيها للمسبيين عند انهار بابل.. ولم يستطع حزقيال أن يكلم المسبيين البائسين والمثقلين بالهموم من جهة مملكة يهوذا التي لم تكن قد انهارت بعد ومن جهة المدينة المقدسة التي لم تكن قد احترقت بعد، لم يستطع أن يكلمهم إلا بالرموز والاستعارات عن دمار المدينة والأمة إلي اليوم الذي وصلتهم فيه أخبار سقوطها بالكامل، فبدأ بعد ذلك يكلمهم لا بالمراثي مثل تلك التي تكلم بها إرميا، بل بالحري بنبوات مفرحة عن المدينة وقد أعيد بناؤها، والمملكة وقد أعيد تأسيسها، وعن هيكل جديد مجيد.

10- خدمة إرميا في أورشليم من 597-588 ق.م.: رغم أن زهرة السكان قد سبوا إلي بابل، ونهبت كنوز الهيكل، فإن المدينة والهيكل ظلا قائمين. وكان لدي إرميا رسالة للباقين في البلاد وكذلك للمسبيين في بابل. فقدم نصائحه للمسيبين بالخضوع والاستقرار، وكيف أن العبادات الوثنية البغيضة المحيطة بهم يجب أن تدفعهم للعودة إلي ناموس إلههم وهكذا تعمل علي تجديدهم أدبيًا وروحيًا: " هكذا قال الرب .. أعطيهم قلبًا ليعرفوني أني أنا الرب فيكونوا لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا لأنهم يرجعون إلَّي بكل قلبهم" (إرميا 24 : 5، 7). أما نبواته "لبقية أورشليم " ونصائحه لهم، فكانت قاسية عرضته للشك في ولائه لشعبه ولإلهه، ولم يكن في تحذيراته ما هو أعمق أثرًا من الربط والآنيار التي أمره الرب أن يصنعها لنفسه ويجعلها علي عنقه ويرسلها إلي ملوك أدوم وموآب وعمون وصور وصيدون الذين يبدو أنهم كانوا يفكرون في تكوين حلف مع صدقيا ضد نبوخذراصر ؛ وقد اضطر الملك صدقيا للخضوع ولكنه ظل يعلل نفسه بأن ملك بابل سيسمح للمسبيين من يهوذا بالعودة، وقد ذهب هو نفسه إلي بابل، ربما بدعوة من سيده ملك بابل (إرميا 51: 59). ولوجود حزب موال لمصر في أورشليم كان يحرض الملك علي التحالف مع مصر، ولوجود فرعون شاب ميال للحرب، علي عرش مصر -هو خفرع (إبريس)- ظن صدقيا أن الفرصة مواتية للحصول علي الاستقلال، فتآمر مع ملك مصر وتمرد علي ملك بابل (2 مل 24: 20).

11- تمرد صدقيا وحصار أورشليم، 588-586 ق.م.: لقد كان تمرد صدقيا مغامرة جريئة، ولكن نبوخذراصر لم يكن ليقبل مثل هذا العصيان من أتباعه، فزحف في الحال إلي الغرب، وأوكل إلي نبوزرادن مهمة الاستيلاء علي أورشليم، أما هو نفسه فقد جعل مقر قيادته في ربلة علي نهر الأورنت في سوريا، وفي هذه الأثناء اجتاز فرعون الحدود علي رأس جيشه لنجدة حلفائه، فاضطر الكلدانيون إلي رفع الحصار عن أورشليم لمقابلته في العراء (ارميا 37: 5)، ولكن فرعون خانته شجاعته وأثر السلامة، فرجع بسرعة بدون الدخول في معركة، فعاد بنوزردان إلي حصار أورشليم حصارًا اشدَّ من الحصار الأول.

وفي الفترة القصيرة التي شم فيها المحاصرون أنفاسهم لانسحاب الكلدانيين، خرج إرميا من أورشليم ليذهب إلي موطنه في عناثوث علي بعد نحو أربعة أميال إلي الشمال الشرقي عبر الجبل، لشأن عائلي (ارميا 37: 11-15) واكتُشِفَ رحيله، فقبض عليه واتهم بأنه يقع إلي الكلدانيين، ووضعوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب، وبينما هو هناك أرسل الملك صدقيا وأخذه وسأله سرًا، وقال له: "هل توجد كلمة من قبل الرب ؟ " فاجأبه إرميا بدون وجل: "توجد .. إنك تدفع ليد ملك بابل ". وقد تمتع إرميا، بعد ذلك -بتدخل من الملك صدقيا- بقسط أكبر من الحرية. ولكن بسبب مواصلته المناداة في آذان الشعب بضرورة التسليم، تآمر أعداؤه علي قتله، فألقوه في جب موحل لاماء فيه، حيث تعرض لخطر الموت اختناقًا أو جوعًا. ومرة أخري سعي الملك لمقابلة إرميا وأعدَّ إياه سراَّ بأنه لن يقتله ولن يدفعه إلي أيدي أعدائه ليقتلوه، فنصحه ارميا مرة اخري بالتسليم، وظل ارميا يتمتع بقسط من الحرية.

12- تدمير أورشليم في 586 ق.م.: لكن المدينة كانت علي وشك أن تلقي مصيرها، "ففي السنة الحادية عشرة لصدقيا" (586 ق.م.) في الشهر الرابع في تاسع الشهر فتحت المدينة" (ارميا 39: 1 و2 ) فانقض الكلدانيون عليها بعد أن كانت شهور الحصار والجوع قد فعلت فعلها. ويبدو أن صدقيا وكل رجال الحرب لم ينتظروا نهاية الهجوم بل هربوا "ليلًا من المدينة في طريق جنة الملك من الباب بين السورين " وساروا شرقًا في طريق العربة، ولكن جيش الكلدانيين سعر وراءهم " فأدركوا صدقيا في عربات أريحا " فأخذوه أسيرًا وأتوا به إلي نبوخذراصر إلي ربلة فقتل ملك بابل بني صدقيا في ربلة أمام عينيه، وقتل كل أشراف يهوذا، ثم قلع عيني صدقيا. وفي تلك المرة لم تنج المدينة ولا الهيكل ولا القصر " وأحرق (نبوزردان) بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار" (2 مل 25: 9)، وهدم جنوده ايضا جميع أسوار أورشليم مستديرا. ًوكل كنوز الهيكل وأمتعته الثمينة -التي أفلتت من النهب في المرة الأولى- أخُذت إلي بابل. لقد حاق الدمار الكامل بأورشليم. ويسجل سفر المراثي مدي ما أحس به شاهد عيان، من حزن وعار وندامة علي المسبيين وخراب المدينة المقدسة: "أتم الرب غيظه، سكب حمو غضبه وأشعل نارًا في صهيون فأكلت أسسها. لم تصدق ملوك الأرض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم.. ويل لنا لأننا قد أخطأنا. ومن أجل هذا حزن قلبنا. ومن أجل هذه أظلمت عيوننا. ومن أجل جبل صهيون الخرب. الثعالب ماشية فيه" (مراثي 4: 11 و12، 5: 16-18).

13- السبي الثاني في 586 ق.م.: يقول النبي إلذي عاصر حصار المدينة وسقوطها: "فسُبي يهوذا من أرضه" (إرميا 52: 27)، ويبدو شيء من الغموض في أعداد المسبيين، فنقرأ في ارميا (52: 28-30) عن ثلاث دفعات للسبي، ففي 597 ق.م. سبي 3,023من اليهود، وفي 586 ق.م. سبي نبوخذراصر 832 نفسًا.

14- السبي الثالث في 581 ق.م.: وفي 581 ق.م. سبي نبوزرادان رئيس الشرط 745 نفسًا من اليهود، فتكون جملة النفوس 4,600 (ارميا 52: 30). ونجد في سفر الملوك الثاني (24: 15 و16) أن نبوخذراصر قد سبي في 597 ق.م. ثمانية الاف. ويقدر دكتور جورج آدم سميث -بعد دراسة كل البيانات- أن أكبر رقم محتمل هو 62,000 - 70,000 من الرجال والنساء والأطفال (أي أقل من النصف السكان). ففي 597 ق.م. أخذ نبوخذراصر الرؤساء والشرفاء والصناع والأقبان تاركًا فقط مساكين شعب الأرض (2 مل 24: 14). وفي 586 ق.م. سبي نبوزرادان بقية الشعب الذين تركوا في المدينة، ولكنه أبقي من مساكين الأرض كرامين وفلاحين" (2 مل 25: 12)، ويقول دكتور جورج آدم سميث (في كتابه: "أورشليم" - المجلد الثاني، 268-270): "لقد كانوا -كما يذكر الكتاب- مساكين شعب الأرض، قد أخذ من بينهم كل إنسان لديه مال أو قوة، مجرد مجموعات من الفلاحين بلا قائد وبلا مركز، مشتتين مكتئبين، يعضهم الجوع بأنيابه، ويحيط بهم الأعداء من كل جانب، غير متعلمين، فريسة سهلة للوثنية التي كانت تحاصرهم. ونحن نقدر صمت الكتاب بخصوصهم، مما جعلنا لا نعرف أعداهم علي وجه اليقين لقد كانوا كمية مهملة بالنسبة لمستقبل إسرائيل دينيًا، كانوا بلا حافز، لا حول ولا طول لهم، بل كانوا عبئًا ثقيلًا علي قادة الأمة الذين أعادوا بناءها بعد العودة من بابل ".

15- جدليا حاكم اليهود: أقام نبوخذراصر ملك بابل جدليا بن أخيقام واليًا علي الشعب الذي بقي في أرض يهوذا، وجعل مقره في المصفاة، ومعه حامية من البابليين للحراسة. وكان أمام إرميا أن يختار بين البقاء في أرض يهوذا أو الذهاب إلي بابل، ولكنه فضل البقاء مع بقية الشعب تحت رعاية جدليا. وبمقتل جدليا بيد إسماعيل بن نثنيا من النسل الملكي -الذي نجا بعد ذلك بنفسه وهرب إلي بني عمون- بدا أنه قد باد آخر أثر لمملكة يهوذا. وأخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه كل بقية الشعب الذين استردهم من إسماعيل بعد مقتل جدليا، وعزم علي السير إلي مصر -رغم نصيحة إرميا- وصمموا علي أن يأخذوا معهم إرميا وباروخ ( ارميا 43: 1-7). وهناك في مصر -وسط مشاهد الإحباط وخيبة الأمل التي كانت تحيط بهم- سجل ارميا لنا المرحلة الأخيرة من سقوط يهوذا.. وقد اكتشفت آثار هامة لسلالة أولئك الذين استوطنوا مصر. وتتكون هذه الآثار من برديات بالأرامية وجدت في أسوان، ترجع إلي عصر لا يتجاوز القرن بعد موت إرميا. وهذه الوثائق عبارة عن حسابات وعقود وصكوك عقارية من كل نوع، نعرف منها أنه في القرن الخامس قبل الميلاد كان هناك يهود -منفصلون عن الآخرين كالعهد بهم- يعبدون الرب "يهوة" ولا يعبدون معه إلهًا آخر، بل لقد كان لهم معبد ومذبح للمحرقات التي كانوا يقدمونها لله كما فعل آباؤهم في أورشليم قبل تدمير الهيكل. وهذه البرديات تعطينا لمحات -عظيمة القدر- عن الحالة الاجتماعية والاهتمامات الدينية لأولئك المستوطنين.

16- المسبيون في بابل: ونعلم شيئًا عن أحوال المسبيين الذين نقلهم نبوخذراصر إلي بابل فأقاموا علي ضفاف أنهارها، من بنوات دانيال ونبوات حزقيال ومزامير السبي. ونعرف من نبوات حجي وزكريا كيف فكروا في إعادة بناء الهيكل وكيف أتموه. والاكتشافات التي أسفر عنها التنقيب في نيبّور، تلقي أمامنا ضوءًا قويًا علي الحالة الاجتماعية للمسبيين. وهناك ألواح بالخط المسماري -محفوظة الآن في المتحف العثماني باستانبول، بين ملفات أعمال شركة موراشو الفنية من أبناء نيبّور في أيام أرتحشستا الأول وداريوس الثاني (464-405 ق.م.)- نقرأ فيها عددًا ملحوظًا من الأسماء اليهودية. ومما يسترعي الانتباه أن الكثير من هذه الأسماء أسماء مألوفة لنا من قوائم الأنساب الموجودة في أسفار الملوك والأخبار وعزرا ونحميا. ويستنتج بروفسور هلبرخت (في كتاب: البعثة البابلية - المجلد التاسع - 13 وما بعدها) من فحص هذه الألواح أن عددًا كبيرًا من المسبيين اليهود الذين جاء بهم نبوخذراصر بعد تدمير أورشليم، قد استقروا في نيبّور وما حولها، وهناك أدلة كثيرة علي هذه الحقيقة. وفي هذه الوثائق ما يؤيد ما جاء بالتلمود من أن نيبّور هي كلنة (تك 10: 10). ونعلم من النقوش المكتشفة أن "نهر خابور في أرض الكلدانيين" الذي رأي عنده حزقيال رؤياه، كان قناة واسعة صالحة للملاحة لا تبعد كثيرًا عن نيبّور.

17- قيام اليهودية وتطورها: لايمكن المغالاة في تقدير أثر السبي في تطور اليهودية، فكما يقول الدكتور فوكس جاكسون (في التاريخ الكتابي للعبرانيين، 316): "إن السبي هو أحد الأحداث العظيمة في تاريخ الديانة .. فبالسبي أنتهي تاريخ إسرائيل، وبدأ تاريخ اليهود"، فوجودهم في وسط ذلك الخضم من الأمم الوثنية، جعل الجالية اليهودية تبتعد عن كل رجاسات المحيطين بهم، وتلتصق بإيمان آبائهم في إله إبراهيم. ولأنهم كانوا معرضين للازدراء والسخرية من الأمم التي كانت تحتقرهم، كوّنوا دائرة مقفلة علي ذواتهم، وهكذا نشأت عادة الانعزال التي أصبحت من خصائصهم منذ ذلك الوقت. فبعد أن أصبحوا بلا وطن وبلا نظام طقسي وبلا أي أساس مادي لحياتهم كشعب، تعلموا -كما لم يتعلموا من قبل- أن ينظروا بعين التقدير لتراثهم الروحي الذي وصل إليهم من الماضي العريق، فأقاموا هويتهم الوطنية -في محيطهم الجديد- علي أساس ديانتهم، ولقد شجعهم أنبياؤهم، وبخاصة إرميا وحزقيال، وأيدوهم بتأكيد البركات الروحية والوعد بالعودة. لقد كانوا في حاجة إلي مبدأ ثابت دائم لتنظيم كل حياتهم الاجتماعية والعائلية والروحية، وقد دفعت هذه الحاجة قادتهم ومفكريهم إلي الرجوع إلي شريعة موسي والاعتماد عليها، وحل المعلم (الربي) والكاتب في مكانة الكاهن الذي يقدم الذبائح، وشغل المجمع والسبت مركزًا جديدًا في حياة الشعب الدينية. لقد نضجت هذه المبادئ اليهودية وغيرها، وبلغت أوجها بعد العودة من السبي، فهو الذي خلق الحاجة إليهما. وبينما كان الأنبياء واضحين في التنبوء بالسبي، فإنهم لم يكونوا أقل وضوحًا في التنبوء بالعودة من السبي. فإشعياء -بأقواله عن "البقية"- وكذلك ميخا وصفنيا وإرميا وحزقيال وغيرهم قد أبهجوا قلوب الشعب -كل منهم في أيامه- برجاء العودة، ليس ليهوذا فقط بل ولإسرائيل أيضًا، فستعود الكروم للازدهار فوق جبال السامرة كما في وديان يهوذا، بل إن إرميا تنبأ بمدة السبي عندما أعلن أن شعوب تلك البلاد ستخدم ملك بابل سبعين سنة (إرميا 25: 12، 29: 10).

18- العودة بتصريح من كورش في 538 ق.م.: تحققت آمال المسبيين باستيلاء كورش ملك فارس علي بابل والقضاء علي الإمبراطورية البابلية، لقد كان الفأس التي تنبأ عنها إرميا لسحق بابل. كما تنبأ عنه إشعياء وعن مسيرته الظافرة كمخلص للشعب، " هكذا يقول الرب .. القائل عن أورشليم ستعمر ولمدن يهوذا ستبيين، وخربها أقيم، القائل للجة انشفي، وأنهارك أجفف، القائل عن كورش راعي فكل مسرتي يتمم، ويقول عن أورشليم ستبني وللهيكل ستؤسس" (اش 44: 24-28).

19- إعادة بناء الهيكل في 536 ق.م.: في السنة الأولي لدخول كورش إلي بابل، صدر مرسوم بالتصريح للمسبيين بالعودة وبناء بيت الرب في أورشليم (2 اخ 36: 22 و23، عزرا 1: 1-4)، كما أخرج آنية الهيكل -التي أخذها نبوخذراصر من أورشليم ونقلها إلي بابل- وسلمها كورش لشيشبصر رئيس يهوذا، وأحضرها شيشبصر معه عند عودته بالمسبيين من بابل إلي أورشليم.

ونجد أخبار العودة من السبي مفصلة في سفري عزرا ونحميا ونبوتي حجي وزكريا. وقد عاد مع شيشبصر 42,000 من المسبيين فضلًا عن العبيد. وبقيادة يشوع بن يوصاداق الكاهن وزربابل بن شألتئيل، بنو أولًا مذبحا للرب ثم وضعوا أساسات الهيكل. وقد تعطل العمل ثم توقف نهائيا لمعارضة السامريين، لأن بني إسرائيل رفضوا إشراكهم معهم في بناء الهيكل. وفي تلك الأثناء قام حجي وزكريا يحثان الشعب علي استئناف العمل، ووجها اللوم للشعب علي بخلهم، كما تنبأ حجي بالمجد الذي سيكون للهيكل، مما جعلهم يسرعون إلي بناء الهيكل، فتم العمل في شهر آذار في السنة السادسة لداريوس الملك (515 ق.م.). واحتفلوا بالفصح في رحاب المقدس الذي كمل بناؤه (عزرا 6: 15-18).

20- جهود عزرا ونحميا في الإصلاح: وتمضي بضعة عقود من السنين، لايذكر الكتاب عنها شيئًا، حتي نأتي إلي عام 458 ق.م. عندما صعد عزرا من بابل إلي أورشليم ومعه 1,800 من المسبيين، فوجد أن اليهود الذين قد عادوا من السبي، قد ارتبطوا بشعب الارض بالزواج، وأصبحوا في خطر فقدان مميزاتهم القومية والذوبان في الشعوب الوثنية (عزرا 9). وقد أمكن دفع هذا الخطر بجهود عزرا ونحميا وأقوال ملاخي. وبعد ذلك بثلاث عشرة سنة (445 ق.م.)، سمع نحميا -ساقي الملك ارتحشستا- بحالة الخراب التي كانت عليها المدينة المقدسة وقبور آبائه، فاستأذن سيده في الذهاب إلي أورشليم، فأذن له الملك وأعطاه رسائل توصية إلي ولاة عبر النهر لكي يجيزوه، وإلي حارس فردوس (غابة) الملك ليعطيه الأخشاب اللازمة للبيت وللأسوار. وهكذا سار إلى أورشليم فوصلها بسلام، وقام بفحص الأسوار، ثم استنفر الشعب للعمل وترميم ما انهدم منها. وبالرغم مما تعرضوا له من الاستهزاء والسخرية والمقاومة العنيفة من أعدائهم السامريين، أمكن لنحميا أن يري العمل وقد كمل والأبواب وقد أقيمت والمدينة وقد ازدحمت بالسكان. عندئذ جمع نحميا وعزرا الشعب لسماع كلمات الشريعة. وفي اجتماع مهيب قرأوا الناموس وفسروه للشعب، وبعد ذلك ختم الشعب علي ميثاق يتعهدون فيه بحفظ ناموس موسي، وعدم التزاوج بينهم وبين الأمم، وحفظ يوم السبت وعدم المتاجرة فيه، ودفع ثلث شاقل سنويا لخدمة الهيكل، وتقديم الباكورات والعشور (نح 10: 28-39).

21- نظريات حديثة عن العودة: يعترض بعض علماء العصر الحاضر علي رواية هذا التاريخ، فينكرون عودة المسبيين في أيام كورش، ويقولون إن الذين بنوا الهيكل هم اليهود الذين بقوا في اليهودية وفي أورشليم، ويعتنق هذا الرأي بروفسور كوسترز من ليدن ويؤيده بروفسور ه. ب. سميث وآخرون، فهم ينكرون تاريخية سفري عزرا ونحميا، ولكن الصعوبات التاريخية الموجودة في السفرين، لا تدعو بالمرة إلي نكران حقيقة " العودة " وما قام به عزرا ونحميا، فالعودة من السبي تؤيدها وثائق تحمل طابع الحق التاريخي مما لا يمكن دحضه بمثل هذا الاستخفاف. وعلاوة علي ذلك، فان مشروعًا ضخمًا مثل هذا، يستدعي كل تلك الجهود والمهارات، لا يمكن إنجازه بواسطة البقية المسكينة بدون معونة خارجية، ولقد رأينا من قبل مدي عجز البقية التي كانت تتكون من مساكين الأرض. كما أن صمت حجي عن موضوع العودة من السبي لا يمكن أن يكون حجة علي ذلك. إن قصة السبي نفسها تدل علي حاجة البقية المسكينة إلي قوة دافعة من يهود بابل الذين امتلأت نفوسهم غيرة وحماسة مما عانوه في السبي.

22- أهمية فترة عزرا ونحميا: لقد كان لعصر نحميا والفترة التي سبقته مباشرة، بالغ الأثر في مستقبل الأمة، "ففي أثناء تلك المئة السنة، رسخت شريعة موسي كأساس للحياة القومية، وبدأت الخطوات الأولي في تحديد أسفار الكتاب المقدس، وأخذ المجتمع الإِسرائيلي الطابع الذي مميزه في العصور التالية التي طورته دون أن تغيره تعييرًا جذريًا. ففي خلال تلك الفترة أخذ المجتمع اليهودي الصورة التي كان عليها في أيام ربنا يسوع المسيح، فتكونت القوي التي عارضت المسيح وكذلك القوي التي وقفت إلي جانبه، فقد رأي ذلك القرن قيام الأحزاب التي أصبحت بعد ذلك الطوائف المعروفة بالفريسيين والصدوقيين، كما وضُع فيه أساس علماء اليهود (الربيين)، وتحدد موقف اليهود من الأمم، ووضُع الكهنة علي الطريق للسيادة العليا، وحدث الانفصال عن السامريين" (دكتور ب. هاي هنتر في كتابه "ما بعد السبي" -القسم الأول- الفصل السادس عشر).

بنو السَبي!
كلمتان كثيرتان الورود في الكتاب المقدس (انظر عزرا 4: 1) ويقصد بهما المسببون وأولادهم, كما تجد العبارات أن الله رد سبي صهيون (مزمور 126: 1) وارد سبيكم (إرميا 29: 14) وارجع سبيهن (حزقيال 16: 53) وهي تعني رجوع الشعب إلى أرضه. وقد تستعمل كلمة السبي للدلالة على الذل والخذلان, وفي أيوب 42: 10 ردّ الله السبي أيوب بمعنى أنه خلصه من المصائب والارتباك والخسائر التي كان مسبيًا فيها, وجعله يفرح في رضا الله.

ويقال عن المسيح سبي سبيًا (أفسس 4: 8) بمعنى أنه أخضع السبي فأطلق شعبه (غلاطية 4: 24 وعبرانيين 2: 15 و2 بطرس 2: 19).

سَبي الأسباط العشرة ؛ سبي مملكة إسرائيل الشمالية

(1) غزوات شلمنأسر الثاني ملك أشور (860-825 ق.م):

تأسست الإمبراطورية الأشورية في نحو سنة ألفين قبل الميلاد، وبدأ أول احتكاك لها بمملكتي إسرائيل ويهوذا في عهد شلمنأسر الثاني، وهو غير شلمنأسر الرابع المذكور في سفر ملوك الثاني (17، 18)، والذي جاء بعد شلمنأسر الثاني بنحو قرن من الزمان. وكان شلمنأسر الثاني -الذي حكم طويلًا- معاصرًا ليهوشافاط ويهورام وأخزيا ويهواش ملوك يهوذا، ولأخآب وأخزيا ويهورام وياهو ملوك إسرائيل، وكذلك لحزائيل وبنهدد الثاني ملوك أرام في دمشق، ولميشع ملك موآب. ومصادر تاريخه هي ما نقشه في أيامه على صخور أرمينية، والمسلة السوداء التي اكتشفها "لايارد" (Layard) في نمرود، والمحفوظة الآن في المتحف البريطاني، والنصوص المحفورة على الأبواب البرونزية في "بالاوات" والتي اكتشفها "هورموزد رسَّام" في 1878م، ورأى فيها الأبواب الدوارة في قصر شلمنأسر. ونعلم من كل هذه المصادر أنه واجه في السنة السادسة من ملكه، قوات دمشق وحماة وإسرائيل وغيرها، التي تحالفت معًا لمقاومة تقدمه غربًا، ولكنه استأصل هذه القوات تمامًا في موقعه "قرقر" (854 ق.م) وكان هذا الخطر الكاسح قد دفع سورية وإسرائيل إلى التحالف، وهو ما تؤيده القصة الكتابية عن عقد معاهدة بينهما، شجبها نبي الله (1مل 20: 34-43)، أقاموا بعدها ثلاث سنين بدون حرب بين أرام وإسرائيل (1مل 22: 1) ولكن يبدو أن الهزيمة النكراء التي أوقعها بهم شلمنأسر قد قضت على هذا التحالف، لأننا -بعد ذلك- نجد أخآب يتحالف مع يهوشافاط ملك يهوذا -في محاولة فاشلة- لاسترداد مدينة راموت جلعاد من أرام بعد أن أصابتهما الهزيمة، ولكن تلك المحاولة انتهت بقتل أخآب (1مل 22) وفي غزوة أخرى للغرب -لم يسجل الكتاب المقدس عنها شيئًا- أخذ شلمنأسر الجزية من صور وصيدون، ومن "ياهو ملك أرض عمري" - كما كان يطلق على إسرائيل في الآثار الأشورية.

(2) وكان الملك الأشوري التالي الذي زحف بجيوشه إلى الغرب هو "رمّون نيراري" (810-781 ق.م) حفيد شلمنأسر الثاني.

ومع أنه لم يذكر بالاسم في الكتاب المقدس، إلا أننا نلمس وجوده ونفوذه في الأحداث المدونة في سفر الملوك الثاني، فقد كان هو الذي جعل أرام ترخي قبضتها عن إسرائيل في أيام يهوآحاز. فقد فضل شعب إسرائيل أن يخضعوا -اسميًا- لسيادة ملك بعيد في نينوى، عن الخضوع لملك قريب في دمشق يسومهم الاضطهاد. وكان "رمّون نيراري" هو المخلص الذي أعطاه الرب لإسرائيل "فخرجوا من تحت يد الأراميين" (2مل13: 5 و23).

(3) تغلث فلاسر الثالث (745-726 ق.م):

بموت رمّون نيراري في 781 ق.م ضعفت شوكة أشور وقتيًا، وفي نفس الوقت بلغت مملكة يهوذا في أيام عزيا الملك، ومملكة إسرائيل في أيام يربعام الثاني، أوج قوتهما. وفي 745ق.م اغتصب "فول" عرش أشور وحكم باسم تغلث فلاسر الثالث، ويذكر باسمه "فول" في الكتاب المقدس (2مل15: 19، 1أخ5: 26)، ولكنه يُذكر باسمه الثاني "تغلث فلاسر الثالث" على الآثار الأشورية، وأصبح من المؤكد الآن لدى المؤرخين أن الاسمين لشخص واحد.

وكان تغلث فلاسر الثالث من أعظم الملوك في التاريخ، فكان أول من حاول تكوين إمبراطورية على النمط الذي عرفه العالم بقيام الإمبراطورية الرومانية، فلم يكتف بالحصول على الجزية من الملوك والولاة الذين هزمهم، بل أصبحت الأقطار التي غزاها، ولايات في إمبراطوريته عليها مرازبة (ولاة) أشوريون يجمعون الجزية للخزينة الإمبراطورية. ولم يلبث طويلًا بعد اعتلائه العرش، حتى وجه نظره نحو الغرب وبعد حصاره لأرفاد -إلى الشمال من حلب- اجتاحت جحافله سورية. وسار على النهج الأشوري في إجلاء الشعوب المغلوبة، وإحلال غيرهم محلهم. وليس من السهل الجزم بالسبب الذي جعل تغلث فلاسر يحجم عن التحرش بيهوذا. وفي غزوة تالية، وضع منحيم ملك إسرائيل وغيره من الملوك تحت الجزية وهو ما نجده مسجلًا بالتفصيل في سفر الملوك الثاني: "فجاء فول ملك أشور على الأرض فأعطى منحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه، ليثبت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل على جميع جبابرة البأس ليدفع لملك أشور خمسين شاقل فضة عن كل رجل. فرجع ملك أشور ولم يقم في الأرض" (2مل15: 19 و20).

"وفى أيام فقح (بن رمليا) ملك إسرائيل جاء تغلث فلاسر (وهو نفسه فول) ملك أشور" واستولى على الأجزاء الشمالية من إسرائيل وسبى الشعب إلى أشور (2مل15: 29).

ونقرأ بعد ذلك كيف أن آحاز ملك يهوذا استنجد بالأشوريين لينصروه ضد "ذنبي هاتين الشعلتين المدخنتين" رصين ملك أرام وفقح بن رمليا (إش7: 4) ولكي يضمن معونة الأشوريين "أخذ آحاز الفضة والذهب الموجود في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك أشور هدية" (2مل16: 8) وكان تغلث فلاسر في ذلك الوقت يُعد لحملة جديدة على الغرب، فاجتاح بقواته سورية والأراضي المتاخمة حتى وصل إلى غزة. وفي طريق عودته استولى على السامرة دون أن يدمرها إلى الأرض، وكان الشعب قد اغتال فقح، فأقام الملك الأشوري هوشع، قائد المؤامرة، ملكًا عوضًا عن فقح، تحب سيادة أشور.

(4) شلمنأسر الرابع (727-722 ق.م):

مات تغلث فلاسر الثالث في 727 ق.م وخلفه شلمنأسر الرابع، الذي حكم مدة قصيرة ولم تصل إلينا حولياته، ولكننا نقرأ في سفر الملوك الثاني (17، 18) أن هوشع ملك إسرائيل -اعتمادًا على ملك مصر- ظن أن موت تغلث فلاسر فرصة طيبة لإعلان الاستقلال، ولكنها كانت محاولة فاشلة إذ كانت مملكة إسرائيل قد أوشكت على النهاية. فقد كان الشعب قد استسلم للمظالم والشرور التي وبخهم عليها النبيان هوشع وعاموس فقد تنبأ هوشع بشكل خاص عن انحلال إسرائيل وسقوطها، قائلًا: "السامرة ملكها يبيد كغثاء على وجه الماء، وتُخرب شوامخ آون خطية إسرائيل. يطلع الشوك والحسك على مذابحهم ويقولون للجبال غطينا وللتلال اسقطي علينا" (هو10: 7 و8 - انظر أيضًا عددي 14 و15) ولم تكن نبوات إشعياء وميخا -عن المصير الذي ينتظر السامرة- بأقل صرامة: "ويل لإكليل فخر سكارى أفرايم، وللزهر الذابل جمال بهائه الذي على رأس وادي سمائن المضروبين بالخمر" (إش28: 1)، "كل هذا من أجل إثم يعقوب ومن أجل خطية بيت إسرائيل. ما هو ذنب يعقوب ؟ أليس هو السامرة ؟.. فأجعل السامرة خربة في البرية مغارس للكروم" (ميخا 1: 5 و6) ولم تأت للملك هوشع معونة من مصر، فوقف وحيدًا في مواجهة قوات عاتية، أسرته خارج السامرة، والأرجح أُنه أخذ أسيرًا إلى نينوى، واجتاحت الجيوش الغازية البلاد وعاثوا فيها فسادًا، كما سبق أن أعلن الأنبياء.

(5) سرجون يستولى على السامرة:

وبعد مقاومة عنيفة من المدافعين عن المدينة "زال الحصن من أفرايم" (إش 17: 3) فبعد أن حاصر الأشوريون السامرة ثلاث سنوات، سقطت في أيديهم (2مل17: 5) وقد يخيل إلينا -من رواية الكتاب المقدس- أنها سقطت في يد شلمنأسر، ولكننا نعلم من النقوش الأشورية، أنه قبل استسلام السامرة، كان شلمنأسر قد تنازل عن العرش أو مات، وجلس على عرش أشور سرجون، أحد عظماء ملوك أشور، ولكنه لم يذكر إلا مرة واحدة في الكتاب المقدس (إش 20: 1) ونعلم من النقوش الكثيرة التي خلفها سرجون، والتى اكتشفت في أطلال خورزباد، أنه هو - وليس شلمنأسر - الذي أكمل غزو المملكة المتمردة (إسرائيل) وأجلى سكانها إلى أشور فيقول سرجون في حولياته: "فى بداية حكمي استوليت على مدينة السامرة بمعونة "شماش" (إلهه) الذي ضمن لي النصر.. وأخذت 27.290 أسيرًا من سكانها، كما استوليت على خمسين مركبة ملكية منها.. لقد أعدت الاستيلاء على المدينة، وأسكنت فيها أناسًا من البلاد التي غزوتها بذراعي.. وعينت حاكمًا عليهم وفرضت عليهم الجزية والضرائب كما على الأشوريين". وهذه الحوليات يؤيدها ما جاء في الكتاب المقدس، كما يكمل أحدهما الآخر في هذه النقطة. ويصف المؤرخ الكتابي ما حدث بالقول: "فى السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشور السامرة وسبى إسرائيل إلى أشور وأسكنهم في حلح وخابور نهر جوازان، وفي مدن مادي.. لأنهم لم يسمعوا لصوت الرب إلههم، بل تجاوزوا عهده وكل ما أمر به موسى عبد الرب فلم يسمعوا ولم يعملوا" (2مل17: 6 و7، 18: 11 و12).

(6) إجلاء سكان السامرة وإحلال غيرهم محلهم:

كما يصف الكتاب المقدس كيف جاء ملك أشور بأقوام من شعوب أخرى وأسكنهم في مدن السامرة: وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعّوا وحماة، وسفروايم، وأسكنهم في مدن السامرة عوضًا عن بني إسرائيل، فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها (2مل17: 24) وتؤيد نقوش سرجون هذه الحقيقة، وهى أنه جاء بغرباء ممن سباهم في حروبه وأسكنهم في السامرة كما يتضح أن ذلك حدث على عدة دفعات. فقد رأينا أن تغلث فلاسر سبق أن أجلى الأسباط الشمالية إلى أشور وأقام عليهم حكامًا من قبله. ونعلم أنه بعد ذلك بزمن، جاء حفيده آسر حدون، ثم ابنه - أشور بانيبال (أسنفر العظيم الشريف) بأناس من الشعوب التي غزاها في الشرق، وأسكنهم في السامرة (عز4: 2 و10) وأمر ملك أشور أن يبعثوا إليهم في بيت إيل بواحد من الكهنة الذين سبق أن سباهم من السامرة، ليعلمهم "قضاء إله الأرض" وقد ذكر عنهم أنهم "كانوا يتقون الرب ويعبدون آلهتهم كعادة الأمم الذين سبوهم من بينهم" (2مل17: 33) والسامريون، الذين نقرأ عنهم في الأناجيل، هم نسل هذا الخليط من اليهود والأمم الذين أسكنهم ملوك أشور في مدن السامرة.

(7) الأسباط العشرة في السبي:

لا يجب أن يتطرق إلى أذهاننا أنه قد تم إجلاء كل سكان المملكة الشمالية (إسرائيل)، إذ لا شك في أنه حدث هنا مثلما حدث عند السبي البابلي، أن "رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين" (2مل25: 12) بل إن الذين تم إجلاؤهم لم يكونوا سوى قسم من الشعب. ولكن المملكة الشمالية -مملكة الأسباط العشرة- كانت قد انتهت وأصبحت مجرد ولاية أشورية، يحكمها وال من قبل ملك أشور. أما عن الجلاء - أي الأسرى الذين نقلوا إلى مدن مادي - فيجب ألا نظن أنهم قد امتصتهم الشعوب الذين استقروا بينهم، بل احتفظوا بتقاليدهم اليهودية وممارساتهم وتماسكهم، وأصبحوا جزءًا من شتات اليهود المنتشرين في كل بلاد الشرق. ومن المحتمل جدًا أنهم اندمجوا -فيما بعد- مع المسبيين من يهوذا، الذين سباهم نبوخذنصر ملك بابل، وهكذا أصبح أفرايم ويهوذا شعبًا واحدًا -كما لم يحدث من قبل- وأصبح اسم "اليهود" يطلق على الجميع سواء كانوا قبلًا من المملكة الشمالية (إسرائيل) أو من المملكة الجنوبية (يهوذا).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟