الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غلالة وردية/ قصة

محمود شقير

2017 / 11 / 15
الادب والفن


تنهض من سرير قيلولتها في عزّ الأصيل، تتمطى أمام النافذة التي تطلّ على النهر العريض، ينتابها الإحساس بأن الشيء الذي تريده سيحدث هذا اليوم قبل المساء. كل الموجودات الأليفة في بيتها الأنيق تقول ذلك: السرير المكين، أرضية الغرفة المفروشة بالسجاد، رفوف الكتب، اسطوانات الموسيقى، فساتينها الزاهية المتناثرة في كل الأنحاء، والغلالة الشفافة التي تنسدل على الجسد البض معلنة عن رقة بلا حدود.
تخلع الغلالة في تباطؤ مقصود كما لو أنها تستثير عيوناً خفية ترصدها من مكان ما، وتدرك أنها ملّت العلاقات التي تجري وفق روتين تعودت عليه النساء: لقاء، دعوة للرقص ثم إغراق في شرب النبيذ تعقبه عودة إلى البيت، والنوم في لذة حتى الصباح. مزاجها اللجوج يتوق إلى شيء مختلف، تحدق في النهر وهي عارية، يتواطأ النهر مع رغباتها بتدفقه الرصين، تنطلق نحو الباب، تفتحه، ترنو إلى الجدران والسلم الهابط والعتمة الخفيفة التي تضاعف من حدة الصمت، تترك الباب موارباً على نحو مثير للتساؤلات، إنها تلعب لعبتها الغامضة، وتعود، تستلقي في الحمام تحت انصباب الماء على الجسد، وتتوقع أن الشيء الذي تريده سيحدث هذا اليوم قبل المساء.
ينهض من سرير قيلولته قبل المغيب بساعات، يتأمل من نافذة البيت في الطابق الثاني عشر شرفات البيوت في البناية المقابلة، تجلس النسوة الأوروبيات حاسراتٍ ثيابهن في الشمس البهيجة التي لا تظهر إلا لماماً، وثمة غسيل متنوع بألوان صارخة يتدلى من الشرفات: إنها حياة كاملة يحياها الناس. يتأكله الحنين إلى بلده البعيد، فقد أضجره التنقل من بلد إلى بلد وأعياه الإنتظار. فجأة يستفزه إحساس غامض يدعوه إلى مغادرة البيت بحثاً عن أجواء لم يعشها حتى الآن، فقد ملّ هذا الروتين اليومي المتكرر الرتيب.
يرتدي ملابسه، يمضي بمحاذاة النهر تاركاً لقدميه أن تأخذاه إلى أي مكان، يغتاظ قليلاً وهو يلمح أن النهر في احتدامه العميق يخفي عنه سراً ما، يتمنى لو أن له مصباً ينتهي إليه مثل هذا النهر كل مساء، ويمضي، لا يلتفت للنساء المتسكعات في الطرقات وخلفهن أطفال يتراكضون في جذل، يقترب من صف البنايات الجديدة التي لها رونقها الخاص، يهم باجتياز مدخل البناية الأولى. غير أنه يقرر في اللحظة الأخيرة ودون سبب واضح أن يتخطى البناية الأولى والثانية، يجتاز مدخل البناية الثالثة دون قصد، تثير العتمة الشاحبة عند أول السلم نشوة غامضة في داخله ممزوجة بظلال لمخاوف عصية على التفسير، لم يخطر بباله أن يتجه إلى المصعد، فهو يحب ارتقاء السلالم لأن لها تاريخاً يستطيع قراءته دون عناء، فثمة آثار بشر وروائح تظل عالقة بالسلالم، فتجعلها باعثة على التأمل والخشوع وتوقع المفاجآت.
يتوقف عند بسطة السلم في الطابق الثالث، يحدق في الأبواب الثلاثة المغلقة بإحكام، يصغي بانتباه لعله يميز شيئاً خلف الأبواب، يسمع الرنين العذب لكؤوس الزجاج، يسمع تنهيدة خافتة كأنها قادمة من زمن سحيق. كم هي مثيرة للفضول هذه البيوت التي تنطوي على عالم من الأسرار! يسمع صرخة طفل، يكتئب لحظة، يفكر بالرجوع من حيث أتى، غير أنه يغالب نفسه ويواصل الصعود. لدى بسطة السلم في الطابق الخامس يشم روائح أطعمة، وثمة امرأة تغني كعادة بعض النسوة وهن يعددن الطعام، في الطابق السابع كان جرس الهاتف يرن بإلحاح، وليس في البيت من أحد، لأن رنين الجرس انقطع بعد برهة مخلفاً في الصمت بعض الحزن وكثيراً من الاحتمالات. في الطابق الحادي عشر باب مفتوح، يحدق بحذر عبر الباب، يرى عن بعد غلالة وردية مطروحة فوق السجاد، لا يفكر بالضغط على زر الجرس، فالباب مفتوح، والصمت المتمدد في الداخل يغري بالدخول، يدخل دون استئذان، ويدرك أن هذه مغامرة طائشة، غير أنه لا يرعوي، يتوقف برهة عند الغلالة كأنها قطة تنام، يحملها بين ذراعيه، يلقي بها برقة فوق السرير. يمشي بخفة نحو الحمام. هناك، كانت المرأة تسبح في بركة من الدم، عيناها شاخصتان نحو الأعلى دون حراك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كثير من الاحتمالات!!!
أفنان القاسم ( 2017 / 11 / 18 - 09:10 )
أنت تقول هذا وليس أنا، وقصتك هذه جميلة بسبب هذه الكثرة من الاحتمالات التي تصنعها مخيلتك، لأن وقائعك هذه ليست موجودة في الواقع، في الغرب، إنه عالم احتمالات آخرها جميل جدًا لأنه احتمال غير ممكن...

اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في