الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف و السلطة و الثورة

هيثم بن محمد شطورو

2017 / 11 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مازالت الأفكار السياسية المتداولة في أغـلبها لإرادة تـقيـيم أو تحديد سمات حقيقة السلطة و حقيقة المشهد السياسي في تونس أو في غيرها من الدول العربية تـتخبط في أطر بنيات تـفكير تـقليدية، برغم أن الواقع يبدو متـقدما في عـدة أشكال و مظاهر سلطوية أو مجتمعية على جميع المرجعيات التـقليدية..فهل لنا أن نجزم أن ما يحدث سياسيا برغم كونه يتصف بالضبابية، إلا أنها ألا يمكن أن تكون ذاك السديم من الغبار الناتج عن التـفجر، الذي بإمكاننا الوقوف عند هذه اللحظة كمرحلة ستعقبها تـشكلات كواكب جديدة و عالم متكون جديد؟ لماذا تجد أغلب القراءات تـنأى عن اللحظة الأساسية التي فجرت كل هذه الشظايا و هي لحظة جانفي 2011؟
أليس من الواضح خاصة في تونس، أن شكل السلطة التـقليدي قد اهترأ و ولى. يستـتبع ذلك اهتراء مضمون السلطة التـقليدي. السلطة التي كان من الممكن اختـزالها في رأس الهرم أي الرئيس المتـنـفذ بواسطة بنية ما دأبت جميع القراءات المتطابقة تتساوق مع واقع التملك الواضح للسطة الذي ما هو إلا استناد على مرجعيات واقعية تملكية.. لكن مع ذلك غابت القراءات الميكروفيزيائية للسلطة كتركيبة معقدة من الأفراد و مراكز النفوذ و آليات تـنـشيط فاعليتها ابتداء من الأسرة و المدرسة و النظام التعليمي إلى غاية الحزب الواحد الذي يشغل عنصر الجسر الرابط بين أكثر ما يمكن من القاعدة الاجتماعية و السلطة الحاكمة..في ميكروفيزياء السلطة كان من الممكن التـنبه للدور الكبير الذي أفرزه انفتاح السماوات بواسطة الفضائيات و خاصة عند انتـشار الانترنات مما حقق ثورة تواصلية.. ألم يكن من دواعي الاستـشراف و التـتبع لمختلف مسارات تـشضي البنى التـقليدية بما فيها نسب التحرر المتـزايدة في علاقة الذكور بالإناث في المعاهد و الفضاءات العامة، إلى غاية انتـشار مظاهر التفاهة اللغوية و السلوكية باعتبارها أعمال تمرد ليس ضد السلطة بشكل مباشر كسلطة حاكمة، و إنما إلى السلطة ككل بما هي تعبير عن عالم آيل إلى السقوط؟..في النهاية عدم إيجاد مبرر مقنع و فعلي للخضوع لأي من الأشكال المعهودة من ثـقافة مثـقلة بالهزيمة و الضعف و التتبعية الجوفاء في شبه حلقات مفرغة عـديمة المعنى و الحقيقية و النفاق و اغتراب الإنسان عن نفسه..
ألم تـشهد لحظة "جانفي" الثورية المجيدة تدافع تلك الأعداد المهولة من الشباب المُعتبر من قبل أكثر المثـقـفين تحررا و تـقدمية ساعتها بالشباب التافه الذي يتـنطع من ورائه عنوان وحيد هو الموت النهائي لكل تطلعات تـقدمية تـقليدية؟؟..
ذاك الشباب الذي عبر في النهاية عن حقيقة جوهره الفعال كثائر على السلطة السياسية كان هو وحده ما فتح مسارات ظهور ذاك المثـقـف من جديد على الساحة السياسية..ذاك الشباب الذي مازال إلى اليوم مستبعدا من انشغالات التـفكير الجدي في محاور تكتيكات تحركاته في الواقع و بالتالي الابتعاد عن تمثل ما يحمله من روح جوهرية تـفتح الآفاق نحو عالم جديد بالمرة.. العالم الجديد الخارج من كل تحديدات المثـقـف السابق. المثـقـف الرجعي نسبة لتاريخ جانفي 2011 بمن فيه من جعل نفسه عنوان التقدمية، يجد نفسه اليوم متخبطا أكثر فأكثر وراء تحديدات تكتونية للسلطة، مما يعيق فعلا إيجاد نظرة موضوعية موحدة، مثلما يعيق الذهاب إلى الفعل السياسي الخلاق لما يمكن أن ينجزه المثـقف كفكر و كتابة و فتح آفاق جديدة و الانصهار في الغد بكل ثـقة.. و من المؤكد أن هذا المثـقف يستوجب أن يكون ليس ملتصقا بالشباب كمقولة جوفاء عديمة المعنى، فالمثقف لا يلتصق حتى بنفسه، أو بالأحرى المثـقف الحاق هو الذي ينفلت حتى من نفسه دوما في مطاردته الدائمة لاختطاف نار اللآلهة، بل هو الذي يعيد تـقيـيم مرجعيات قراءاته كذلك انطلاقا من رؤية فلسفية أعمق تستـند ليس إلى ما يمكن أن يشكل اتـفاقا بل مما يخرج الذات إلى مسرح الـ"أنا أفكر" بكل امتياز و اقـتدار معرفي و فلسفي و خلق و ابتدائية فيما يسمى الإبداع..
و حقيقة الشباب الواضحة المعالم التي تـفتح أبعادا كثيرة من الإشعاعات في التحديدات، هي انه عبر بكل وضوح عن رفضه الساخط لما هو موجود. هذه هي العلامة البارزة و الواضحة..لكن بقدر هذا الوضوح بقدر غموض ألمابعد، أي ماذا يريد تحديدا؟..
هرول المثـقف نحو منصة التعبير عما لا يتصل به فعليا. هرول نتاج المناخ الجديد الذي أفرزته حركة الشباب الثورية إلى إطلاق تحديدات ما يريد هذا الشباب و لكن ما أبعده فعليا عن الشباب. في الحقيقة لم يعبر المثـقـف إلا عن نفسه. انه بالأحرى لم يعبر عن نفسه تماما و إنما وفق ما يمكن أن يكون متـفقا عليه مع الآخرين ( بتحديد واضح لكتلة الآخرين المختلفة عن الكتل الأخرى). أي انك هنا أمام ذات خفضت نسبة اغترابها عن نفسها فقط دون أن تـزيل الاغتراب و عوامله الموضوعية في واقعها و الذاتية في وعيها و طريقة تفكيرها.
بلغة أخرى إنه المثـقـف المنافـق بامتياز و ما يحز في نفسه أن تعقد المسارات و توتر اللحظة الراهنة المنبئة فعلا بخطوة حاسمة واقعيا نحو عالم جديد، هي ما جعلته غارقا في بؤس تأرجحه بين مرجعياته السابقة و بين الاأدرية المغلفة بديباجات الماضوية القريبة فالبعيدة شيئا فشيئا و المغلفة بالتوسعية الجغرافية كذلك و لكنها المبتعدة بشكل واضح عن اللحظة الثورية التي قادت إلى الوضع الملتبس الذي كان هو بدوره أحد المهرولين المبتهجين نحو تكوين عناوينه الواقعية و التعبيرية وفق تحديداته الذاتوية لها..
و النتيجة أن الاغتراب الذي تعيشه الحالة الاجتماعية و السياسية و الثـقافية بقدر ما تمارس فن التعري حينا بقدر ما تـتوارى أحيانا إلى ما يشبه عودة الفراشة إلى شرنـقـتها. لكن لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا و واقعيا و بالتالي فعملية استبعاد لنفـسه تـتـشكل أحيانا بخطاب مشفـق على الذات المبهمة بوعي تائه في حقيقـته. بل إن اللحظة قادته إلى سخرية الشيطان داخله منه حين يتحفز بقوة كأداء مكرها نحو ترديد خطاب البؤس التصنيفي و التـقيـيمي العام الأجوف الغير ممتلئ و البعيد أكثر ما يكون ليس عن اللحظة و حقيقتها و إنما عن قناعاته الشخصية كذلك.. ذاك أن وعيه قد أصابه التـشضي هو بدوره و ليس مجمل الواقع الخارجي فقط..هل تراه فعليا صادقا في كلماته و هل تراه فعليا واثـقا من تأثيرها و هل هو فعلا متملك للحظة التاريخية في الوعي بالذات؟؟
فبرغم التباس السلطوي الحكومي دوما بمصلحته و هذا مشروع في ذاته مادامت المصلحة الشخصية في اتجاه المصلحة العامة، إلا أن النظر من زاوية الانفجار الحاصل منذ 2011، يؤكد أن الثورة أو الثورية (برغم أن عنوان الحرب على الفساد هو ثوري و لكن هو ليس الثورة) قد ولجت مربعات السلطة الحاكمة. و طبعا فان مواصلة الركاكة اللفظية لنفي ما ينجز و البلادة الفكرية التي تريد العودة إلى الشرنـقة أوالى التحديدات التي تعتبر مسلمات في أطر الكتل و المبتعدة عن النـفاذ إلى السلطة كأفراد فاعلين هنا و هنا و من الأسفل إلى الأعلى خاصة في ضل الثورة التواصلية، فإنه يكون عاجزا عن الفعل مكتـفيا بتحديده لهويته الساكن إليها دون أن ينتبه انه سكوني في الواقع برمته و انه أخذ دور المتـفرج بل أكثر من ذلك دور الميت سريريا. عناوين تلك الحالة معروفة بتعابير الثبات و المبدئية و المرجعية الواضحة و العلمية...في النهاية هو غلاف فاضح للعجز و القصور عن أن يكون المرحلة الثورية التي ليست في التعددية و الديمقراطية بلا أحزاب سياسية فعلية لها امتداد اجتماعي فعلي موحد، برغم أن هذه التحديدات التي لم تكن أبدا من أفواه الشباب أو إرادتهم الصلبة و إنما تم تحميل ثورة الشباب بهذه المطالب السياسية. هذا لا ينفي طبعا أحقية المطلب الديمقراطي و لكن الديمقراطية بما هي نظام سياسي حديث تـقدمي تـشكل تمثيلا لفكرة الحرية و المساواة، تكون مجرد لعبة سمجة حين لا تعبر فعليا عن الحرية و المساواة. الحرية و المساواة حتى و إن تجسدت في مؤسسات و نظم فإنها لكي تعيش يجب أن تحتـفظ دوما بعنصر الفاعلية المتجددة الخارجة بل المعارضة للمؤسسات القائمة..الحرية بحاجة دائمة إلى الشغب بل إن التمرد هو نارها المقدسة التي تحفظ يناعتها و شبابها الدائمين..
و لعل الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" في كتابه (المراقبة و المعاقبة) يبدو أكثر إقـناعا لجعله مرجعية في فهم السلطة في الحالة الثورية و السلطة الحديثة خاصة في ضل الثورة التكنولوجية المتسارعة باستمرار في التواصلية و مختلف الميادين الأخرى. فهذا الفيلسوف يدعو إلى ضرورة التخلي عن المسلمات التي طبعت المواقف التـقليدية و هي:
1 مسلمة الملكية و التي مفادها أن السلطة في ملكية طبقة.
2 مسلمة انحصار موقع السلطة و تميزه و التي تـفيد أن السلطة هي سلطة الدولة و أنها تـتجسم في أجهزتها.
3 مسلمة التبعية و التي مفادها أن السلطة المجسمة في أجهزة الدولة تابعة لنمط إنتاج ما بالنسبة لها بنية تحتية.
4 مسلمة الشرعية و مفادها أن السلطة تتجلى في القانون.
فالسلطة ( عند فوكو) هي علاقات ميكروفيزيائية متعددة النقط منـتـشرة و أنها تحدد فرديات و تـنـشئ وظائف خاصة. فهي بتعبير "دولوز" خارطة لعلاقات القوى، خارطة كـثـافـة و شدة تبرز صلات أو روابط لا يمكن حصرها في مكان و موضع بعينه..
و انه يبدو كذلك بما يفرزه التـشضي العام بفعل الثورة أنه يسحب هذا التوصيف على مجمل الأحزاب السياسية بل أكثر من ذلك على جميع التكتلات السياسية، بمثل ما هو حاصل في السعودية من اعتـقالات لأمراء العائلة الحاكمة و هم من الدرجة المتقدمة في السلطة و الثروة بواسطة الشاب ولي العهد "محمد بن سلمان". هذه العملية الحاسمة و السريعة و التي لم تـفرز إلى حد اليوم أي رد فعل داخلي في الاتجاه المعاكس يجعلنا نفكر فيما هو أبعد من ترسيمات الكتل السياسية المعهودة، و بالتالي فإن عنصر الشباب الذي يبدو في اتصال خفي من خلال رجوعه إلى جوهريته التي تمثل انعكاسا للحظة الثورية العارمة المشتغلة على كل المستويات، خاصة و أن ولي العهد السعودي لم يسمي حملته بالقضاء على الكفار أو الطغاة أو أي مصطلحات ذات مرجعية تـقليدية اسلاموية و إنما سماها بـالـ"حرب على الفساد"، أي بنفس المصطلح الذي أطلقة رئيس الحكومة التونسي "يوسف الشاهد" الشاب بدوره..
و مما يدعو إلى النظر إلى الثورية كحالة مراوغة تـتخاتـل بين الأسفل و الأعلى، هي دعوة رئيس الجمهورية التونسية السيد "الباجي قايد السبسي" إلى المساواة في الميراث و إلى جواز زواج المسلمة بغير المسلم..
كنا نـنـتـظر قيامة الأبواق القيامية في الشرق العربي، إلا أن المفاجئة هي أن أصوات المعارضة لمثل هذه الدعوى كانت ضعيفة و مترددة، بل إن الدعوى وجدت من يناصرها و يجادل الأصوات التـقليدية التي قبلت مبدأ المناقـشة بصوت خافت..أي أن العالم القديم في انهيار سريع.. أكيد أن هذا الانهيار يفصح عن أن البناء كان قائما بفعل عدم تعرضه للهجومات و ليس إلى صحة بنيانه..نفخة ريح قادمة ستـزيله بالتمام و الكمال..
إضافة إلى ذلك فان ما نشهده من خلال مثال "يوسف الشاهد" و منذ اعتلائه منصب رئيس الحكومة بدأت بشكل فعلي و ظاهر عملية تـشضي الأحزاب أو الكتل على كل الجبهات بما فيها اليسارية. فصحيح أن يوسف الشاهد من حزب "نداء تونس" الحاكم أو المفترض انه كذلك و لكنه منشق عنه فعليا و خاصة في "الحرب على الفساد"، و انشقاقه الفعلي بدأ يفرز انشقاقات أخرى. هذا الانشقاق هو بدوره فاعل في "حركة النهضة" و الذي كان محتجبا إلى غاية أن أعلنه رئيسها "راشد الغنوشي" بإشارته إلى تـفكك الحركة داخليا.. إضافة إلى ذلك فالجبهة الشعبية كذلك أفرزت انشقاقـاتها المخاتلة هي بدورها و المعلنة عن نفسها حينا و المحتجبة أحيانا و ذلك نتاج الارتباك الشديد على المستويات في المواقف و الهيكلية السياسية التـقليدية و تحكم المرجعيات الثابتة وسط ثورة العقول على السكنية و التكرارية المقيتة، و النكوصية المتواصلة حتى عن تمثيل أنصار الجبهة التـقليديين..
أي أننا في لحظة تـشضي التكتلات و انبثاق الفرديات السلطوية المختلفة هنا و هناك..و هذا يستدعي التـفكير المسئول تاريخيا عن إنتاج لحظة تـقدمية جديدة تونسيا و عربيا و عالميا..
لعل هذا المثـقف لن يكون إلا زرادشتيا بالنموذج النيتشوي، و هو المعبر عن الترحال و الحركة من سفر إلى سفر، من المستـقبل إلى الزمن الراهن، (الزمن الراهن الذي فتحت أبوابه ثورة 2011 التي من شانها أن تكون عالمية. ليست كديباجة جاهزة من إيديولوجية ترسمها و إنما كانفتاح فجروي لعالم جديد.) الزمن الذي يسعى إلى التـقدم نحو زمن الإنسان المتـفوق الذي هو وحده زمن إرادة القوة و التي لا معنى للتاريخ بدونها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا