الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل اليابان حقاً يابانُ بِفضْل أخلاقها ؟ 2

ليندا كبرييل

2017 / 11 / 18
المجتمع المدني


في مقالي الماضي أبديتُ رأياً في الكليب الذي نشره مواطن ياباني، لفتُّ فيه نظره الكريم إلى نقاط غابت عنه ، وترجمت الأستاذة القديرة " فاطمة ناعوت " محتواه.
إلى حضراتكم رابط مقالها : لماذا اليابانُ يابانُ ؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=572283

وهذا رابط مقالي : هل اليابان حقاً يابانُ بِفضْل أخلاقها ؟ 1
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=579034

وحول الفكرة الأساسية لمقال الأستاذة طرحتُ السؤال :
هل حقاً الأخلاق * { هي متلازمة الحضارة والتحضر والرقي والمجتمع النظيف السوي } ، كما تفضلتْ من خلال ملاحظاتها على فيديو المواطن الياباني ؟

من وجهة نظري، لا أشاطر الأستاذة هذا الرأي . كذلك لا أجد في اجتماع هذه المفردات في جملة واحدة مُقنِعاً، ففي اجتماعها ما يخالف أحداث الواقع.

أعتقد أولاً ، أن الأخلاق موقف فلسفي للإنسان تجاه قضايا الحياة، ومرجعية ثقافية اكتسبَها من نشْأته الأولى واستقرّتْ في داخله.
في مناخ الفوضى وحيث وُجِد المتناقضون ، يُبرْهن الفرد على جدّية مخزونه الأخلاقي ، حيث يأخذ على عاتقه مهمة تحدّي العاهات الاجتماعية ، سعْياً وراء صناعة حياة خيِّرة.

الأخلاق إذاً متلازمة التحضّر بالتأكيد ، ومتلازمة الرقي للإنسان وليس للمجتمع . القانون الضابط للعلاقات بين الأفراد يُضيء على الأخلاق فتزدهر، لا العكس ؛ فالقيم الأخلاقية قد تخرج عن مسارها إذا توفرت لها الظروف.
مثلاً ، الشريعة تحرّم السرقة ، لكن الضرورة تبيح في حالة الاضطرار هذا المحظور ( وغيره أيضاً كالكذب ) . والشريعة في هذه الحالة تهتم بأخلاق الصدق والنزاهة والتعفف، لكنها لا تبالي بالمبادئ ولا بالقانون.

فإذا كانت الأخلاق كما أفهمها : متحركة ومرتبطة بالتربية الاجتماعية وتختلف من بيئة إلى أخرى وتتشكل مع تطور المجتمع ، فهل يمكن أن تكون متلازمة الحضارة والمجتمع السوي ؟؟!
قلّبتُ فكرة الأستاذة في عقلي وأنا أستقرئ الواقع، فلم أتوصّل إلى ما استنتجتْه من خلال انطباعاتها الشخصية ؛ فمظاهر التحديث التي نراها في كل بلد متقدم، لها أسبابها العلمية الصارمة ، وتديرها العقلية البراجماتية الواقعية ، والأمثلة الواردة في الفيديو، سلوكيات يحكمها القانون ، يتقيّد بها كل فرد ناضج واعٍ في أي بلد متحضّر ، منْ يخرج عليها يُعرِّض نفسه للمحاسبة أو للعقوبة . وكل هذا ليس من الأخلاق في شيء.
لا بدّ برأيي من الفصْل بين كلمتَيْ : الحضارة والتحضّر.

ذلك أن الحضارة ليست مُنجَز سجيّة مثالية ، بل هي إنجازات خبرة العقل الحرّ ، لا يعرف التسامي عن المبتذلات ولا علاقة له بالعوائق الميتافيزيكية والأخلاقية ، توجّهه من الخارج أدوات المعرفة والحقائق العلمية المثبتة تجريبياً ، فيُسفِر عن كشوفات ومخترعات تكنولوجية تدعم علاقات الأفراد ، وتترك سلطة إدارتها للوازع الأخلاقي.
ليس بين مُبتكرات العلم والأخلاق ودّ متبادل . التنافر هو الأساس.

في حين أن أخلاق التحضّر الكريمة يدركها الإنسان بالبصيرة ، وتوجّهها من الداخل سلطة الضمير.

كذلك ، الذاكرة البشرية ترشدنا إلى أن كل حضارة قامت في التاريخ، لم تكن الأخلاق أبداً دافعاً ومحرِّكاً لبنائها . بالعكس تماماً ؛ حيث كانت حضارة ، كان جموح الأنانية والطمع والاستغلال والاستعباد.
ابحثوا عن الأخلاق الضائعة في حروب التاريخ، التي قامتْ بين الخلل الجينيّ والخبل الدينيّ !

تفضّل الأستاذ القدير " عامر سليم " بتعليق متميّز بعنوان ( الصمت ) في مقال الأستاذة ناعوت، وأرجو السماح بإعادة ذكْر ملاحظته القيمة.

إذا جعلنا الأخلاق متلازمة الحضارة والمجتمع السوي ، فَلْنسألْ عن الأخلاق السامية لفتوحات الامبراطورية الغربية، التي لم تغِب الشمس عن استعبادها البشر، وتخلّلتْها إنجازات عقلية عظيمة .. وعن القيم الرفيعة التي دفعت اليابان إلى مجازر فظيعة ضد المسيحيين في القرن السابع عشر وما بعده .. والتمدد العسكري الظالم من بداية القرن الماضي إلى الحرب العالمية الثانية، مع ما حققه من تحديث للبلاد التي غزاها .. ترى ، هل كان هجاء الشاعر حسان بن ثابت، لِبنت أبي سفيان هند الهنود في تلك القصيدة البشعة، المعبِّر عن الأخلاق الدينية المقدسة في مجتمع نبوي متحضّر ؟ وماذا أنتجتْ أخلاق ( الحضارة ) العربية الإسلامية ، بكل ما شابها من مظاهر المجون والخلاعة والخيانات واللاعدالة، إلا العبودية للإنسان ؟ ليست العمالة الأجنبية المستوردة في كل البلاد العربية اليوم، وبشكل خاص في مجتمعات بلاد الخليج، إلا صورة حديثة لعبودية الأمس.
ولنا أن نتعجّب هنا : الغرب الذي نتهمه بالدعارة والفجور، كيف استطاع بأخلاقه المنحطّة هذه، أن ينتقل بالكون إلى مستويات مُبهِرة من التقدم والتطور !؟

تحت لافتة نشْر القيم السامية والتعاون الإنساني، كان حب الذات يحرك شهية الشرِهين . وابتكرَ أمراء القوة ( صناعة أخلاق ) سعياً لتحقيق مشروعهم التوسّعي . كان الإخلاص لهذه القوى يتنامَى بتناسبٍ طردي، مع توغّل السيد المالك بامتهان حق الإنسان أن يعبر عن هواجسه.

لا يمكن للأخلاق أن تُسيِّر عربة العقل ، وإلا كُتِب عليه الجمود . ألا يمكن أن تشكّل سطوتها قيداً يحدّ من حرية الإنسان، للإقدام على إنجاز علمي ( أبحاث الاستنساخ مثلاً) ، فيُفقِده حسّ المبادرة، ويصاب بالتكرار ومن ثم بالتراجع .. فالموت ؟

نحن نقرأ أمنياتنا في انطلاقة اليابان الفذة . وشيء رائع أن نركّز الاهتمام على النواحي الإيجابية في تجربة ما، لنقتدي بها.
ولكن .. من قال إن الظاهرة اليابانية ، أو الآسيوية بشكل عام، لا يحيط بها السلبيات والعيوب ؟
لكل إنسان أن يقرأ الأحداث كيفما يشاء ، فيَرى فيها الأنظف والأرقى والأكثر احتراماً للإنسان ، إلا أن المنطق يحتّم علينا أن نَصِف الواقع كما هو، وليس بِهوَى نظرة انتقائية.
ومحاولتي الردّ على نظرية : الأخلاق متلازمة الحضارة والمجتمع السوي ، ستجرّ إلى طاولة التشريح ( الأخلاق )، محور فكرة الأستاذة . فماذا يقول واقع المجتمع الذي أشادت به الأستاذة ناعوت ؟

يقول : إن اليابان ككل بلاد العالم تمرّ بأزمات وتوترات ، لا تختلف في تفاصيلها عما نسمعه من حوادث مؤسفة في أي بلد آخر، متخلِّفاً كان أم متقدماً . وما كان صالحاً من الأخلاق في عهود مضت، بَلِيَ مع الزمن وتطوُّر المجتمع ولم يعد يساير ذوق العصر.

مجتمع السلام الياباني الذي يتيه فخراً بمنجزات الوطن، ارْتاع خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص ، من وقوع حوادث ضد القانون مثيرة للقلق، رافقتْ التغير السريع في إيقاع الحياة ، مما فرض على الأفراد سلوكيات جديدة، وعلاقات اجتماعية تتّسِم بطابع الشك والحذر الشديد . وآخرها الجريمة المرعبة قبل أسابيع ، بطلها سفاح شاب ، استدرج إلى شقته تسعة أشخاص تعرف عليهم عبر الأنترنت، وقتلهم وقطّع أعضاءهم بالمنشار، وحفظهم في ثلاجات كبيرة.
أي تربية تلقّاها هذا الشاب في بيته ومدرسته ومن مجتمعه ؟! حسناً .. لِنُلصِقْ تهمته بظهر المرض النفسي.
فماذا عن صانِعي الحضارة ؟
في أوائل أكتوبر الماضي ، تناقلتْ وكالات الأنباء خبراً، يتعلق بفضيحة لشركة يابانية عالمية ضخمة سحبتْ سياراتها من السوق، بعدما تبيّنَ أنها لم تخضع لفحوصات مفتشين مُعتمَدين رسمياً طبقاً للقانون ، وقام غير المتخصصين من معاونيهم بالمعاينة وبعلْم مديري الشركة !
ثم لحقتْها بعد أيام فقط، شركة أخرى لا تقلّ ضخامة عن السابقة بنفس المخالفة الخطيرة !!
لم يلحق الشعب أن يطلق زفرته العميقة، حتى لحقها شهيق مفاجأة جديدة خلال مدة قصيرة جداً ، وهو يقرأ عن لجوء شركة مشهورة لصناعة الحديد والصلب، إلى تزوير بيانات متعلقة بجودة إنتاجها !!!
ووقف المسؤولون الكبار أمام الفلاشات الفاضِحة، ورؤوسهم ساقطة على صدورهم يعتذرون عن فعلتهم الأخلاقية الشنيعة.
ما أوسع الذمم الأخلاقية عند المصالح ، وما أعدلها عندما تخضع للقانون الحازم !
وكانت دهشة العالم كبيرة لارتكاب عمل شائن كهذا، آتٍ من البلد الثقة . وتذكّر الجميع خبر العام الماضي، حول استقالة رئيس إحدى الشركات اليابانية الكبرى، بسبب فضيحة تلاعب الشركة في اختبارات كفاءة استهلاك الوقود، لتقديم أفضل النتائج عن التوفير باستهلاك الطاقة ، واعترف المسؤولون أن المخالفات بدأت عام 1991 ، أي قبل سبعة وعشرين عاماً.
ليس بالأمس القريب .. مما يعني أن هذه الشركة ( متعوِّدة ) على هذه الأخلاق !

إذا كانت هذه هي * { الأخلاق : متلازمة الحضارة والمجتمع النظيف السوي، التي حلّقت باليابان طيراناً صاروخياً لتغدو القوة الاقتصادية والصناعية الأولى في العالم ؟ } كما قالت الأستاذة ، فأي ريح طيّرتْها اليوم ؟
وهل كانت شركات السيارات ذات السمعة العالية بعملها هذا * { تتصرّف وهي تحمل الآخرين في عقلها ، بدلاً من التفكير فقط في نفسها } ؟
ألمْ تنشغِل تلك الحيتان والقروش في تنمية الكُروش المصرفية ؟

ملاحظة : العبارات التي تسبقها إشارة { * } وردت في مقال الأستاذة ناعوت، أستعين بها حرفياً لأطبّقها على المطروح.

لقد أدّتْ القوة الصاعدة للرأسمالية اليابانية الوطنية، مهمتها الجليلة بحِلْم ووقار، في فترة عصيبة نفسياً جاءت بعد الهزيمة الساحقة في الحرب الثانية ، كانت تحتاج لِتَجييش الجهود للنهوض بوطن من تحت الأنقاض والموت . كان زمناً لا يحتمل ميوعة أو تراخياً في العمل . وتحفّز الجنود المخلصون لنجدة الوطن بحماس ، بروح الكتلة الواحدة ونكران الذات.
هذا هو المدلول السامي الحضاري لمعنى ( الجهاد ) عندما يكون على ذات أرض الوطن !!
كان من المفهوم آنذاك أن يتنازل الإنسان عن حقوقه ، ويضحّي بهدفه الأصغر إكراماً للهدف الوطني الأكبر.
أما .. بعد مرحلة دقيقة سارت وفق نظام هرمي صارم ، قطع الوطن بفضله شأواً بعيداً في المجد والرقي ، فقد كان المفترض من الشركات الضخمة التي ( إذا) كانت *{ الأخلاق متلازمة حضارتها } حقاً، أن تبادر إلى رد الفضل والجميل إلى أبناء الجيل الأول المُؤسِّس لعظمتها ، لأنها بالأخلاق *{ تعرف حقوق الموظفين عليها، فتحرص على حقوقهم في الراحة والرفاهية، وتقدم تلك الحقوق عن طيب خاطر قبل أن يطالبها الموظفون بحقوقهم } حسب ملاحظة الأستاذة.
لكن الذي حصل لا يؤكّد نظرية الأستاذة ناعوت في الأخلاق ؛ فالشركات الجشعة ، التي ( لا ) تعرف حقوق الآخر عليها، و( لا ) تقدّم تلك الحقوق عن طيب خاطر، ظلتْ على نهجها الصارم، مطالِبة بحقوقها هي لتظل مستأثِرة بالقمة ، مُجبِرةً طاقم الموظفين على ساعات عمل إضافية تتجاوز ثمانين ساعة شهرياً .. وأرْشدها الوازِع الأخلاقي إلى أن عمل الموظف إكرامية منه للشركة ولا مقابل مادي له ! وإن حصل على مكافأة .. فمن البحر نقطة ، أو على أحسن تقدير من الجمل أذنه.

للأخلاق أجنحة ملائكية تطير بها إلى السماء السابعة عندما تتحكّم قسوة المنطق وبرودته . فكر براجماتي نفعي يحرّك مصير البشر بأخلاقه التي لا تعرف المثالية ، يُداري مصالحه أينما كان ولو على حساب خراب القيم والأمم.

لو كانت الشركات تعرف حقوق الموظفين عليها ، لما استدعت سياساتها الأنانية هذه تدخل الدولة ، بعد أن تكررت الحوادث المأساوية ، ومع بدء انهيار نظام الأسرة المتماسكة ، وانتشار الأمراض النفسية والعصبية من جراء العمل المرهق . فبدأت حملات توعية مُضحِكة بمخاطر العمل الإضافي .. وباءت الجهود بالفشل ! دون ريب .. منْ ذا الذي لا يعلم بمخاطر العمل الشاق !؟

فإذا انتقلنا من عالم الشركات صانعة الحضارة، إلى عالم الجامعة صانعة العلم والثقافة، سنندهش عندما نسمع عن قضية تحرش جنسي.
ومع حضور هذه المشكلة في المجتمع ، إلا أنها بالتأكيد تظل من القضايا المحدودة جداً، ولا تصل أبداً .. أبداً ، إلى درجة أن تصبح ظاهرة خطيرة، كما في المجتمع العربي المعلول جنسياً ونفسياً.
فماذا نقول في مجتمع الأخلاق ، عن سلوك أستاذ جامعة معروفة، قد اضطر بقرار من المحكمة إلى تسوية مالية، في قضية متعلقة بالتحرش وابتزاز طالبة مقابل حصولها على درجات النجاح ؟
تقول الأستاذة ناعوت في مقالها :
{ الياباني يعرف حقوق الآخر عليه، ويُقدّم تلك الحقوق عن طيب خاطر، قبل أن يطالب بحقوقه هو. وذاك قمة الذكاء.
لأنه حين يقدم "واجبات" الآخرين، فإنه في نفس اللحظة يضمن "حقه" الشخصي، لأن الآخر سوف يؤمن له واجبه، أي حقه. الحقُّ والواجب أصبحا معًا "واحدًا صحيحًا" لا تنفصم عراه، وليسا فعلين متلازمين أو منفصلين يتمان معًا أو يختلفان أو يفترقان. }
انتهى.
العمل الإضافي المرهِق في الشركات، يزعزع هذه الفكرة . وحالة الأستاذ الجامعي تبدّد معانيها . إذ لم يعرف الحقوق العلمية للطالبة عليه لِيقدّمها على حقه الشخصي في التحرش والرذالة .. وكانت قمة الغباء منه عندما ظنّ أن حقه في التحرش، وواجب الطالبة في تقديم المتعة *( أصبحا معاً " واحداً صحيحاً " لا تنفصم عراه ) !
أليست هذه الأخلاق هي متلازمة الانهيار القيَمي عند السادة المتحكِّمين بمصائر البشر ؟

حضرات الكرام : حتى نحكم على أخلاق إنسان ، نحتاج إلى أن نراه ملتزِماً بالسلوك الرفيع ب( إرادته الحرة )، لا بإرادة القانون . فالأخلاق لا تأتي بقرار سماوي إلهي ، أو من جهة فَوقية قانونية ، بل تنبع من داخل حرّ قرّر أن يكون فاضلاً حتى لو وُجِد في محيط تتراكم فيه العاهات والفوضى !!

ولا يخفى بالتأكيد على المواطن الياباني الفاضل ناشر الكليب، إحدى أخطر المشاكل في الوقت الراهن ؛ التسرّب من المدارس بسبب العدوانية والعنف ، وخصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة.
أخبار بدأت تغزو مسامع اليابانيين ، أخذت تطغى على الأحوال السياسية المتأزِّمة ، وأصبحت من الجرائم الأخلاقية المتوقَّعة ، في مجتمع كان إلى وقت قريب يتّسم بأعلى مستويات الأمان، (وما زال كذلك مقارنةً بمجتمعات أخرى) ؛ من قتل العجائز ، إلى الاعتداء على الصغيرات ، إلى بَيْع أرض استراتيجية للدولة إلى جهة صديقة بسعر منخفض جداً ، وتجاوزات بعض أعضاء البرلمان وحتى رجال الشرطة !

بلد الملائكة نراه في أحلام اليقظة !
والإنسان يميل عفوياً إلى الانفلات من الأحكام والرقابة لتلبية غرائزه إذا أتيحت له الظروف ، فكيف في بلد تتلاحقُ فيه وتيرة التغيير بسرعة غير عادية ، وتختلف معها ملامح الحياة المنضبطة التي سادت في الماضي.

الرهان على الأخلاق لبناء مجتمع سوي راق، يمكن أن يكون مثالاً لمجتمعات أخرى تسعى إلى التطور، رهان يحيط به شك كبير.
فكل شعب يمكن أن يحتكر الفضائل ويرى نفسه الرائد والجدير بقيادة العالم ، فنعود إلى شكل استعماري جديد باسم القيم.

أخيراً .. لي ملاحظة هامة على عبارة وردت في مقال الأستاذة ناعوت . تفضلتْ بالقول :
{ الأخلاق هي فن مراقبة الآخر. ليست "مراقبة الآخر" كما نفعل عندنا...... إنما "مراقبة الآخر" تعني في الأدبيات اليابانية العمل على راحة الآخر والاجتهاد في تكريس شعور الآخر بالأمن والراحة. }

مراقبة الآخر على الطريقة العربية حسب رأي الأستاذة، يأتي حديثي عنها في المقال القادم . فماذا عن مراقبة الآخر على الطريقة اليابانية ؟

( مراقبة الآخر) !؟؟
لماذا اختارت الأستاذة ناعوت هذه العبارة، ذات الحمولة الثقيلة الموروثة من عصر القبائل المتناحرة ، وما زال الأحفاد يعانون من آثارها الرهيبة ؟
عبارة لها دلالتها النفسية في الوجدان العربي ، حرّرتْها الأستاذة بأسلوب الوصاية الأبوية العربية ، مع أنها بنفَس حضاري عبّرتْ عن رؤية راقية، إلا أن مجرد حضور هذه العبارة يضرّ بهدفها النبيل.

نحن نقرأ في هذه العبارة ذاكرتنا القبلية ، حيث يحرص الأب الأعلى في كل الثقافات الجماعية ومنها اليابانية ، على مراقبة الابن وتهيئته لوراثة زمام السلطة من بعده ؛ فهو امتداد لأبيه وعليه تنكُّب المسؤولية تجاه الآخر، فيعمل على راحة أفراد عشيرته والاجتهاد * ( في تكريس شعورهم بالأمن والسلام.)
استدعاء مفهوم مراقبة الآخر، يفترِض النقص عند الآخر، الذي يحتاج إلى منْ يحرص على إزالة أسباب القصور، لإرساء الشعور بالأمن والراحة.

هذا المفهوم : مراقبة الآخر ، يخرج من منطوقه اللفظي، لِيطفو على سطح العقل العربي بشكل لا إرادي ما اختزَنَه، من مرجعية أبوية طارِدة للتفرّد والاستقلال ، فتكون سنداً لسلوك يسْتقي قيَمه منها . وهذا ما كان عليه الياباني بالفعل، من الماضي السحيق وحتى زمن تجاوُزِ نتائج الحرب المدمِّرة وبدء النهضة المتألقة، وما زالت آثاره الضعيفة تظهر في بعض سلوكيات الأحفاد.

لقد انتهى الزمن الفجّ عندما كان الياباني لا يختلف في شيء عن أخيه العربي . إنهم الآن في أوان النضوج وتجسيد مفهوم ( الانتخاب الحضاري ) لا مراقبة الآخر ! عبر الجهاد الذاتي والتطوعي والجماعي، للتضامن والتعاطف ومساعدة العاجز والمعاق، والعمل بجدّ على اجْتراح أشكال جديدة من الحياة تدعم التواصل الإنساني.

يزيد من رفضي كلمة : فن ، في عبارة *{ فنّ مراقبة الآخر } !
لأني لا أضمن أن هذا الفنّ قد يتطور عند البعض المريض نفسياً ووجدانياً، فيظن أنه القيّم على هذه الميزة الرفيعة، وليعطي نفسه الحق في مدّ فن وصايته على الآخر، ظاناً أنه بأسلوبه الأخلاقي هذا يعمل بفنّ على راحة الآخر ورفاهيته !
فلا نلوم مثلاً الشاب الياباني قاتل العجائز في العام المنصرم، لإراحتهم من أمراضهم وتخليص المجتمع بِ ( فن ) من عالتهم عليه !
كذلك الشركات آنفة الذكر، المراقِبة بفنّ لمصالحها الشخصية، ولجيوب المستهلك ؛ يعطيها العافية والله .. كتّر خيرها ! نحكي عليها فوق ما قدّمت لنا سيارة اقتصادية ولو بطرق فهلوية ملتوية ، وفوق حرْصها الأخلاقي على ألا نبعزِق أموالنا شمالاً ويميناً، بسبب خدمات اختصاصيين فنّيين تزيد من سعر المركبة .. أوووف ~ يا لتنطُّعنا !
وطبعاً .. سيشقّ هذا الفن سبيله بقوة في مجتمعنا المتهالك الضائع ، عندما يتفنّن الأخ المثالي ذو الرؤى القاحلة ، بالعمل على غمْر المجتمع بعطفه ، بتهيئة أسباب الأمن والراحة عَبْر مراقبة الآخر ، فيهبّ بقفزة فنية لتكريس السلام بيده ، دون المرور على مرحلتَيْ القلب واللسان ، كما يحصل التقويم الآن بِفنّ طرزانيّ غير مسبوق.

نعم لِ ( فن مراقبة الذات ) ، ولا لِفن مراقبة الآخر.
في بيئة الانتخاب الحضاري الصحية، يمارس الإنسان المسؤولية الذاتية بقوة ضميره وطاقة وعيه.
عندما يوجِب الإنسان على نفسه الالتزام الواعي بتكاليف المجتمع والقوانين المدنية ، سيحقق تلقائياً ردود فعل ناضجة، تعمل على راحة الجميع وسلاسة تقدم الحياة، دون حاجة لمراقبة الآخر.

إذا لم تكن الأخلاق متلازمة الحضارة كما أسلفْتُ القول، فكيف حقّق الإنسان الياباني هذه القفزة الجبارة ؟
هذا سيكون حديثي في المقال القادم.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العزيزه الغاليه ليندا كبرييل
عامر سليم ( 2017 / 11 / 19 - 12:34 )

تحية تقدير واحترام

الكتابه هو انفتاح جرحٍ مـــا ..فلنبدأ بما هو صحيح وليس بما هو مقبول........كافكا

في تعليقي على المقال الذي تشيرين اليه ...قلت ان السؤال يحتاج الى جواب عميق , وها انت تخوضين بكل جهد و شجاعه في الجواب العميق عبر هذه السلسله الرائعه من المقالات , والتي اقرئها بكل هدوء , وانتظر التاليات بكل الصبر.

تحياتي وتقديري لجهدك المبدع و المتميز


2 - بلد الملائكة نراه في أحلام اليقظة
ليندا كبرييل ( 2017 / 11 / 20 - 01:57 )
تحية وسلاماً لأستاذنا القدير عامر سليم

شكراً لحضورك العزيز، ولرأيك الذي أعطاني الداقع للتفكير في مناقشة نظرية الأستاذة ناعوت حول الأخلاق البانية للمجتمع السوي

الأخلاق النابعة من داخل حر هي الضابط للإنسان الراقي، والقانون هو الضابط للمجتمع السوي

ولن نجد بلدا واحدا في العالم تجتمع فيه هيبة الأخلاق دون أن يكون القانون أمامها وخلفها

هذا ما رأيته من ملاحظاتي المتواضعة فأرجو أن أوفق في مقالي الثالث والأخير حول هذه الفكرة

تفضل خالص احترامي حضرة المعلق القدير

اخر الافلام

.. برنامج الأغذية العالمي يحذر من خطر حدوث مجاعة شاملة في غزة


.. احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا




.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين


.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج




.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب