الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسألة اللزوم المنطقي في الفكر العربي الإسلامي.

تفروت لحسن

2017 / 11 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"مقتضى مسألة اللزوم أن مقدمات اللزوم قد تدرج في النتيجة واحدة واحدة، فيتساوى اللزوم الصحيح والقانون المنطقي الناتج عن إدراك جميع المقدمات"


كثيرا ما نستدل على صدق أو كذب قضية بالانطلاق من قيمة قضية أخرى، أو تنتقل من شيء معلوم إلى مجهول مطلوب، وقد نقيم الدليل على صدق حاصل عن فرض مقدر... ومعلوم أن هذا الصنف من الاستدلالات يكثر استخدامه في كل أصناف المعرفة الإنسانية من أبسط الاستدلالات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية إلى أقصاها في مراتب التجويد؛ ذلك أن الانتقال من شيء إلى آخر إثباتا أو انتزاعا، أو إيقاع النسبة في حكم أو رفعها عنه هو تدليل. وإذا كان كل تدليل يتكون من مقدم أو مقدمات هي بمنزلة الملزومات (محققة أو مقدرة) ومن تال أو توال هي بمنزلة اللوازم، فإن الانتقال من ملزوم إلى لازم في العملية الاستدلالية تحكمه علاقة، سواء كانت تلك العلاقة هي شيء بسببه يصطحب الأول الثاني، كالعلية والتضايق أو كانت هي ترتب الأول عن الثاني... وكيفما كانت طبيعة هذه العلاقات فإنها مردودة إلى اللزوم، ذلك أن كل دليل مستلزم لمدلوله والمدلول لازم للدليل . وقد تختلف وتتنوع الروابط الدالة على علاقة اللزوم في اللغة الطبيعية، فنجد مثلا في اللغة الانجليزية ألفاظا متنوعة تدل على اللزوم عنها:
If …. Then – implies – therefore – it follows that – hence – quensequentley that… entails that .
كما أن اللغة العربية تتوفر على مجموعة من الألفاظ الدالة على اللزوم من قبيل: إذا كان ...، فإنه – إن كان ... فإن... لو كان كذا، لكان كذا – كلما... كلما... مهما... فان... عن كذا يلزم كذا – من كذا نستنتج كذا...الخ .
والحق أنه كلما ارتبطت قضيتين بإحدى هذه الروابط فإن الحاصل يسمى قضية لزومية An implicative statement أو فرضية Hypothetical أو شرطية، بحيث يسمى جزؤها الأول مقدما أو ملزوما implicaus أما جزؤها الثاني فيعرف بالتالي Conséquent أو اللازم Implicate.
صحيح أن العبارات المبنية بواسطة مثل تلك الروابط تفيد وجود علاقة ما بين الملزوم (با) واللازم (جا)، وهذه العلاقة قد تفيد علاقة السبب بالمسبب، أو الأصل بالفرع أو المبدأ بالنتيجة أو الشرط بالمشروط.
وبما أن الروابط الدالة على العلاقة اللزومية مختلفة، فكذلك تختلف التعابير الدالة على تلك العلاقة، وعنها، العادة، الترافق، للاستصحاب، الاقتضاء، الشرط، الترتب، الاستتباع، الاستلزام... الخ، وسواء سميت العلاقة تفطنا أو تولدا أو عادة فإنها لزوم، وهو انتقال من شيء ملزوم إلى آخر ملتزم" . وهذا الاختلاف الاصطلاحي نجده أيضا في اللغات الأخرى، فنصادف مثلا:
Implication - Implicative - Supposition - Présuppotion - Relevance
كما أن العلاقة اللزومية ليست محصورة على القضايا الإخبارية، المحققة أو المقدرة، فحسب، بل إنها تشمل أيضا الصيغ الطلبية، ذلك أننا نستخدم اللزوم بقصد السؤال أو الأمر أو لقضاء مختلف أغراضنا التكلمية وكأن اللزوم معرفة مشتركة يتقاسمها الناس، ذلك أن الاستدلال بالملزوم على اللازم يحصل، إضافة إلى إدراكه والتصريح به، بغير ذكر لفظ اللزوم ولا تصور معناه.
وإذا كان اللزوم يعتبر علاقة أساسية وشاملة لكل استدلال، فإن اختلاف الصيغ الدالة عليه (روابط أو تعابير أو أسماء) لا يفيد أن للعلاقة معنى واحد ووحيدا. بل إن هذا الاختلاف نفسه يدل على غنى المفهوم وتنوع معانيه.
فلا عيب إذن أن يقر المفكرون – رغم اختلاف توجهاتهم ومجال أبحاثهم - منذ القديم إلى اليوم، بأهمية اللزوم، إذ المعنى الأساسي للقضية راجع غلى علاقة اللزوم التي تربط بين مقدمها وتاليها، بحيث إن فهم معنى القضية الشرطية يقتضي أولا فهم المقصود بعلاقة اللزوم، وقد لا نبالغ إن قلنا أن اللزوم هو روح المنطق؛ إذ هو أصل الاستدلالات المنطقية أن لم يكن المنطق باختصار هو علم اللزوم.
فالأقيسة الأرسطية لا يمكن فهمها دون تحليل أساسها وهو الضرورة القياسية التي هي صنف من اللزوم في معناه العام، فسواء عرف القياس بأنه: "قول إذا وضعت فيه أشياء لزم عنها لذاتها شي آخر بالضرورة" أو إنه "قول إذا وضعت فيه أقوال تولد عنها لذاتها قول آخر بالضرورة" فإن العلاقة اللزومية هي التي تربط بين المقدمات والنتيجة، وسواء عبرنا عن تلك العلاقة باللزوم أو التولد أو الضرورة الإستنثاجية، فإننا نقر بوجود اللزوم كرابط أساسي، ولذل فكل " الأقيسة، أو لنقل كل الأشكال الاستدلالية هي صور من صور الأدلة، وجميع الأدلة يرجع إلى أن الدليل مستلزم للمدلول" . وهذا معناه أن كل عملية استدلالية صحيحة مؤسسة على اللزوم، ولا يقتصر هذا الحكم على المنطق الذي هو علم اللزوم، بل إن هذا المفهوم الأخير داخل في قضايا دلالية وتداولية أخرى، فقد يتدخل في المركب البلاغي، " إذ الحقيقة والمجاز ترتكزان على اللزوم " الذي تعمل بمقتضاه آليات التواصل والتبليغ.
وإذا كان المناطقة وفلاسفة اللغة قد أقروا بأهمية وأولوية العلاقة اللزومية والتلازمية بمختلف مستوياتها، فإنهم لم يخفوا صعوبة تحديد مسألة اللزوم، ذلك أن تعريف هذه العلاقة يفضي إلى الدور والتسلسل. فإذا حاولنا مثلا حد هذه العلاقة كما لو كانت تقول " إذا صدقت هذه القضية فإن القضية الأخرى تكون صادقة " سنصل غلى الدور؛ لأن الأداة: " إذا ... فإن " تتضمن هي الأخرى لزوما، أي أنها توصل إلى لزوم جديد ولا تقدم لنا تعريفا للزوم". ولا يختلف الأمر إذا قلنا في تأويل اللزوم أن القضية (بـا) تستلزم (بـا) تعني أن ثمة نوع من الاستدلال قائم بين (با) و(جا)، لأن تعريف الاستدلال يردنا من جديد إلى مسألة اللزوم، ذلك أن مفهوم الاستدلال يؤدي بنا إلى مفهوم الصحة الذي يستتبع هو الآخر مفهوم اللزوم. فالعلاقة (عا) الرابطة بين المقدمات والنتيجة في استدلال ما تكون صحيحة إذا كانت (با) و(جا) تستلزمان معا (جا).
ولن نخفف من حدة المشكل إذا قلنا " اللزوم هو كون الحكم مقتضيا لحكم آخر، بحيث أن الحكم الأول لو وقع يقتضي وقوع الحكم الثاني اقتضاءا ضروريا" ، وهذا التعريف يستدعي هو الآخر تعريفا للاقتضاء الذي هو داخل في حد اللزوم، لكنه أخص منه، فتكون إذن، كم عرف المشكل بما هو أشكل.
وهكذا يتبين أن اللزوم مفهوم غامض وصعب التحديد، ولذلك شكل موضوع سجال في الفلسفة كما في اللسانيات، إذ أنه كموضوع للدراسة يطرح العديد من المشاكل وبالأخص المشكلة الأساسية المتمثلة في العلاقة ما بين الدلالة والتداول بين المعنى والاستعمال.
والحق أنه لا يمكن تناول مسألة اللزوم دون التعرض للمفارقات أو ما يعرف في تاريخ المنطق بـ "مفارقات اللزوم" les paradoxes de l’implication، تلك المفارقات التي تناظر حولها وكتب فيها العديد من المناطقة واللغويين منذ نشأة الخلاف بين فيلون وديودور حول صحة القضايا المحتوية على علاقة اللزوم.
ولقد نتج عن ذلك الخلاف مجموعة من المحاولات لإيجاد حل لمفارقات اللزوم، وإذا كان هذا دليلا على صعوبة العلاقة اللزومية من حيث كونها تفضي البحث مفارقات، فقد انعكس ذلك على تصوري لهذا الموضوع ؛ ولذا اخترت كعنوان " مسألة اللزوم "، اعتبارا لأنه المسألة إشكالية، أي بنية معقدة عناصرها وتتطلب كثيرا من التركيز بغض الاقتراب وتقريب بعض الحلول المتعلقة بالمسألة، أي علاقة اللزوم.
ولم يكفيني الوعي بصعوبات إشكالية اللزوم، بل ثمة إغفال لجانب مهم في طرح مسألة اللزوم إلا وهو التراث الإسلامي - العربي؛ فكيف يعقل أن تاريخ المنطق في تناوله لمفارقات اللزوم تعرض المفهوم حتى عند الهنود دون الإشارة إلى اللزوم في أصله العربي الإسلامي؟! وإذا كنا لا تتعجب من هذا الموقف ألإقصائي الذي وسم كل أصناف المعرفة الإسلامية العربية، فإن موقف الغربيين أستنهض همتي للدخول في هذا مشروع محكوما بالمسلمتين التاليتين:
1) إن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم اللزوم؛ فمن عرف أن هذا لازم لهذا، أو أنه إذا كان كذا وأمثال هذه الصيغ فقد علم اللزوم. ومعلوم أن مضمون هذه المسلمة عبر عنه المفكرون العرب القدامى وانكبوا عليه بالدراسة والتحليل انطلاقا من الفرضيات الموالية.
1-1- إن الضابط في كل دليل منطقي عربي إسلامي هو اللزوم، أي أن يكون الدليل مستلزما للمدلول، فما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه، ذلك أن وجه الدليل هو العلم بلزوم المدلول له، فمتى لزم الدليل من المدلول علم أنه دال عليه وتبتث لعلاقة اللزومية بينهما، بحيث تبقى جميع الأدلة متلازمة من حيث حصولها أو تأسيسها على علاقة اللزوم في معناه العام.
2-1- محصول الاستدلال في البيان العربي يعود إلى إلزام شيء يستلزم شيئا، فيتوصل بذلك إلى الإثبات أو يعاند شيئا فيتوصل بذلك إلى النفي.
3-1- إن الانتقال من معنى صريح إلى آخر مستلزم مؤسس على اللزوم أو ما يعرف بالتوليد المقامي المناسب، كما أن الدلالة تعرف بكونها "العلم بشيء يستلزم العلم بشيء آخر".
وباختصار فحاصل النظر يرجع إلى اللزوم، ولزوم بعض الأشياء للبعض مما لا ينكره عاقل ، وقد يكون العلم حاصلا باللزوم، إذ أنه لما كان مجرد الدليل بدون تصور المدلول لا يحصل به العلم، "وكان وجه الدليل هو العلم بلزوم المدلول له تبث أن العلم حاصل باللزوم.
وهكذا يتضح أن المعتبر في الأدلة، طبيعية وصناعية، في الفكر الإسلامي العربي هو العلاقة اللزومية أو التلازمية أو ما يتولد عن معناهما، وهذا ما يرتبط بالمسلمة الثانية:
2- إن اللزوم يتصف بكونه ينتقل من قطاع معرفي إلى آخر في الفكر الإسلامي، أي أنه يتصف بصفة التجوالية، فهو مفهوم رحال Concept nomade ولاشك أن هاتين المسلمتين تستندان إلى خصوصيات المجال التداولي الإسلامي العربي، بقواعده: اللغوية والمعرفية والعقدية، الذي أضفى على اللزوم طبيعة خاصة ميزته عن مفارقات اللزوم في تاريخ المنطق الغربي.
ولما كانت إشكالية اللزوم قد تم إهمالها، كغيرها من المعارف الإسلامية – في الدراسات الغربية التي تناولت مفهوم اللزوم، فإن أبحاث بعض المفكرين المسلمين العرب المحدثين تفطنت لوجود المفهوم وأهميته، لكن دراستهم بقيت في منآي عن تطوير المفهوم بحسب تطورات الفكر المعاصر، ويمكن إجمال تصورات الدارسين العرب حول اللزوم في فيما يلي:
أ) فئة أدركت أهمية المفهوم وأغفلت تحليله في تأسيس المنطق والبلاغة العربيين.
ب) صنف أدرك وجود العلاقة وأهميتها وصرح بذلك، لكنه لم يفصل القول في طبيعة اللزوم الإسلامي ولم يميزه عن اللزوم الغربي.
ج) أما البعض فقد عرف العلاقة لكنه اعتمد على المنهج التاريخي المقارن دون تمييز خصوصية اللزوم في الفكر الإسلامي العربي.
د- وأخيرا فئة خلطت بين خصائص اللزوم في المنطق العربي وبين خصائص اللزوم في المنطق الغربي دون فصل ولا تمييز.
ولما كان الالتزام المعرفي يتطلب الاحتياط من عدم الوقوع في آفات التعميم أو السقوط في الكلام النافل، فإن سبر أغوار موضوع اللزوم في الفكر الإسلامي – العربي يقتضي الكشف عن بعض القضايا الملازمة اللزوم، وذلك بدراسته في الفكر الإسلامي العربي مع الاستناد إلى ما استجد في المنطق وفلسفة اللغة المعاصرين من دراسات، وذلك بقصد تطوير المفهوم وإعادة بناءه، دون أن يعني ذلك إنزال أدوات غريبة عليه ولا إسقاط مفاهيم خارجية دون تمييز.
أما تحقيق مطلوب هذا العمل فسيكون بالنظر في مسألة اللزوم المنطقي في الفكر الإسلامي العربي وتركيز آلياته الاستدلالية وخصائصه المنطقية والرياضية وإدراك جوانب القوة والضعف، وذلك عبر ثلاثة فصول، خصصت الفصل الأول منها بالتقعيد لأضاف القضايا وعلاقة باللزوم من وجهة نظر معاصرة، أما الفصل الثاني فجاء مستندا إلى ما بني في الفصل الأول، ولذلك خصصت الفصل الثاني للنظر في دور اللزوم في بناء الأقيسة كما تم فحص أوجه العلاقات الممكنة بين هذه الأخيرة ومسألة اللزوم، أما الفصل الثالث فقد خصص لتحديد بعض الخصائص الطبيعية الرياضية لعلاقة اللزوم في الفكر العربي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو العسكرية شمال محافظة بابل ج


.. وسائل إعلام عراقية: انفجار قوي يهزّ قاعدة كالسو في بابل وسط




.. رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بابل: قصف مواقع الحشد كان


.. انفجار ضخم بقاعدة عسكرية تابعة للحشد الشعبي في العراق




.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي