الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الاشتراكية، كوابحها وتناقضات النيوليبرالية اليوم

شرف حسان

2017 / 11 / 20
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا



**الملكية الخاصة

هدف الثورة الاجتماعية التي تحدث عنها ماركس هو تحقيق ما لم تحققه الثورات الثلاث الكبرى: رخاء ورفاهية اقتصادية، حرية، مساواة، اخاء وتضامن بين البشر، والتغلب على مشكلة الاغتراب والوصول الى حالة من السلام على المستويات المختلفة. كل ذلك لن يتحقق بدون الغاء الملكية الخاصة والتي هي سبب كل المشاكل الاجتماعية التي تميز الانظمة الطبقية. الملكية الخاصة لوسائل الانتاج هي العائق امام تحقيق الوعود والآمال من الثورات التي سبقت الثورة الاجتماعية الشاملة.



**سياسة التدجين
سرّ السيطرة على المجتمع رغم استفحال الفقر واتساع الفجوات الاجتماعية لا يكمن باستعمال قوة الدولة والجيش والشرطة والمخابرات فقط، بل بالاساس لاعتمادها لاجهزة قمعية عديدة منتشرة في المجتمع تعمل بشكل غير رسمي واحيانا غير معلن على "تدجين" المهمشين والمضطهدين واقناعهم بان الوضع القائم هو وضع الطبيعة ولا يوجد امكانية لبدائل اخرى سوى الوضع القائم. ولعل مناهج التعليم والمؤسسات التربوية والثقافية والاعلامية لها الدور المركزي في هذه العملية.





شهد القرن الماضي نجاح عدة ثورات اشتراكية في عدة بلدان في العالم، كان ابرزها وأكثرها تأثيرًا ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا التي يحتفل هذه الايام بمرور مئة عام على وقوعها. ولعل الاستنتاج الاهم من وقوع هذه الثورات ونجاحها في اقامة انظمة اقتصادية-اجتماعية جديدة، هو ان المجتمعات البشرية قادرة على تغيير الانظمة المسيطرة واستبدالها بأخرى. فالأمر ليس حلمًا او ضربًا من الخيال كما يصفه البعض اليوم، بل شيئا قابلا للتحقيق، قد حدث في الماضي وما نجحت الحركات الثورية بتحقيقه في الماضي هو ليس مستحيلًا فقد تستطيع تحقيقه مجددًا.
هذه التجارب الهامة لبناء انظمة طمح مؤسسوها لتحقيق العدالة والاشتراكية والمساواة الاقتصادية، بسلبها وايجابها، وفرت الامكانية لدراسة هذه التجربة وتقويمها وتعلم العبر منها وتطوير الفكر الثوري الذي يحتاج كل الوقت الى تطوير بناءً على التجارب المتراكمة والتغييرات السريعة التي يشهدها العالم اليوم. فحالة الجمود والكسل الفكري، المتمثلة باستيراد افكار وبرامج جاهزة من الغرب وعدم تطويرها وملاءمتها وضعف الانتاج الفكري، التي اصابت الكثير من حركات اليسار والاحزاب الشيوعية في العالم العربي خصوصًا، والتعامل مع النصوص الماركسية كنصوص جامدة خارجة عن سياقها التاريخي وملائمة لكل زمان ومكان، شكلت عائقًا مركزيًا امام نمو هذه الحركات وانتشارها وزادت من الاغتراب بينها وبين المجتمعات والطبقات التي نشطت فيها وسعت لتغييرها. من هنا ضرورة دراسة ثورات القرن الماضي وايضًا التجارب الثورية التي اخفقت في تغيير الانظمة في بلدانها و تجارب الحركات والاحزاب اليسارية عمومًا والاشتراكية والشيوعية خصوصًا التي بقيت محصورة التأثير والقوة في مجتمعاتها.
سيتناول جل هذا المقال مفهوم الثورة كما جاءت في كتابات ماركس وانجلز ومن ثم سيناقش بعض الاسباب التي حالت دون حدوثها في معظم الدول، وبشكل خاص الاجهزة المحكمة التي طورتها القوى المهيمنة لمنع تطور حركات ثورية تهدد هيمنتها وخصوصًا في المرحلة النيوليبرالية وتناقضاتها المتزايدة. يأتي هذا المقال ليكون فاتحة لنقاش حول امكانيات وتحديات العمل الثوري في القرن الحالي في محاولة لفهم مفهوم الثورة اليوم، ويسعى كذلك لإثارة الاسئلة بهدف بلورة توجهات واستنتاجات جديدة وافكار ثورية تلائم هذه المرحلة.
أُلفت النظر الى ان هذا المقال لا يسعى الى تقييم التجارب الاشتراكية نفسها واذا كانت فعلًا يمكن ان تعرف بالاشتراكية. فكما اشرت، الموضوع المركزي هو فكرة الثورة وامكانية التغيير الثوري. مسألة اذا كانت الانظمة التي تدعي او ادعت الاشتراكية هي اشتراكية اصلًا او مدى اشتراكيتها هي مسألة هامة يجدر الخوض بها، ولكن هي ليست موضوع هذه المقالة.




**مفهوم الثورة في فكر ماركس


يعتمد مفهوم الثورة عند ماركس على تحليل نقدي للثورات الثلاث المركزية التي شهدها القرن التاسع عشر في اوروبا: الثورة الصناعية والثورة الفلسفية والثورة السياسية. لقد علقت على كل واحدة من هذه الثورات الثلاث آمال كبيرة لتحقيق أهداف واحلام انسانية معينة ولكن لم تحقق هذه الثورات الآمال المرجوة منها رغم التحسن والتطور الذي احدثته بالمقارنة مع المرحلة التي سبقتها. ولذلك جاء ماركس مع مفهوم شامل لثورة اجتماعية بإمكانها تحقيق ما لم تحققه هذه الثورات.
فالثورة الصناعية جعلت من عملية الانتاج عملية جماعية تعتمد على التعاون والعمل الجماعي واسع النطاق في المصانع ووعدت بسيطرة الانسان العقلانية على الطبيعة وبالنمو والرفاهية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة والاحتياجات المادية للإنسان. لكن رغم كل ما حققته هذه الثورة الى انها عمقت الاستغلال وشعور الانسان بالاغتراب تجاه عملية الانتاج خصوصًا ان نتاج عمل العمال الجماعي يذهب الى حفنة ضئيلة يملكون وسائل الانتاج. فالعامل لا يتمتع بما ينتجه. لقد حققت هذه الثورة تطورًا اقتصاديا ووفرة ورخاء اقتصاديا ولكن في حين يتمتع اصحاب وسائل الانتاج بجل هذا الرخاء ويقومون بتكديس ومراكمة رأس المال، تعيش الغالبية الساحقة من البشر في فقر وظروف استغلال.
اما الثورة السياسية المتمثلة بالثورة الفرنسية وغيرها من ثورات مشابهة فقد وعدت بالمساواة والحرية والإخاء، ولكن في الواقع لم تحقق سوى المساواة المقتصرة على التصويت في الانتخابات وليس في أي مجال آخر سوى هذا المجال. فالفجوات الاجتماعية بقيت كما كانت بل اتسعت والمبنى الطبقي لم يتغير. اما الحرية في النظام الرأسمالي فهي حرية منقوصة ومحدودة لغالبية البشر الذين ينتمون الى الطبقات العمالية والمسحوقة،لأنها الحرية لاستغلال ما يقترحه لهم السوق فقط. انها حرية وهمية او وهم بالحرية لانهم لا يستطيعون فعلًا ان يفعلوا ما يريدون وانما لهم حرية الاختيار ضمن الامكانيات التي يحددها لهم النظام الاجتماعي-الاقتصادي. فهي حرية لا تدْعم ابناء هذه الطبقات ولا تخلق لهم فرصا حقيقية متساوية. وفيما يتعلق بالإخاء فهذه الثورة ادت الى انفصام في شخصية البشر. هذا الانفصام المتمثل في الفصل بين الانسان والمواطن وتعميق التناقض بين هاتين الهويتين. كانسان عليه ان يحب اخاه الانسان ويتمنى له الخير ولكنه كمواطن وكجزء من السوق الاقتصادية فانه يرى بكل مواطن آخر منافسًا له واحيانًا عدوًا. نقد ماركس هنا موجه الى الثورة السياسية ولكن ايضا الى فلسفة هيجل. فقد ادعى هيجل الذي اعتمد المنهج الديالكتيكي في تحليله لنشوء الدولة ان المجتمع مركب من ثلاث حلقات مركزية: الحلقة الاولى هي الاسرة حيث تمتاز علاقة الانسان مع عائلته بالتضامن، التضحية والعطاء. اما الحلقة الثانية فهي المجتمع المدني الذي يشمل الاقتصاد (السوق) والذي يمتاز بتناقض المصالح والعلاقات الانانية. اما الدولة فهي قمة التطور في المجتمع وهي نتاج العلاقة الجدلية المتناقضة بين علاقة الانسان في العائلة وفي المجتمع، فهي تشكل العلاقة الارقى بين البشر. الدول وفق هيجل تمثل الارادة العامة للمجتمع وهي كائن مستقل عن عالم المصالح المتناقضة للأفراد وللمجموعات المختلفة وهي تأخذ "الكل" الى درجة تقدم ارقى. بطبيعة الحال، ماركس يرى ان تمثيل الدولة للمصلحة والارادة "العامة" ولفكرة التضامن المجتمعي ما هي الا وهم وان الدولة بإمكانها ان تدعي ذلك فقط لفقدان التضامن في المجتمع المليء بالتناقضات والصراعات.
كذلك لم تحقق حسب ماركس الثورة الفلسفية حلم البشرية بالتغلب على ظاهرة الاغتراب لأنها اقترحت حلا وهميًا في الوعي الذاتي للإنسان، وليس حلًا حقيقيًا بإمكانه تغيير الواقع المادي للمجتمع. هيجل، الفيلسوف الذي اخذ الفلسفة الى القمة حسب ماركس، اعتقد ان الاغتراب هو الوعي الذي لا يعي ذاته ولذلك يشعر بالاغتراب تجاه ذاته. الوعي الانساني لا يعي ان الواقع المادي خارجه ما هو الا انعكاس فاسد له. وعندما يعي الوعي ذلك، يستطيع البشر التغلب على مشكلة الاغتراب. بالنسبة لماركس، العالم المادي قائم حتى بدون الانسان.
احساس ابناء الطبقات العمالية والمسحوقة بالاغتراب يزداد كلما زاد التطور الاقتصادي والتكنولوجي وذلك بسبب الادراك المتنامي بعدم قدرة ابناء هذه الطبقات على تحقيق احتياجاتهم المادية واتساع التناقضات الطبقية والاغتراب عن عملية الانتاج. في هذا السياق من الضروري الاشارة الى ان الاغتراب في الماركسية هو ليس مشكلة نفسية او فلسفية وانما هو واقع مادي وموضوعي ملموس. تجدر الاشارة ايضًا ان حاجة الانسان الى المنتجات والسلع هي المحرك للتطور الاقتصادي خصوصًا ان تحقيق الفرد احتياجا معينا يخلق حاجة لتحقيق ما هو افضل وارقى. ماركس، على عكس جان جاك روسو، لم يفرق بين حاجة ملموسة لوجود الانسان وحاجة متخيلة.




**الثورة الاشتراكية واهدافها


هدف الثورة الاجتماعية التي تحدث عنها ماركس هو تحقيق ما لم تحققه الثورات الثلاث الكبرى: رخاء ورفاهية اقتصادية، حرية، مساواة، اخاء وتضامن بين البشر، والتغلب على مشكلة الاغتراب والوصول الى حالة من السلام على المستويات المختلفة. كل ذلك لن يتحقق حسب التحليل الماركسي بدون الغاء الملكية الخاصة والتي هي سبب كل المشاكل الاجتماعية التي تميز الانظمة الطبقية. الملكية الخاصة لوسائل الانتاج هي العائق امام تحقيق الوعود والآمال من الثورات التي سبقت الثورة الاجتماعية الشاملة التي تحدث عنها ماركس وانجلز. الغاء الملكية الخاصة سيؤدي الى الغاء اقتصاد السوق وبالتالي سيختفي الفصل بين هوية الفرد كانسان وكمواطن وستختفي الدولة التي لن يكون لها حاجة. فالدولة وما تملكه من ادوات القمع والقوة قد جاءت لضمان استمرار البنية الطبقية القائمة على سيطرة أقلية من المجتمع تملك معظم الثروات والخيرات ورأس المال، على اغلبية واسعة تنتمي الى طبقات مستغلة ومسحوقة. وكل ذلك تحت شعار ان الدولة تمثل الارادة العامة للجميع.
التغلب الحقيقي على مشكلة الاغتراب سيكون بواسطة تغلب العامل على الاغتراب بينه وبين العمل والانتاج والمنتج. فحالة الاغتراب بين العامل والعمل هي نتاج كون المنتَج غريبا عن المنتِج. فالمنتجات في النظام الرأسمالي تؤخذ من المنتجين لصالح اصحاب وسائل الانتاج. وليس هذا فقط بل انه يتحول الى سلاح ضد المنتج لان ثروة الرأسمالي تزيد من انتاج العمال. وزيادة قوة الرأسماليين تضعف الطبقات العمالية.
هدف الثورة الاجتماعية-الاشتراكية في هذا السياق هو اعادة الانتاج للمنتجين. وهكذا يعود الانسان الى جوهره الانساني كمنتج يتمتع بنتاج عمله. على خلاف الواقع الحالي الذي يتم التعامل مع قوى العمل للعمال كسلعة مثل باقي السلع.
والسؤال المركزي الذي تناوله ماركس في كتاباته: متى ستنفجر هذه الثورة الشاملة وما هي شروطها؟ الادبيات الماركسية تتحدث عمومًا عن نوعين من الشروط: مادية - موضوعية وغير موضوعية متعلقة بالوعي. فالثورة لن تندلع اذا لم تنضج الشروط الاجتماعية لذلك لان التاريخ لن يحدد اهدافا هو غير قادر على انجازها. او حسب قول آخر لماركس: ان البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون صنع هذا التاريخ بالشكل الذي يريدونه الا في اطار محدوديات الواقع والتطور التاريخي.
الشروط الموضوعية للثورة حسب ماركس متعلقة بشروط التطور الاقتصادي للمجتمع. في هذا الصدد يجب فهم العلاقة بين قوى الانتاج (وتشمل وسائل الانتاج والتكنولوجيا ومواد خام وما الى ذلك) وعلاقات الانتاج (العلاقات الطبقية في المجتمع الرأسمالي، التي تتسم بالصراعات الطبقية والتناقضات). كما اشرت سابقًا، فان حاجات الانسان آخذة بالاتساع بشكل دائم ولا يوجد هناك نقطة اكتفاء. فتحقيق حاجة معينة تخلق بشكل فوري الحاجة الى حاجات اعلى. ولذلك تبحث البشرية كل الوقت عن الوسائل لتلبية هذه الحاجات. ولذلك هناك حاجة لتطوير قوى الانتاج بشكل دائم. في المقابل في المجتمعات الطبقية هناك حفاظ على الوضع القائم على مستوى علاقات الانتاج. وذلك لان الطبقة المسيطرة تدفع بكل قوتها الى استمرار الوضع القائم. هذا الوضع يؤدي الى وجود فجوة آخذة بالاتساع بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج. يستمر هذا الوضع حتى النقطة التي تتحول فيها علاقات الانتاج الى عبء على قوى الانتاج. وعندما يتحول هذا التوتر الى وضع لا يمكن احتواؤه تحدث الثورة التي تغير علاقات الانتاج وتلائمها لقوى الانتاج. من الصعب تحديد تلك النقطة التي يصبح فيها هذا التوتر غير محتمل. فهنا تدخل العوامل غير الموضوعية المتعلقة بالوعي الانساني.
في الواقع الرأسمالي، الطبقة المعنية بتغيير الواقع هي الطبقة العمالية المستغَلة، فهذه الطبقة "لا يوجد لديها ما تخسره سوى أغلالها". واندلاع ثورة عمالية متعلق بنمو وعي طبقي ثوري لدى هذه الطبقة التي لها مصلحة موضوعية في بناء نظام اجتماعي-اقتصادي جديد يحسن اوضاعها. تجدر الاشارة الى انه هناك اختلاف جوهري ما بين الوعي الطبقي الثوري الذي يطمح لتغيير ثوري في المجتمع وبناء نظام جديد على انقاض المجتمع القديم، وبين وعي النقابات المهنية الساعي الى تحسين ظروف وشروط عمل العمال وانجاز بعض الاصلاحات دون تغيير جوهري للعلاقات الطبقية في المجتمع. بناء على هذه الشروط فاندلاع ثورة اجتماعية كهذه ممكن ان يحدث في حالة توفر طبقة عمالية تملك وعيًا طبقيا ثوريا متطورًا ووجود ازمة اقتصادية سياسية جدية تعصف بالمجتمع يشكل ضربة تضعف النظام المهيمن وتسهل انهياره.
نقطة اضافية تطرق اليها ماركس هي الفرق بين الثورة الاجتماعية-الاشتراكية وبين الثورات السياسية كالثورة الفرنسية. فالثورة الفرنسية على سبيل المثال كانت اتماما وتتويجا لمرحلة تاريخية اكتملت بسيطرة البرجوازية على السلطة. فالاقتصاد الفرنسي كان قد انتقل الى المرحلة الصناعية الرأسمالية وما تبقى من النظام الاقطاعي القديم كان فقط السلطة السياسية. وقد تم الانتقال السياسي وملاءمته للمرحلة الجديدة بانتصار الثورة الفرنسية. اما الانتقال الى الاشتراكية فيتطلب حسب تحليلات ماركس وانجلز السيطرة على الحكم ومن ثم احداث التغييرات البنيوية في المجتمع والدولة. فعلى خلاف البرجوازية التي نمت من داخل المجتمع الاقطاعي، فالاشتراكية لا تستطيع ان تتطور من داخل المجتمع الرأسمالي.
من المهم الاشارة الى ان ماركس لم يرسم صورة متكاملة لنموذج المجتمع الاشتراكي، وأكد ان هذا النموذج سيتطور من خلال السيرورة الاجتماعية والتاريخية الخاصة بكل مجتمع. هذا ما جاء في البيان الشيوعي قبل حوالي 170 عامًا وتم تأكيده في كتابات ومقدمات كتبها ماركس وانجلز لطبعات مختلفة لهذا البيان نشرت بلغات مختلفة. كذلك لم يكتب ماركس بشكل قاطع اين ستكتمل الظروف لاندلاع الثورة، اذا كان في انكلترا ذات الاقتصاد الاكثر نموا وتطورًا آنذك، ام في المانيا التي اعتبرت الحلقة الاضعف للرأسمالية في تلك الحقبة، او في روسيا بسبب العوامل الخارجية والازمات الداخلية. في السنوات الأخيرة لماركس، كان هناك تقدير لاندلاع الثورة في روسيا رغم كون اقتصادها زراعيا بجوهره وذلك لوجود قوى ثورية قوية داخلها ومميزات اخرى للواقع الروسي.
إن حقيقة عدم اندلاع ثورات عمالية اشتراكية في الدول الرأسمالية المتطورة ونشوب ثورات كهذه في دول تعتبر اقل تطورًا من الناحية الصناعية تضع امام المفكرين، الماركسيين خصوصًا والنقديين عمومًا، تحديا فكريا يتوجب اعطاء اجوبة عليه. اضف الى ذلك ان بعض هذه الانظمة استطاع البقاء رغم الانهيار الكبير الذي حل بالاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في شرق اوروبا. هل الاجابة تكمن في العوامل غير الموضوعية التي اشار اليها ماركس وانجلز المتمثلة في العوامل السياسية كوجود قوى ثورية منظمة كالأحزاب الشيوعية ودورها في تطوير وعي طبقي وثوري وتهيئة الظروف لنشوب الثورة. أم ان التطورات المادية الاقتصادية وحدها غير كافية لإنتاج الازمة التي تفقد النظام المهيمن شرعيته وتضعفه لدرجة الانهيار. تجارب الثورات واقامة انظمة اشتراكية خارج اوروبا تشير الى الالتقاء ما بين فكرة العدالة الاجتماعية مع افكار اخرى هامة للمجتمع في مراحل تاريخية معينة كالتحرر الوطني والتخلص من الدكتاتورية حشدت التأييد الجماهيري للثورة. هذا الى جانب وجود حزب شيوعي قوي ومنظم قادر على اقامة تحالفات مع قوى مختلفة وقادر على العمل الثوري حين تسنح الفرصة المناسبة لإطلاق الثورة.




**الهيمنة الرأسمالية وأجهزتها للسيطرة على المجتمع


إن فهم قدرة الطبقات المهيمنة في الدول المختلفة وفي العالم على السيطرة على المجتمعات الرأسمالية يتطلب فهم كتابات انطونيو غرامشي، سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي في سنوات العشرين والثلاثين من القرن الماضي. يعتبر غرامشي من اهم، وربما اهم، المفكرين الماركسيين الذي كان لكتاباته مساهمة كبيرة في فهم قدرة القوى الرأسمالية المهيمنة على السيطرة ومنعها لامكانيات تطور حركات ثورية داخل مجتمعاتها تهدد هيمنتها. كتابات غرامشي نفسه ومساهمات فلاسفة ومفكرين اخرين اعتمدوا فكره، القت الضوء على اجهزة بناء الهيمنة التي تستعملها القوة المهيمنة بغض النظر اذا كانت تتبع للدولة الخاضعة لسيطرة هذه القوى او ادواتها المتعددة داخل المجتمع المدني. فسرّ السيطرة على المجتمع رغم استفحال الفقر واتساع الفجوات الاجتماعية لا يكمن باستعمال قوة الدولة والجيش والشرطة والمخابرات فقط، بل بالاساس لاعتمادها لاجهزة قمعية عديدة منتشرة في المجتمع تعمل بشكل غير رسمي واحيانا غير معلن على "تدجين" المهمشين والمضطهدين واقناعهم بان الوضع القائم هو وضع الطبيعة ولا يوجد امكانية لبدائل اخرى سوى الوضع القائم. ولعل مناهج التعليم والمؤسسات التربوية والثقافية والاعلامية لها الدور المركزي في هذه العملية. كذلك تسعى هذه القوى الى تشتيت النضالات الاجتماعية ومنع تبلور مركز قوى يجمع كل المضهدين حيت تعمل بشكل منهجي على تأجيج تناقض المصالح بينهم على اساس ثقافي وعرقي وقومي وما الى ذلك. كذلك تشجع الهيمنة باساليبها المحكمة خصخصة النضالات وتوزيعها بدون الربط بينها فالنضال البيئي والنضال من اجل حقوق النساء والنضال من اجل الحقوق الثقافية والقومية ونضال الاقليات والنضال ضد الاحتلال ومن اجل السلام والنضال ضد اسلحة الدمار الشامل والقائمة طويلة. الى جانب ذلك يطغى عدم تسييس هذه النضالات وادارتها بواسطة منظمات وجمعيات مهنية متخصصة ممولة بالأساس من تبرعات الرأسماليين الكبار او حتى من الدول ولا تستطيع معظم هذه المؤسسات الخروج عن "النص" الذي عرفته لنفسها او حدده الممولون لها. كل ذلك من اجل حرق طاقة المضطهدين على نضالات جزئية واحيانا جانبية والابتعاد قدر الامكان من تصويب الغضب الثوري على النظام الاقتصادي-السياسي نفسه الذي ينتج كل هذا الاضطهاد والابتعاد عن احزاب سياسية تملك رؤية شمولية لأوضاع المجتمع وممكن ان تكون البديل السياسي في الحكم.
إن قدرة القوى المهيمنة في الدول المتطورة اقتصاديًا على منع نشوب حركات ثورية داخلها ينجم ايضًا من مرونتها وقدرتها على المراوغة وايضًا لامتلاكها القوة على تصدير مشاكلها الى مناطق اخرى في العالم والى دول الاطراف الاضعف اقتصاديًا. فمفهوم الامبريالية والكولونيالية اليوم اصبح اكثر متطورًا واكثر فعالًا وتم ملاءمته للمرحلة الكونية الجديدة.
هذه الوسائل المحكمة للسيطرة على المجتمع والتي يطلق عليها البعض اسم "الحوكمة الجديدة"، لها اهمية خاصة في المرحلة النيوليبرالية وما تشهده من جشع رأسمالي وزيادة اعداد المتضررين من انحصار ما سمي بدولة الرفاه. فقد كانت هذه الدولة صمام الامان لمنع اندلاع ثورات عمالية بتحسينها لاوضاع الطبقات المسحوقة وبمنع نشوء واقع لا يكون فيه للعامل ما يخسره من انتفاضته سوى اغلاله. ولكن مع هذا، تناقضات الهيمنة الرأسمالية في ظل اعادة هيكلية الدولة ونظامها حسب المفاهيم النيوليبرالية وفي صلبها سياسة الخصخصة والمزيد من انتاج الفقر وضرب الطبقات العمالية والوسطى والحروب والتكديس غير المبرر وغير المجدي لرأس المال والدمار غير المسبوق الذي تلحقه السياسات النيوليبرالية للمجتمعات الانسانية والبيئة والتناقضات الهائلة التي تؤججها هذه السياسات تخلق آفاقًا جديدة للعمل النضالي وربما الثوري في المجتمع.




*طبقة لا يوجد لها أي وظيفة اجتماعية


سأنهي هذا المقال بمادة للتفكير على ضوء ما يجري اليوم في السعودية وبدون الدخول الى الاسباب والديناميكيات والصراع على السلطة في هذا البلد، وفقط من اجل الاشارة الى الموضوع الاساسي وهو تناقضات الهيمنة النيوليبرالية وامكانيات التغيير البنيوي في المجتمع. فمصادرة اموال بعض الافراد الذين يملكون مئات المليارات من الدولارات مع الابقاء على شركاتهم ونشاط هذه الشركات الاقتصادي، يثبت ان هذه الطبقة التي تكدس الاموال لا يوجد لها عمليًا أي وظيفة في المجتمع. خصوصًا ان هناك فصلا تاما بين ادارة الشركات واصحاب الاسهم فيها. فغالبا لا يعرف اصحاب الاسهم شيئًا عن شركاتهم. هذا الوضع موجود في جميع الدول الرأسمالية، حفنة ضئيلة تكدس جل ثروات المجتمع ولا تقوم باي وظيفة اجتماعية تبرر حتى وجودها. على خلاف الوضع الذي كان عند بداية المرحلة الرأسمالية فعلى الاقل آنذلك غالبا ما كان اصحاب وسائل الانتاج يقومون بادارة مصانعهم. مما اعطى المبرر من ناحية الفكر الرأسمالي لان يجني هؤلاء الارباح. ولكن اليوم، أي وظيفة تقوم بها هذه الطبقة التي لا يتعدى افرادها اقل من واحد من الف او احيانا واحد من عشرات ومئات الآلاف في كل مجتمع؟ في السعودية لن توزع هذه المليارات على المجتمع. ولكن تخيلوا لو تم ذلك في زمان ومكان آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع