الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماركس وروسيا

هشام روحانا

2017 / 11 / 20
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


البحث عن ثورة

**ضد العنصرية

بالرغم من بعد الامبراطورية العثمانية عما قد يكون له صلة بالديمقراطية الا انها بنظر ماركس لا تشكل خطرا حقيقيا على الحركة الثورية بل وفي الحقيقة فإن ضعفها يجعلها " تحتفظ بالقسطنطينية وديعة للثورة". في مقال آخر يهاجم ماركس العنصرية ضد الاتراك والمسلمين معتبرا اياها ترضية للذات امام التحركات العدوانية الروسية:" في العشرين سنة الاخيرة تنامى قناعات مفادها بأن الاتراك هم دخلاء على أوروبا، وبأنهم غريبون عنها فبيتهم هو أسيا وبان المسلمين لا يستطيعون التواجد في دول متحضرة"



** سلوك العبودية
بالرغم من أن ماركس كان متعاطفا مع معاناة الشعب الروسي الا أنه نظر الى حكامه على أنهم صنيعة الحكم المغولي. ونتيجة لهذا، يكتب ماركس، يسلك الشعب الروسي وحكامه سلوك العبودية بوجهيه؛ رياء العبد وعجرفة السيد الطاغية: "ولقد كانت مدرسة المغول للعبودية هي المدرسة الرهيبة والدنيئة التي ترعرعت فيها دوقية موسكو الكبرى، لكن عودها قد نما واشتد وازداد براعه باحترافها نظام القنانة. وحتى بعد أن تحررت، استمرت دوقية موسكو بتنفيذ دورها التقليدي في العبودية؛ دور السيد"





سأقدم فيما يلي هذا النص الذي يتناول موقف ماركس من روسيا ويشكل دمجا للأجزاء المتعلقة بروسيا من كتاب " ماركس ومجتمعات الأطياف" وهو تأليف كيفين أندرسون والصادر بالإنجليزية عام 2010 والذي قمت بترجمته ويجري العمل على إصداره بالتعاون مع مركز أميل توما. وتظهر هذه الأجزاء داخل الفصل الثاني والفصل السادس من الكتاب وتعتمد على مقتبسات غير معروفة لماركس أو انه يجري نشرها لأول مرة. وأنشرها هنا بعد أن قمت بأعدادها والقفز عن بعض الفقرات غير الضرورية والتي ستظهر بدون شك في الكتاب حين صدوره كاملا.
سيظهر لنا من خلال هذه النصوص الأمور التالية:
1) عُمق دراسة ماركس للمجتمع الروسي وخصوصا التشكيلة الاجتماعية التشاركية للقرية الروسية.
2) التطور الذي مر به موقف ماركس بخصوص روسيا والحالة الثورية.
3) انتقال ماركس من رؤية أحادية لمسار التطور التاريخي للمجتمعات التي تفترض السير بمسار خطي ينتقل من هذه التشكيلة الاجتماعية الى التي تليها وصولا الى الاشتراكية والتي يجب ان تمر من خلال التطور الرأسمالي، الى رؤية متعددة المسارات لا تفترض بالضرورة انتقالا يمر بنمط الإنتاج الرأسمالي.
4) تشير هذه النصوص الى أمكانية نشوء الثورة الاشتراكية في مجتمعات غير رأسمالية بشرط دعم الطبقة العاملة في البلدان الصناعية المتقدمة.
5) هنالك إشارات في نصوص ماركس تمكننا من تعميم هذه الاستنتاجات على مجتمعات اضافية.
6) إن موقف لينين والذي وضعه في "موضوعات نيسان" من أجل الانتقال بثورة شباط 1917من طورها البرجوازي الى ثورة أكتوبر كثورة اشتراكية يعتمد على قراءة دقيقة لموقف ماركس.
7) تأخذ "موضوعات نيسان" بالحسبان تغير نظرة ماركس الى التشكيلة الاجتماعية التشاركية في القرية الزراعية الروسية فتصوغ ضرورة تحالف الطبقة العاملة الثورية مع الفلاحين، وخصوصا على ضوء دروس فشل "كومونة باريس".
8) إن تأخر الطبقات العاملة في البلدان الصناعية الكبرى عن اللحاق بالثورة الاشتراكية الروسية هو ما جز بالتجربة الروسية باتجاه "بناء الاشتراكية في بلد واحد".
تجدر الإشارة هنا الى 1) أن جميع نصوص ماركس وإنجلس الواردة في الكتاب وهنا هي من ترجمتي الخاصة، 2) الملاحظات المرقمة هي لمؤلف الكتاب ولقد قفزت عن جُلها هنا من أجل عدم إثقال النص، وتظهر في خاتمته، أما الملاحظات التي بين القوسيين [] في سياق النص أو (*) أدناه فإنها لي و3) تشير الاشارة [...] الى أن النص هنا قد قفز عن جزئية أرى أنها غير ضرورية في هذا السياق.
MECW– اختصارا ل Karl Marx and Frederich Engels, Collected Worksأي مجموعة أعمال ماركس وإنجلس المختارة، والرقم الذي يلي هذا الاختصار هو رقم المجلد والرقم الذي يليه هو رقم الصفحة في هذا المجلد.
MEGA- Marx-Engels Gesamtausgabe أي مجموعة الأعمال الكاملة لماركس وإنجلس وتتألف من القسم الأول لأعمالهما لغاية عام 1850 وتضم ثمانية مجلدات ، ويجري لغاية اليوم العمل على القسم الثاني وتتألف من أربعة أقسام .
التريبيون– هي "النيويورك تريبيون" الصحيفة التي عمل ماركس مراسلا لها حوالي العقد من الزمان وهو في منفاه في لندن.

***

من بين المجتمعات غير الغربية التي تناولها ماركس بالدراسة لم تحظى أي منها-بما فيها الهند-بالاهتمام الذي حظيت به روسيا.على مدار فترة طويلة من القرن العشرين صارت روسيا صنوا للثورة والماركسية وايضا للنظام الشمولي الذي نشأ فيها في عهد حكم ستالين. ولكن في القرن التاسع عشر نظرت القوى التقدمية سواء كانت اشتراكية، فوضوية او ليبرالية الى روسيا على انها القوة الاكثر رجعية في القارة الاوروبية. وفي حين تطورت انجلترا لتصير ملكية دستورية ذات برلمان قوي، ومرت قوى عظمى أخرى – فرنسا قبل الكل ولكن ايضا بروسيا والنمسا-بثورات ديمقراطية في عام 1848-49، بقيت روسيا الوحيدة التي تظهر وكأنها منيعة امام الثورة، أو انها ظهرت كهذه لماركس وآخرين في عام 1848. وبالنسبة لهم حتى ذلك البرنامج التحديثي الذي بدأ في عهد القيصر بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر لم يفعل سوى تقوية ما كان في الماضي نظاما متطرفا في تسلطيته، ليصير منذ ذلك الحين لاعبا رئيسيا في السياسة الأوروبية. في عام 1795 اثناء الثورة الفرنسية الاولى عملت روسيا الى جانب بروسيا والنمسا على تجزئة بولندا وسحق الحركة الديمقراطية فيها. وبعد عقدين تصدى الجيش الروسي لنابليون وهزمه ممهدا الطريق لقيام حلف ميترنيخ المقدس (Metternich’s Holy Alliance). استمر هذا الحلف المكون من الدول الثلاثة روسيا النمسا وبروسيا مدة ثلاثة عقود من 1815 الى 1848 وكان هدفه منع الانتفاضات الثورية. في عام 1849 أرسل القيصر نيقولاي الاول مائتي ألف جندي الى مركز اوروبا لمساعدة الامبراطور النمساوي-المجري فرانز جوزيف المهدد من قبل الثورة في فينا على استعادة عرشه.
بالنسبة لماركس، كانت بريطانيا البلد التي تمكنت فيها الثورة الصناعية من الذهاب الى أقصى حد في ازالة بقايا النظام الاقطاعي، أما فرنسا فكانت الاكثر ديمقراطية وفيها حصلت عام 1848 الانتفاضة العمالية الاكثر عمقا، وكانت المانيا المهد الذي نشأت فيه الصيغة الحديثة للفلسفة الثورية من خلال الملائمة النقدية للمثالية الهيغلية. اما روسيا، وفي المقابل، فكانت المكان حيث بقي الحكم المطلق ثابتا في السلطة لا يتغير، بل وحتى بدا وكأنه يكتسب مزيدا من المنعة، مشكلا القوة الرئيسية للثورة المضادة في جميع انحاء أوروبا. في أيار 1849 وفي إشارة للمواجهة الجارية في فينّا وهنغاريا بين الثورة الديمقراطية والتدخل العسكري للقيصر نيقولاي الاول الى جانب جيش الامبراطورية النمساوية-المجرية، يكتب ماركس: "وفي الشرق يواجه جيش ثوري مؤلف من جنود جميع القوميات تحالفَ اوروبا القديمة الممثل بالجيش الروسي، بينما يلوح من باريس تهديد الـ’الجمهوريين الحمر‘" (MECW 9, 454).
نشر ماركس هذا البيان الى جانب إنجلس في العدد الاخير من الجريدة الرينانية الجديدة بتاريخ 19 ايار 1849، بالضبط عندما تم اغلاقها من قبل السلطات البروسية. لقد كانت روسيا في نظره هو وإنجلس القوة الرجعية بامتياز. في بدايات عام 1850 يكتب إنجلس عن ضعف ردود فعل أوروبا الغربية للاحتفاظ بـ"ثلثي بروسيا والنمسة الموبئان بمرض الديمقراطية". لكن بالمقابل وفي الجانب الآخر حشدت روسيا على نقاط الحدود البولندية الالمانية 350000 جندي "على أهبة الاستعداد" كنذير شؤم، يكتب إنجلس (MECW 10, 15). وفي الوقت الذي بدأت تظهر فيه حركة ثورية تتوجه الى الريف الروسي، بعد 1860، تلخص ألينور ماركس، ابنة ماركس سوية مع ادوارد افيلينغ (Edward Aveling) توجه الثوريين الاوروبيين على الاقل عام 1897 الى نظام القيصر فتكتب في مقدمة كتاب يضم أعمال ماركس حول روسيا وتركيا لعام 1850: "الحكومة الروسية اليوم، وهي ليست اسما مرادفا لروسيا، هي ما كانت عليه في "الخمسينيات"؛ العدو اللدود لكل تقدم والحصن المنيع للرجعية" (Marx [1897] 1969, viii–ix). وواصلت الشرطة السرية الروسية التي تم توسيعها وتسميتها "أوخرانا" (Okhrana) عام 1881 لتكون منظمة مثيرة للرعب في الخمسينيات أيضا. ولم تقم بقمع المعارضة في الداخل فقط بل راقبت الديمقراطيين والثوار خارج روسيا، سواء كانوا روسا ام غير روس. نظر ماركس وأبناء جيله الى هذه الشرطة نظرتهم الى قوة حقودة ومقتدرة، بالضبط كما ينظر اليساريون اليوم الى ال-CIA .

**روسيا؛ تهديد الثورة المضادة
كانت روسيا في خمسينيات القرن التاسع عشر بالنسبة لماركس وفي ظل انعدام حركة ثورية روسية، قوةً جاهزة للتدخل تهدد الحركة الثورية إذا ما اعادت نهوضها، مرة أخرى. واعتبر ماركس في هذه الفترة التشكيلات الاجتماعية التشاركية في القرية الروسية الدعامةَ التي يقوم عليها نظام الاستبداد الاجتماعي والسياسي، بالتشابه مع اشكال الاستبداد الشرقي الأخرى.
في مقالته الصادرة في التريبيونبتاريخ 8 شباط 1853 بعنوان " الانتخابات-السحابة المالية-ودوقة ساوثارلاند والعبودية"، يتناول ماركس البنية العشائرية الأسكتلندية القديمة واقتلاعها من قبل الزراعة الرأسمالية ويرى انها شبيهه ببنية التشكيلة التشاركية القروية الروسية:
"الرجل الكبير"، شيخ العشيرة هو من جهة أولى حاكم مستبد فعلا، الا أنه من جهة أخرى مقيد بالعلاقات التي تفرضها قرابة الدم وما الى ذلك ككل والد في عائلته. بالنسبة للعشيرة، وبالنسبة للعائلة، التابعة لمقاطعة ما، وبالضبط كما يحصل في روسيا، فإن الاراضي التي يتم الاستيلاء عليها لا تعود ملكيتها الى الفلاحين الافراد بل الى الجماعة المشتركة. المقاطعة هي إذا ملكية جماعية للعائلة. لا يستطيع أن يتواجد هنا، في ظل هذا النظام، اي تساؤل حول الملكية الفردية، بمعناها المعاصر، لكي نستطيع اجراء مقارنة بين الوجود الاجتماعي لأبناء العشيرة وبين الافراد الموجودين هنا في عالمنا المعاصر... وعليه وكما نرى فإن العشيرة ليست الا عائلة نُظمت بطريقة عسكرية ويجري تأطيرها الى حد ما بالقوانين من جهة وبالتقاليد من جهة اخرى ككل عائلة أخرى. لكن الارض تستمر كملكية عائلية داخل مصفوفة من الاختلاف في المراتب بالرغم من قرابة الدم كما هي الحال في كل الجماعات العائلية الاسيوية العتيقة .(MECW 11, 488)
هذه الفقرة هي وعلى ما يبدو الموقع الأول التي يعالج فيه ماركس الفرق الواضح في البنية الاجتماعية القروية في روسيا "الاستبدادية" مقارنة بمعظم أوروبا الحديثة. وكما سنرى في الفصل السادس، يغير ماركس في سبعينيات القرن التاسع عشر موقفه هذا ويبدأ بالنظر الى التشكيلة الاجتماعية التشاركية للقرية الروسية بوصفها بؤرة محتملة للثورة، لكن في كتاباته هذه في بداية الخمسينيات يركز كما كان يركز في كتاباته عام 1853 حول الهند على ما كان يراه عندها على أنه صفة أحادية الجانب تقريبا للتشكيلات الاجتماعية التشاركية القروية بوجه عام.
أما إنجلس فقد كان متحاملا على السلاف الجنوبيين، وعبر بوضوح عن نفيه للفكرة القائلة بأن التشكيلة الاجتماعية التشاركية الروسية تشكل قاعدة أساسية للثورة، وهي وجهة نظر شاركه فيها العديد من الديمقراطيين الثوريين الروس في المنفى مثل ميخائيل باكونين (Mikhail Bakunin) والذي سيصير لاحقا فوضويا، ويمكن أن نرى هذا في رسالة إنجلس الى ماركس بتاريخ 18-03-1852:"والنتيجة، لم يصل باكونين الى شيء محدد، ذلك ان لا أحد يعرف روسيا. سيتطلب الأمر قدرا كبيرا من العمل على هذه المراوغة الكُل-سلافية (Pan-Slavic) القديمة للتحول وبأعجوبة من نظام الملكية القائم في التشكيلة التشاركية القروية السلافية وليتم رسم الفلاح الروسي بوصفه شيوعيا بالفطرة". (MECW 39, 67) كان باكونين بالنسبة لماركس وإنجلس واقعا تحت تأثير قومية روسية غامضة مثله مثل ألكسندر هيرزن (Alexander Herzen)، بينما كان آخرون عمليا عملاء الشرطة السرية للقيصر.
بعد اندلاع حرب القرم في تموز 1853 وقف ماركس بوضوح الى جانب الامبراطورية العثمانية وحلفائها بريطانيا وفرنسا ضد روسيا. وكما سبق وذُكِر فإن ماركس كان يعتبر أن إنجلس أكثر معرفة منه بالشؤون الشرقية، لذلك وبتكليف منه قام الأخير بكتابة مقالة نشرت فيالتريبيون في 12-04-1853 عشية الحرب ومنها نستخلص هذا الرؤية حول روسيا:
إن روسيا هي بلا تردد أمة مُسيطرة، ولقد كانت كهذه طوال قرن من الزمن الى أن استدعت الحركة العظيمة لعام 1789 وبفعالية كبيرة صراعا ذي ابعاد عظيمة. ونعني بهذا الثورة الاوروبية أي هذه الاندفاعة القوية لفكرة الديمقراطية ولعطش الانسان الفطري الى الحرية. ومنذ ذلك الوقت تكونت في القارة الاوربية قوتان لا غير؛ روسيا والاستبداد والثورة والديمقراطية. وتبدو الثورة اليوم وكأنها قد أُخمدت ولكنها تعيش وهي مرهوبة الجانب، كما كان في السابق. هاكم، شاهدوا ارهاب الرجعية في أحداث الانتفاضة الأخيرة في ميلانو(1). وإن تمكنت روسيا من الاستحواذ على تركيا فان قوتها ستزداد بمقدار النصف تقريبا، وستتفوق عندها على سائر أوروبا مجتمعة، إن حدثا كهذا سيكون حدثا بائسا بالنسبة للقضية الثورية الى حد لا يوصف. والحال كهذه، فإنه من مصلحة الديمقراطية الثورية وانجلترا التعاون معا، فلا أحد يستطيع السماح بان تصير القسطنطينية واحدة من عواصم القيصر (MECW 12, 17).
لقد نشر كل من ماركس وإنجلس العديد من المقالات الشبيهة لهذه المقالة، وفي الغالب كان هدفها تقريع بريطانيا وفرنسا على ما اعتبراه جهدا عسكريا تعوزه الحماسة الكافية ضد روسيا.
أطلق إنجلس بعد مضي سنوات من وفاة ماركس على حرب القرم أسم "الحرب الخديعة" (MECW 26, 461). وكان المستهدف من الهجوم على هذه الجهود التي تعوزها العزيمة هو اللورد هنري بالميرستون (Palmerston) وهو سياسي اعتبره ماركس رجعيا خالصا، سواء كان هذا في دعمه لروسيا أو غزوه للصين أو وقوفه ضد العمال البريطانيين، وميله لاحقا لدعم الجنوب في الحرب الأهلية الامريكية. في مقالة له في التريبيون يضرب ماركس بيد واحدة منتقدا جريدة المورنينغ بوست (Morning Post) المؤيدة لبالميرستون والتي دعا محررها الى "جلد" العمال البريطانيين المضربين، ويضرب بيد ثانية منتقدا المطامع "الشيطانية" لروسيا (MECW 12, 225, 231). وبالرغم من بعد الامبراطورية العثمانية عما قد يكون له صلة بالديمقراطية الا انها بنظر ماركس لا تشكل خطرا حقيقيا على الحركة الثورية بل وفي الحقيقة فإن ضعفها يجعلها " تحتفظ بالقسطنطينية وديعة للثورة" (MECW 12, 231). في مقال آخر في التريبيون بتاريخ 02-09-1853 يهاجم ماركس العنصرية ضد الاتراك والمسلمين معتبرا اياها ترضية للذات امام التحركات العدوانية الروسية:" في العشرين سنة الاخيرة تنامى قناعات مفادها بأن الاتراك هم دخلاء على أوروبا، وبأنهم غريبون عنها فبيتهم هو أسيا وبان المسلمين لا يستطيعون التواجد في دول متحضرة" (MECW 12, 274).
ينشر ماركس في خريف عام 1853 في جريدة الميثاقين جريدة الشعب (People’s Paper)، ولاحقا على شكل كتيب، سلسلة من المقالات بعنوان اللورد بالميرستون. يضم الكتيب حوالي ستين صفحة ضمن مجموعة الاعمال الكاملة (MECW 12, 345–406). في تشرين ثاني من نفس العام، يكتب لإنجلس أنه قد توصل الآن الى قناعة مفادها أن " بالميرستون ومنذ عدة عقود يعمل أجيرا لدى روسيا" (MECW 39, 395). يعدد ماركس في اللورد بالميرستونمجموعة من الافعال الخادعة، بما فيها ادانته العلنية للوحشية الروسية في بولندا خلال اخماد الانتفاضة عام 1830 بينما في نفس الوقت كان يعمل على منع وصول اية مساعدات ملموسة للبولنديين وكذلك تصرفاته المشابهة ابان الانتفاضة البولندية الثانية عام 1848. وفي الواقع لم يكن بالميرستون عميلا مأجورا لروسيا أكثر منه ارستقراطيا بريطانيا محافظا، لكن هذا لا ينفي عنه انه كان يتلقى هدايا وخدمات من روسيا، الا أن ما حركه هو رؤيته ان لبريطانيا وروسيا مصالح مشتركة بوصفهما القوتان المحافظتان الاكثر كبرا في اوروبا.
في مراجعته لمناورات القوى الخمس العظمى؛ بريطانيا، فرنسا، روسيا، النمسا وبروسيا، يكتب إنجلس في التريبيون بتاريخ 02-02-1854 حول "القوة السادسة" ؛الثورة الديمقراطية:
لكننا يجب ألا ننسى أن هنالك قوة سادسة في أوروبا، وأنها في لحظة محددة، أكدت على تفوقها على مجموع ما يسمى القوى "العظمى" فجعلتها ترتجف، كل واحدة منها. هذه القوة هي الثورة. بقيت صامتة وهادئة ولكنها الآن تستعيد حيويتها بفعل الازمة التجارية وبفعل شح الطعام. ومن مانشستر الى روما، ومن باريس الى وارسو وبست(2)، انها حاضرة بكليتها ترفع رأسها وتستيقظ من سباتها. وأمارات عودتها ظاهرة بوضوح في كل مكان، في القلق والاثارة الذين يطوقان طبقة البروليتاريا. وما تعوزها سوى اشارة وإذ بهذه القوة الاوروبية العظيمة، القوة السادسة تندفع الى الامام، بسلاحها المتألق وبالسيف في ذراعها وكأنها المينيرفا (*) من على قمة الأولمبوس.وهذه الاشارة هي الحرب الوشيكة وعندها ستنقلب جميع حسابات موازين القوى بفعل هذا العنصر الجديد، الفتي ودائم الحيوية والذي سيربك خطط قوى أوروبا القديمة كما فعل بين العام 1792 الى العام 1800. (MECW 12, 557–58)




**الحرب قد تُنجب الثورة
بانتهاء حرب القرم نشر ماركس "مفاجئات التاريخ الدبلوماسي السري للقرن الثامن عشر" (1857-1856) (Revelations of the Secret Diplomatic
History of the Eighteenth Century) وهي سلسلة من المقالات حول روسيا وتم نشرها في ’الصحافة الحرة ‘الاسبوعية المحافظة والتابعة لديفيد أورغُهارت (David Urquhart) والتي انتقدت بشكل مستمر كل من روسيا وبالميرستون. لقد كان التاريخ الدبلوماسي السري على الاغلب عمل ماركس الاكثر عدائية لروسيا مما وضعه موضع جدل امام ماركسية القرن العشرين. ومع انه قد أعيد نشره عام 1899 من قبل الينور ماركس وتمت ترجمته الى الفرنسية لاحقا، الا انه تُرك جانبا ولم يضم الى الاعمال الكاملة لكتابات ماركس لا في النسخة الروسية ولا في النسخة الشرق-المانية (Draper 1985b) وتم نشره متأخرا بعض الشيء في النسخة الانجليزية للأعمال الكاملة كجزء من المجلد الخامس عشر. وفي خطوة غير مسبوقة قام محررو هذا المجلد وفي المقدمة بتكريس لا أقل من خمس صفحات لنقد" تناول ماركس واحكامه احادية الجانب" للتاريخ الروسي. وأثناء الايام الاولى للحرب الباردة قام كل من باول بلاكستوك وبيرت هوزليتس، وهما من النقاد المعادين للروس بنشر مجموعة كبيرة من مقالات ماركس وإنجلس المناهضة لروسيا وباقتباسات وضعوها في مقدمة الكتاب من مؤلف ماركس هذا. وبشكل لا تاريخي يقرران بان السياسة الخارجية لروسيا السوفيتية بقيت شبيهة لهذه السياسة" التي اتبعها القيصر وبأن هجوم ماركس على روسيا و"بربريتها واستبدادها" يضعه في موقع أقرب هو فيه الى الليبرالية منه الى الشيوعية الروسية (Blackstock
andHoselitz in Marx and Engels 1952, 11, 13).
تناول جزء كبير من التاريخ الدبلوماسي السري فترة حكم القيصر بطرس الاكبر (1682-1725) وقامت خلالها بريطانيا، بادعاء ماركس، بخيانة السويد حليفتها القديمة من أجل ان يستطيع القيصر الوصول الى بحر البلطيق. ويضيفُ بأن الموظفين البريطانيون بالغوا بحجم المنافع الاقتصادية التي جنتها بريطانيا من هذا التحالف. وحصل هذا لأن الارستقراطية البريطانية وجدت نفسها محاصرة باضطراد بعد ثورة 1688، وبدأت تبحث لها عن "حلفاء"، وجدتهم في القيصر وبين امبريالي شركة شرقي الهند (East India Company) (MECW 15, 61).
أما في ما يتعلق بروسيا فلقد رأى ماركس بأن الغزو المغولي شكل الحدث المركزي الذي عزل روسيا عن باقي أوروبا:
لقد كان مستنقع العبودية الدموي للمغول... المهدَ الذي ترعرعت فيه دوقية موسكو الكبرى (Muscovy) (**)، فليست روسيا الحديثة الا مسخا عن هذه الدوقية. والنير التتاري الذي دام من عام 1237 الى 1462 – أي لأكثر من قرنين، لم يكن نيرا مدمرا فحسب بل كان ايضا مذلا ومهلكا للروح في صميمها، لروح الشعب الذي وقع ضحية له (MECW 15, 77).
وبالرغم من أن ماركس كما يظهر في الفقرة أعلاه كان متعاطفا مع معاناة الشعب الروسي الا أنه نظر الى حكامه على أنهم صنيعة الحكم المغولي. ونتيجة لهذا، يكتب ماركس، يسلك الشعب الروسي وحكامه سلوك العبودية بوجهيه؛ رياء العبد وعجرفة السيد الطاغية: "ولقد كانت مدرسة المغول للعبودية هي المدرسة الرهيبة والدنيئة التي ترعرعت فيها دوقية موسكو الكبرى، لكن عودها قد نما واشتد وازداد براعه باحترافها نظام القنانة. وحتى بعد أن تحررت، استمرت دوقية موسكو بتنفيذ دورها التقليدي في العبودية؛ دور السيد"(87). لهذا فإن مساعي التحديث التي قام بها بطرس الأكبر لم تنتج وفق ماركس أي شيء شبيه لما حصل في اوروبا الغربية من انجازات تقدمية كالحواضر المدينية والاصلاح الديني ولا عصرا كعصر النهضة.
وكلما تمت السيطرة على المدن الاكثر تحضرا وعالمية مثل نوفوغراد، ووقعت تحت سيطرة دوقية موسكو، كما حدث في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، كلما شُدت الى الوراء:" ومن المفيد ملاحظة عظمة الألم الذي أصاب دوقية موسكو وروسيا الحديثة عندما قامت بإعدام الدويلات؛ كانت نوفوجراد ومستعمراتها أول الراقصين، وبعده ضمت دويلات القوزاق وانتهى الأمر ببولندا". لقد احكم القيصر " شد نفس الوثاق الذي سحق به المغول دوقية روسيا وحيدة،بينما يقوم هو بإحكام السيطرة على الدويلات الروسية بنفس هذا الوثاق"(84).
مَثل العهد الطويل لبطرس الاكبر شيئا ما جديدا، إذ انه من خلال تحركاته الواسعة نحو بحر البلطيق وفي أنحاء أخرى وصل الى ما يسميه ماركس" توحيد جريء، مزج فيه اسلوب العبد المغولي بقضم الاراضي تدريجيا بأسلوب الغزو الواسع للسيد المغولي، وهذا هو ما يشكل مصدر حياة الدبلوماسية الروسية الحديثة"(MECW 15, 89). وعندما اختار بطرس الأكبر موقع عاصمته الجديدة (وهي سانت بطرسبورغ، اليوم)على بحر البلطيق في أقصى الشمال الغربي على تخوم مناطق سيطرته لم يكن يهدف من وراء هذا التواصلَ مع الغرب، يؤكد ماركس، بل كان يرسم مركز المنطقة الجغرافية التي كان في نية روسيا احتلالها! وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كانت روسيا قد بسطت سيطرتها على فنلندا ومعظم بولندا وليتوانيا. ويكتب ماركس بأن الحصون التي اقامتها روسيا في بولندا كانت تهدف تهديد المانيا ودول أخرى، فوظيفتها ليست وظيفة القلاع المعدة للجم الثوار بل تهديد الغرب، كما كانت بطرسبورغ بالنسبة للشمال قبل قرنين من الزمن(90).
إن محاولات بطرس الأكبر جعل روسيا "تتحضر"[تصير حضارية] كانت في رأي ماركس محاولات سطحية، ولقد زود ألمان البلطيق من المناطق المحتلة حديثا، القيصر "بالسوط البيروقراطي وبناظري المدارس وضباط الصف الذي كانت مهمتهم تدريب الروس الدخول تحت القشرة اللماعة للحداثة واستخدام ادواتها التقنية دون ان يتشربوا افكارها"(91).
وفي مرحلة ما من التاريخ الدبلوماسي السري يستعين ماركس بتعليل يعتمد العِرق فيكتب بأنه "من المميز للعرق السلافي" أن يبقى بعيدا عن سواحل البحر، الأمر الذي غيره بطرس الاكبر (MECW 15, 88). إن هذا اللجوء المزعج الى تفسير تصرفات البشر اعتمادا على العرق هو أمر نادر لدى ماركس في كتاباته حول روسيا والسلاف الجنوبيين، لكنه أكثر بروزا لسوء الحظ لدى إنجلس، كما يمكن أن نرى في مقالات إنجلس المُعيبة بخصوص الكل-سلافية (Pan-Slavism). في نيسان 1855 نشر إنجلس مقالة بعنوان المانيا والكل-سلافية في Neue Oder-Zeitung. ويعبر في هذه المقالة عن المخاوف من حصول القيصر نيقولاي الاول على دعم السلاف الشرقيين والجنوبيين بفضل النزعة السلافية وحيث أن معظمهم يدين بالمسيحية الأرثوذكسية، فيستطيع من خلال هؤلاء الحلفاء الجدد السيطرة على كامل أوروبا. لا يتوقف إنجلس عند هذا ولا عند حقيقة ان الكثير من السلاف لم يدعموا عام 1848-1849 أيا من روسيا أو النمسا ضد الحركة الثورية، بل يواصل بدلا من هذا ويَسِمُ السلاف الجنوبيين بشكل جارف بالرجعية. ويذهب الى حد وصف مجمل الصراع في أوروبا منذ عام 1848 على أنه صراع بين النزعة الكل-سلافية من جهة والاعراق الرومانية، القلطية [الغالية] والجرمانية من جهة أخرى (MECW 14, 156). ويبدو أن هذه المقالات قد حظيت بمصادقة عامة من قبل ماركس (3) مع انه لا يمكن افتراض وجود توافق تام بينهما في كل موضوع وموضوع.
وكان إنجلس في هذه المقالة يواصل سلسلة كتاباته حول نفس الموضوع في جريدة NeueRheinischeZeitung. وفي مقالة بعنوان النضال في المجر في نفس الجريدة وبتاريخ 13-01-1848 يُفصل إنجلس كيف استطاعت النمسا استمالة السلاف الى جانبها في حربها ضد القوى الثورية في المجر، ويبدي نظرة أكثر ازدراءً للسلاف مما سيقوم به لاحقا في مقالته عام 1855. في مركز أوروبا وجنوبها، يكتب إنجلس، في ما عدا الالمان البولنديين والمجر فإن "جميع الشعوب والأقوام الصغيرة والكبيرة محكوم عليها بالفناء طويلا قبل اندلاع رياح الثورة العالمية، ذلك لأنها الآن مضادة للثورة" (MECW 8, 230). يختتم إنجلس مقالتهمتنبئا " باختفاء ليس فقط الطبقات والسلالات الرجعية من على وجه البسيطة، بل وايضا شعوب رجعية بكاملها. وسيكون هذا ايضا خطوة الى الامام"(238). ويزيد في مقالته بعنوان الكل-سلافية الديمقراطية وهي مقالة ضد باكونين نشرت في 15-02-189 يكتب:" كانت الحماسة الثورية لدى الألمان موضع كُره الروس الأساسي وما تزال " و"نحن نعرف اين يتمركز اعداء الثورة؛ في روسيا والمناطق السلافية من النمسا"(378) ويدعي في هذه المقالة ايضا بأنه قدم اثباتا "بأن السلاف النمساويون لم يكن لهم تاريخ خاص بهم " (371) وبأن التاريخ الحقيقي لهذه المنطقة أتى مع تدفق الالمان الهنغار والطليان اليها (4).وحقيقة الأمر أن ماركس لم ينحني أمام هذا النوع من النزعة المتمركزة عرقيا التي نجدها في كتابات إنجلس هذه. ولكنها حقيقة أيضا أن ماركس في هذه المرحلة من أعماله في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر كان يميل الى تصوير روسيا بشكل تبسيطي وأحادي الجانب.
يبدأ توجهه هذا بالتبدل عام 1858 عندما بدأ الوضع في روسيا بالاهتزاز بفعل المعارضة الثورية [...] (يتبع)




//هوامش


(*) ربة الحكمة والمهن الحرفية والفنون عند قدماء الرومان والمنبعثة من رأس جوبيتر مدرعة وحاملة سيفها.
(**) كيان سياسي روسي في العصورالوسطى متمركز حول موسكو بين الاعوام 1340 و1547.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟