الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى يومها العالمي: الفلسفة ليست غير الحرية في تعريفها الاول والاخير والاسمى

حسين الهنداوي

2017 / 11 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟ وهل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي انجازاتها الراهنة؟ هذه الاسئلة التي طرحها ملف الشهر في "ايلاف"، سبق ان حاولت، كما ازعم، الاجابة عليها عام 1987 في محاضرة تحت عنوان "ظاهرة غياب الفيلسوف في الثقافة العربية"، اقيمت في قلب العاصمة البريطانية لندن ولم يحضرها سوى قلة من المهتمين، تركز جدلهم في نهايتها، وكان سجاليا بشكل غريب، حول جملة واحدة اثارت ثائرتهم سخرت فيها من عبارة كارل ماركس الشهيرة في "اطروحاته حول فيورباخ" والقائلة بأن الفلاسفة لم يفعلوا إلا تفسير العالم بطرق شتى بينما المطلوب تغييره.
فالسؤال الرومانتيكي: هل تهجر الفلسفة ثقافة من الثقافات، كما تهجر حسناء عاشقا عاثرا الحظ؟ كان سلفا يراود كل من يتأمل الثقافة العربية الراهنة او المعاصرة، تأملا عميقا وحريصا وجديا. وكما الآن - وهنا اعيد الحياة لمعظم وجهة نظري في حينه - فالجواب بالايجاب ممكن ودقيق كما أعتقد في الاقل، ولابد تاليا من الاستفهام، حبا بثقافتنا وبانفسنا وبالحياة، عن اعراض هذه الهجرة، ثم عن كيفية احلال الوئام بينهما من جديد، وعن الهدايا التي ينبغي ان تحملها هذه الثقافة-كأي عاشق مهجور-لارضاء خاطر الفلسفة واقناعها بالكف عن الزعل ثم العودة الى الاحضان راضية مرضية.
بداهة، وقبل اية خطوة، ينبغي علينا ان نتعرف على الاسباب الجوهرية التي دفعت الفلسفة الى الهجران المذكور. لان لكل زعل اسبابا، وما دامت الاسباب شاخصة، فليس هناك اي امل جدي بعودة المياه الى مجاريها بشكل طبيعي ودائم بين اي عاشقين. وهذا هو قانون يعرفه كل من ابتلى بالعشق وذاق لوعة الهجران حتى المتخيل وربما هذا خاصة.
نتوقع، أن بعضا من الاحباء سيعترض على هذه المقارنة الطريفة ربما لغرابتها بين الفلسفة والحسناء على اساس انها تنطوي على كمٌ كبير من الاعتباطية والدعابة لا يليق بقدسية الموضوع. ولا نتردد-جوابا- ان نقول له بانه على ألف حق شكليا. بيد ان الجوهري يمكث قائما بعناد، طارحا نفسه بصيغة اخرى، هي الآتية: لماذا لا نجد في الثقافة العربية الراهنة رغم كل مظاهر حيويتها، البديهية او المفترضة منها، مفكرا واحدا، واحدا فقط، يستحق وناموسنا مرتاح ان نطلق عليه دون مبالغة او محاباة نعت فيلسوف بالمعنى العميق الذي نتفق على اطلاقه على افلاطون والكندي او على ارسطو والفارابي وابن سينا او على ابن عربي وكانت او على السهروردي وديكارت او على هيغل على العشرات الأخرين غيرهم من فلاسفة الشرق او الغرب؟

فإذا بحثنا في الثقافة العربية الحديثة شمالا وجنوبا، يمينا ويسارا، مشرقا ومغربا، لا نجد بالفعل ذلك المفكر المتميز والاصيل الذي ينتزع، عبر منظورات اصيلة، مكانة فيلسوف بجدارة واستحقاق بعيدا عن الفذلكات الصحفية والاطراءات العاطفية. وهذا في الواقع هو ما استنتجناه شخصيا عن كثب، وبعيدا عن أية نزوات مشاكسة، او رغبة بغمط حق احد، او هواية الاستفزاز العابث. فبعد تقليب، نزعم بأنه غير عجول، في مختلف الانتاجات التي تعنينا في هذا الميدان، لم نعثر على ذلك الفيلسوف الحقيقي الذي يعتبر وجوده في ثقافة ما، ضرورة مستقلة بحد ذاتها، وعلامة حيويتها الجوهرية والفعلية، ما دمنا نعرف- ونتفق مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت- بان "اعظم خير يمكن ان تقدمه ثقافة ما هو ان يكون فيها فلاسفة حقيقيون".
واذا كنا نلح اعلاه على مفهوم الهجران، فذلك بالتحديد لاننا نعتقد جازمين بان المسألة تتعلق فعلا بخراب علاقة بين اثنين، وليس مطلقا بسبب عجز عضوي في عبقريتنا التأملية او بتنافر "طبيعي" بين العقل الشرقي وفعل التفلسف كما يروج بعض مؤرخي الفلسفة الغربيين ضد الثقافة العربية الراهنة مدفوعين باغراض ايديولوجية ونوايا استعمارية وحسابات صهيونية او ما شابه. فنحن نرى، على العكس من هؤلاء، ان العقل العربي او الكردي او الفارسي او التركي والعقل الشرقي عموما، ككل العقول الانسانية الاخرى، يكتنز بالعبقرية وجدير بكل ابداع فلسفي مهما كان راقيا وساميا. ويكفينا دليلا قاطعا على ذلك ان الثقافة العربية والشرقية عموما عرفت الفلسفة في فترات سابقة من تاريخها، وعاشرتها طويلا وانجبت-باعتراف العدو والصديق- هذا الجنس من "الفلاسسفة الحقيقيين" الذين يقصدهم ديكارت والذين اصبحوا فخرا للانسانية والى الابد.
لماذا اذن توقفت الثقافة العربية منذ بضعة قرون ولحد الان عن انجاب "فلاسفة حقيقيين"؟
ان بعض التفسيرات التي سبقتنا على الرغم من أنها لم تطرح السؤال اعلاه بهذه الدرجة من الوضوح، حاولت تقديم اجاباتها عنه، وغالبا بشكل غير مباشر. واذا كنا ننعت هذه التفسيرات جميعا بالتهافت والاضطراب فذلك لانها على اختلافاتها الجوهرية تنطلق من ارضية ايديولوجية صريحة الى هذا الحد او ذاك. وكأي تفسير ايديولوجي فانها تقدم الجواب قبل طرح السؤال، وقبل اي بحث في الحيثيات الملموسة. وعندما تبحث في هذه الاخيرة فانها تقع بالضرورة، في نوع من الانتقائية والنظرة المنحازة، على مضض احيانا بالنسبة لبعضها، بحكم مشربها الايديولوجي ذاته.
وابرز هذه التفسيرات ثلاثة مختلفة جذريا هي: العنصري والماركسي والتبسيطي.
يعود التفسير العنصري بولادته الى القرن الثامن عشر، ويمد جذوره في النزعة الذاتية الغربية وخرافة التفوقية اليهودية-المسيحية. وهذا التفسير الذي ولد وتطور في اوربا الغربية ما يزال يجد ممثلين له فيها وفي الولايات المتحدة الامريكية وايضا في جميع الاوساط التابعة للثقافة الغربية بما فيها الشرقية منها.
حتى القرن السادس عشر، كان الاعتراف بالعبقرية الفلسفية للعرب والمسلمين ثابتا لدى المفكر الغربي. وقد عبر روجيه بيكون عن ذلك بوضوح قاطع عندما قال "ان المعرفة جاءت الى العالم اربع مرات: الاولى والثانية بالعبرية عبر الانبياء وعبر حكمة سليمان والثالثة بالاغريقية عبر ارسطو والرابعة بالعربية عبر ابن سينا..". وواضح هنا ان ارسطو يرمز للعبقرية الفلسفية الاغريقية باعتباره نتاجها الطبيعي، في حين يرمز ابن سينا للعبقرية الفلسفية العربية والاسلامية باعتباره نتاجها.
لكن ابتداء من نهاية القرن السابع عشر، وبموازاة تصاعد القوة الصناعية والاقتصادية، وخصوصا العسكرية للغرب وتحفز الاخير للسيطرة على القارات الاخرى، راح الهمٌ الاول للمؤرخ والمفكر الغربي، يتجه نحو التخلص من الاعتراف بالعبقرية الفلسفية العربية. وقد اخذ هذا التوجه، في لحظة ما، شكل صراع عنيف داخل الاوساط الفلسفية الغربية ذاتها. ففي كتابه "تاريخ الفلسفة الحديثة" المنشور في عام 1816 يشير المؤرخ الالماني بوهل الى هذا الصراع قائلا: "حتى الفترة الاخيرة جرى اعطاء العرب وحدهم شرف نشر فلسفة ارسطو في الغرب، الا ان المؤرخ الحديث هيرن يدافع اليوم عن فكرة معاكسة ترفض الاعتراف للعرب بشيء في هذا المجال".
إلا ان هذا الصراع سرعان ما حسم لصالح هيمنة الرأي الأخير بفعل تطور العنجهية الغربية التي راحت تطور تفسيرات عنصرية في هذا الميدان كما في غيره. وقد عبر المفكر الفرنسي ارنست رينان عن هذا الطابع العنصري بشكل فج، عندما كتب في مقدمة كتابه "ابن رشد والرشدية" المنشور في عام 1852 قائلا: "ان الساميين (العرب) هم اعجز من يعطينا دروسا في الفلسفة. بل ان مالديهم من فلسفة لا يمتلك اية اصالة او ثراء انما هو مجرد تقليد سيئ للفلسفة الاغريقية".
بلا شك ان هذا التفسير العنصري الذي يعتبر العقل العربي او الشرقي عاجزا عن التفلسف الاصيل لمجرد انتمائه للعرق السامي هو تفسير لم يعد يعبر عن نفسه اليوم بهذه الفجاجة الرينانية، خصوصا وان تقسيم الانسانية، وبالتالي العقول الى اعراق، والى آرية وسامية، لم يعد إلا كذبة غبية ومفضوحة. بيد ان نكران قدرة العرب على الابداع الفلسفي الاصيل لا يزال فكرة سائدة بقوة، بل مهيمنة، في اوساط واسعة من العاملين في الحقل الفلسفي في الغرب. وتبذل الاوساط الصهيونية حاليا، كل جهد من اجل تعميقه وتكريسه (كما نجد ذلك في كتابات المستشرق الامريكي برنارد لويس مثلا) في حين تسعى هذه الاوساط بكل جهد بالمقابل، لابراز المشتغلين الصهاينة في حقل الفلسفة وطرحهم كفلاسفة كما هو حال "الفيلسوف" المصطنع والصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي وامثاله.

اجمالا نستطيع القول ان التفسير العنصري لغياب الفلاسفة في الثقافة العربية الحديثة والراهنة هو تفسير ساقط موضوعيا، ولم نذكره هنا إلا لانه موجود في بعض الاوساط الاستعمارية و-بشكل مقنٌع-لدى الاوساط الصهيونية.
اما التفسير الماركسي فنجده سائدا لدى هؤلاء الذين يعتبرون الفلسفة الماركسية خاتمة الفلسفة، ويعتبرون كارل ماركس آخر الفلاسفة الحقيقيين ويعتبرون المادية الديالكتيكية فلسفة علمية مطلقة. ومن بين القائلين بهذا التفسير مفكرون عرب نحترمهم.
ان العنصر الجوهري الذي يقوم عليه هذا التفسير هو، كما يبدو، اطروحة ماركس القائلة بان الفلسفات لم تقم حتى الآن إلا بتقديم تفسيرات للعالم والمطلوب الآن تغييره. والحال اننا لا نرى ان هذه المقولة يجب ان تقود بالضرورة، الى انتفاء الحاجة الى تطوير، او ابتداع تفسيرات جديدة للعالم، ما دمنا لا نرى وجود تناقض لازم بين الدعوة لتغيير العالم، وتلك الداعية الى تقديم تفسيرات جديدة-ربما-له. اما اذا كانت الدعوة لتغيير العالم تعني بالضرورة انتفاء الحاجة الى تفسيرات جديدة على اساس مطلقية صدق وكمالية وعلمية التفسير الماركسي فاننا نجد ان اطروحة ماركس تلك، تثير اشكالية عميقة من العسير قطعا على المدافعين عنها حلٌها، لانها تتضارب جوهريا مع خصوصية الفلسفة بين العلوم، اي باعتبارها العلم الوحيد الذي يسمح بالشك ويرفض قدرية الغاية ولا يمتلك هدفا يسعى الى تحقيقه. وباعتبارها العلم الوحيد الذي يبحث عن فهم العلاقة اكثر مما يبحث عن فهم السبب. بكلمة اخرى اننا لا نستطيع التحدث عن الفلسفة كما نتحدث عن الكيمياء والرياضيات لان الشك هو العمود الفقري للفلسفة، وليس اليقين كما هو الحال بالنسبة للعلوم الاخرى.
وعلى أية حال فان تفسير انعدام الفلاسفة في الثقافة العربية الراهنة، والثقافات الاخرى، بكونه نتيجة طبيعية لتتويج المادية الديالكتيكية "خاتم" تفسيرات الوجود والعالم، هو تفسير مضطرب كما يبدو. فنحن نعتقد ان مجيء تفسيرات جديدة لاحقة هو "حتمية" ونذهب ابعد من ذلك ونقول بان العقل الانساني لن يستقر ابدا على تفسير فلسفي واحد ونهائي، مهما كان هذا الاخير "علميا" وشموليا وجميلا، بل ستظل التفسيرات الفلسفية الجديدة تتوالى الى مالا نهاية. فها نحن نشهد اصلا، وبعد قرن واحد فقط على وجود الفلسفة الماركسية بيننا، ان هذه الاخيرة ليست مطلقة الكمال والشمولية في الاجابة عن الشاغل الوجودي الانساني في البحث عن ماهيته وكيفية التحقيق التاريخي الامثل لهذه الماهية. وهذه اللاكمالية تجد تفسيرها كما يقول الماركسي الفرنسي لوي التوسر في مداخلة له في ندوة فينيسيا المنعقدة بين 11 و 13 تشرين الثاني 1977 ، في "ان مؤسسي الماركسية كانوا اناسا مثلنا يتقدمون في ميادين مجهولة لذلك كانوا هم ايضا معرضين لارتكاب الاخطاء". علاوة على ذلك كله، ان ما يجعل الأمر اكثر احراجا هو ان كبار الايديولوجيين الماركسيين، منذ مطلع هذا القرن ولحد الآن، ينزعون تلقائيا الى طرح الماركسية –وهذا ما اضر بها عمليا- كنوع من المنظومة الدوغمائية والى ايديولوجية صارمة لا ترى في المنظومات الفلسفية الاخرى المغايرة لها إلا ما يشبه الهلوسات والاوهام محرمين بذلك اي شكل من التعددية العقلية او التعددية في الموقف من تفسير الماهية الانسانية وتاريخيتها.
اننا بكلمة لا نرفض دعوة الفلسفة الماركسية الى تغيير العالم وتغييره دون توقف ولا نرفض نقدها للفلسفات السابقة عليها، لكننا نرفض بالمقابل فكرة اننا لا نحتاج بعد الماركسية الى فلسفات جديدة وجديدة في تفسير العالم.
اذا انتقلنا الآن الى التفسير الثالث، والذي أسميناه بالتفسيرالتبسيطي عجالة، فيجب ان نلاحظ ان هذا التفسير يتميز بكونه يسير في اتجاه مناقض فيما يتعلق بتفسير حالة الفلسفة في الثقافة العربية. انه بمعنى آخر لا يرى ان هذه الثقافة مهجورة من الفلسفة مطلقا، بل يؤكد بالعكس بانها بالف خير وخير بل لا يتردد ان يسمي لنا بجرة قلم عشرات الكتاب وحتى السياسيين كـ "فلاسفة عرب". وهذا التفسير نجده بشكل خاص في اوساط بعض المؤلفين العرب المتأثرين بالصرعات الفرنسية لاسيما المغاربة وبعض اللبنانيين وبعض المصريين.
ان مصدر هذه الفكرة لديهم هو تأثرهم بالتقاليد الفرنسية او دراستهم في جامعات فرنسية حيث يسمى كل استاذ في الفلسفة بالفيلسوف مجازا، والحال ان هؤلاء المؤلفين ينسون ان الاوساط الفرنسية المشتغلة بالفلسفة لا تعترف فعليا بمكانة الفيلسوف إلا لديكارت او هيغل او ماركس او من ناظرهم ممن يمتلك منظومة فلسفية خاصة ومتميزة وبالمعنى العميق الى درجة لا يسمون معها حتى فولتير ومونتسكيو وكونت وسواهم بالفلاسفة إلا بتردد.
بلا شك، استدراكا، ان الثقافة العربية الراهنة افرزت متخصصين كبارا، ومجددين لامعي الانتاج وعميقي الفكر في ميدان الفلسفة بشتى ميادينها وموضوعاتها كزكي نجيب محمود وزكريا ابراهيم والحبابي وكامل الشيبي وحسين مروة وعبد الرحمن بدوي ومحسن مهدي اذا اقتصرنا على ذكرهم وحدهم هنا. إلا اننا، هنا، حيال باحثين او مؤرخين كبار في العلم الفلسفي وليس قطعا حيال فلاسفة، نظرا لان ايا منهم لم يفلح بعد في قطع الخطوة الضرورية التي تفصل عالم الفلسفة عن الفيلسوف. بل ان معظمهم لا يجد حتى الجرأة-تواضعا ربما-على خوض مغامرة كهذه، لذلك فهم يتبنون طواعية ضرورة الحفاظ على طقوس وقيود المنهجية المدرسية وغالبا بوعي. اما البعض النادر الذي حاول الخروج-الى هذا الحد او ذاك-على تلك الطقوس فانه عجز موضوعيا عن الذهاب بعيدا ووجد نفسه مضطرا اما الى اقتفاء اثر المدارس والتيارات الفلسفية الغربية وتبني منظوراتها او تقليدها (كشأن زكي نجيب محمود مع الوضعية المنطقية وحسين مروة مع الماركسية) وبالتالي وراثة معطياتها بما فيها تناقضاتها، واما، بالمقابل، الركض وراء خصوصية واصالة غائمتين مفترضتين ما هما في الواقع سوى توليفة بين مضامين سلفية وايديولوجية مقنعة واشكال غربية جديدة (كشأن محمد اركون مع الاسلام والجابري مع القومية)، واما اختيار السفر والتنقل بين محطات فلسفية مختلفة تمتد احيانا من الصوفية الى الوجودية، دون استراحة لكن ايضا دون النجاح في بلورة هوية ملموسة او الارتكاز على دكة صلبة خاصة (كما هو حال عبد الرحمن بدوي بين إخرين).
واجمالا، فان طبيعة جميع هذه الجهود، لخصها الراحل زكي نجيب محمود بقوله بانها عبارة عن محاولات تقوم بشتل افكار فلسفية غربية مستوردة في تربة شرقية، او شتل افكار منقولة من العصر الاسلامي الوسيط في تربة ثقافة القرن العشرين. واذا كانت جميعها قد اخفقت الى هذا الحد او ذاك او لم تنجح إلا في تقديم نتائج متواضعة فلسفيا فذلك برأينا لان المنهجيات التي اعتمدتها، بفعل غياب الشروط الجوهرية لتطوير منهجيات جديدة، قولبت حيوية عطاءات هؤلاء المفكرين-المؤرخين وقلصت من حريتهم في الحركة الابداعية التأملية. وقد ادى ذلك الى تفضيل البعض كم المؤلفات المكررة (بدوي، الجابري مثلا) على حساب رصانة واصالة ومعاصرية المحتوى، في حين اغرق البعض الآخر في الخلط بين صنعتي الترجمة والتفلسف. وبين هذا وذاك ظهرت بعض الاسماء الواعدة إلا انها لم تستطع الذهاب -حتى الآن- بعيدا في تحليقها الحر بسبب وقوعها اما في قيود الوفاء لأيديولوجيا الشباب (ماركسية، وجودية، سلفية..) او في اغراءات الكتابة الادبية او التاريخية مفضلة الافراح الظاهرية لهذه وتلك، على اللذة السرية الخاصة بالفلسفة وحدها.
ان اكثر من واحد من استنتاجات هذا الجرد السريع سبق ان سجله بعض من سبقنا في فحص محنة الفلسفة في الثقافة العربية ونذكر منهم بوجه خاص ناصيف نصار في القسم الاول من كتابه "طريق الاستقلال الفلسفي". إلا أن نصار الذي افلح في طرح مشكلة عدم استقلالية المتفلسف العربي، لم يفلح هو ايضا في الافلات من فخ اللااستقلالية. ويتجسد هذا الامر بشكل جلي في الاجوبة المستعجلة التي يقدمها من جهة والتي تخلط بين مفهوم الفلسفة والايديولوجيا. وفي البدائل الوهمية من جهة اخرى التي يسعى للدفاع عنها في القسم الاعظم من كتابه المذكور حيث يجهد لاثبات ان انطون سعادة وزكي الارسوزي واضرابهما من صغار الايديولوجيين هم "فلاسفة حقيقيون".
والحال ان اعتبار هؤلاء فلاسفة دعابة مضجرة. كما هي دعابة مضجرة اعتبار شارل مالك او كمال الحاج او الحصري او عفلق او هذا او ذاك من دعائيي الايديولوجية القومية او الطائفية بالفلاسفة. ونفس الشيء يصدق بالنسبة للفقهاء ورجال الدين ممن يلفون افكارهم بقميص الفلسفة.
واذا كان لا بد من اطلاق صفة فيلسوف على بعض مفكرينا، فانا نفضل اطلاقها على الحبابي وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود لانهم يظلون في اخر الغربلة اكثر عمقا وحرية وشمولية وقلقا انسانيا على الصعيد الفلسفي من جميع معربي الايديولوجيات القومية واللاهوتية والطائفية المذكورين منهم هنا وغير المذكورين.
واختصارا لكل ما تقدم نقول بان الثقافة العربية الحديثة لم تستطع بعد انتاج هؤلاء "الفلاسفة الحقيقيين" بالمعنى الديكارتي المذكور. ونضيف-ولنوصم بالسوداوية-بان هذه الثقافة لن تنتج منهم لفترة طويلة اخرى طالما ظلت المعايير الحضارية التي تحكم العالم العربي حاليا، سيدة الساحة مستقبلا والتي تتجسد بغياب الحرية بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها الفولوكلوري. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها الفولوكلوري هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.
وهذا الشرط الموضوعي هو الحرية والحرية بالتحديد. لان الحرية هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لفعل التفلسف، كفعل ابداعي، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في اسمى تعريفاتها، في تعريفها الاول والاخير ليست شيئا آخر غير الحرية. وما دامت هذه محروما دربها في العالم العربي فما من أمل ان تشتاق الفلسفة للعيش بيننا من جديد بل انه امر طبيعي ان تهجرنا وتزعل علينا لانها-كأية حسناء-لا تحب إلا عشاقا اصحاء الحيوية ومغامرين واحرارا يجرأون على قراءة اسرارها. اما العشاق الشاحبين البكائين الباردي الاحضان فانها تهجرهم دون اسف حتى اذا كتبوا لها قصائد التوسل والاسترحام ليل نهار. وان انتفاء الفلسفة او تدهورها في ثقافة ما، ما هو في الجوهرسوى نتيجة لانعدام قدرتها على انجاز مهمتها الوحيدة وهي العودة الى الفرد والسؤال عن حريته وانسانيته. ليس بطرا اذن، او طمعا بسلطة، ان يتوصل افلاطون في جمهوريته الى يقين قاطع بان جمهورية نموذجية في حماية الحرية لا يمكن ان يوكل فيها الحكم إلا للفلسفة والفلاسفة. وليس عبثا ان يؤكد ابن رشد بان الفرد يجب ان يدرك قبل اي شيء بانه حر. وليس مجرد مزحة ان يوبخ الجاحظ العرب لانهم يخلطون بين الحر بمعنى السخي والحر بمعنى الحر. فاذا كانت الديمقراطية هي مدينة الحرية، فان الحرية هي مدينة الفلسفة. وهكذا فان التاريخ يعلمنا بان الفلسفة لم توجد ولم تزدهر في مرحلة او أخرى إلا عندما اقترنت بوجود نطام اجتماعي-سياسي يحترم المفكر كفرد ويسمح بفسحة من الحرية له فازدهار الفلسفة في بلاد الاغريق القديمة مدين بشكل كبير للنظام الديمقراطي البسيط الذي عرفته الجزر الايونية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. وازدهار الفلسفة في الشرق الاسلامي مدين حتى الاذنين لاذكى حاكم عربي مسلم ظهر لحد الآن، ونقصد به الخليفة المأمون. كما ان ازدهار الفلسفة في الغرب الحديث ما كان سيحصل لولا النظام الديمقراطي الدستوري التعددي-على علاته-الذي قام في الدويلات الايطالية وانجلترا وهولندا والمانيا وفرنسا وغيرها.
صحيح جدا ان الحرية التي اشاعتها هذه الانظمة هي حرية نسبية وموضعية ما دمنا نعرف ان المجتمعات الاغريقية القديمة قامت على النظام العبودي اللاانساني ونظام المأمون قام على نوع من التوسعية العسكرية والدينية وان انظمة الغرب الحديث قامت على ابادة الهنود الحمر واستعباد الافارقة السود ونهب القريب والبعيد من شعوب الارض. وصحيح بالتالي اننا نقيم هذه الاستنتاجات على الكثير من التجريد، بيد ان هذا التجريد يظل مشروعا. فهذه الانظمة بالقدر الذي اشاعت فيه بعض الحرية للفلسفة، هي، نسبيا، انظمة تحترم الذات الانسانية مهما كان هذا الاحترام محدودا او مجبرة عليه. اما الانظمة التي تعامل المواطن والافراد معاملتها للقرود فهي انظمة يقودها قرود حتى اذا اطلقوا على انفسهم لقب "الشيخ الحكيم" او "القائد المفكر" او "العقيد الفيلسوف". فقد كان ارسطو يقول للاسكندر المقدوني "اياك وتحويل الناس الذين تحكمهم الى بهائم لانك ستكون انت بهيمة ايضا. لأن من يترأس بهائم لا يمكن ان يكون إلا بهيمة".
ليس مدهشا اذن ان تنتعش الفلسفة في ظل الاسكندر المقدوني وتهجر ثقافة يحكمها شعار "من تمنطق تزندق" ومن تزندق يذهب جلده الى الدباغ. وليس مدهشا ان تزدهر الفلسفة في قرون دولة عباسية يستطيع فيها الفرد ان يتنقل من طاشقند الى قرطبة كما يشاء ودون نقاط تفتيش وان تنطفيء في عالم عربي راهن يحتاج فيه الفرد الى الف عريضة استرحام وتذلل للعريف او السركال الحاكم حتى يحصل على جواز سفر او ختم الموافقة على الانتقال من قرية الى قرية مجاورة.

انتهى
* د. حسين الهنداوي، شاعر ومتخصص في الفلسفة الهيغلية. له مؤلفات فلسفية عديدة من بينها "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل" (الساقي)، و"هيغل والاسلام" بالفرنسية، و"مقدمة في الفلسفة البابلية"، و"فلاسفة التنوير والاسلام" و"استبداد شرقي أم استبداد في الشرق"، و"على ضفاف الفلسفة" و"هيغل والفلسفة الهيغلية و"الفلسفة البابلية" وغيرها...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة