الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -11-

علي دريوسي

2017 / 11 / 20
الادب والفن


المقطع الحادي عشر
*****
ملاحظة: لا يَتبنَّى مُؤلف هذه الحوارية المُتْعِبة الآراء المنقولة عن شخوصها.
*****

فجأةً رنَّ جرس السكايب بموسيقاه العذبة، ساد الصمت، بينما اكتست الوجوه بالخشوع والسكون والرزانة، كأنَّ رائحة البارود والدم التي وصلتهم من هناك أزكمت الأنوف وأصوات المدافع والطائرات أصمّت الآذان والدمع تكفّل بخلق تلك الغشاوة التي أعمت العيون. كان صلاح هو المتصل، كان صوته واضحاً واثقاً، ألقى التحية على المتواجدين فرداً فرداً، بكت أم صلاح ولحقتها بيلسان، تضامتا، عبّر عن رغبته بالانفراد بالحديث إلى خطيبته سلمى، أخذت اللابتوب وذهبت إلى غرفة نوم سناء وبيلسان، حلّ الصمت ثانية على جوقة المتحلقين حول الطاولة، انشغلت سناء مع ماهر بقراءة أخبار الثورة في الموبايل، استغل الأب أبو صلاح الفرصة وكتب رسالة قصيرة إلى أحد أصدقائه في الفيسبوك، صالبت أم صلاح ذراعيها وأسندتهما على صدرها وأطرقت رأسها إلى الأرض كمن يتأمَّل بأمور الحياة، بينما راحت بيلسان ترشف كأس شايها بصوتٍ عالٍ.

مضت حوالي عشر دقائق ثم عادت سلمى مُوَرَّدة الخدين وابتسامةَ فرحٍ حزينٍ قد اِرْتَسَمَت على شفتيها، وضعت الجهاز في منتصف الطاولة مقابل الأب، وقفوا جميعاً وتحلّقوا حوله، وراحوا يطرحون الأسئلة نفسها عن صحة صلاح وطعامه وشرابه وموعد إجازته...

ثم جاء صوت الأم: متى ستأتي كي نفرح بزواجكما؟ سلمى تحتاجك، ونحن نشتاق لرؤية حفيدنا.
ضحك صلاح وأخبرهم: لقد تكلمت للتو مع الحبيبة سلمى بالأمر، هل شممت رائحة الحديث يا أم صلاح؟ سآتي إليكم بعد ثلاثة أسابيع تماماً، لقد حصلت على إجازة زواج، سيكون عرساً جماعياً واحتفالاً كبيراً لستة أشخاص من الضباط الزملاء دفعة واحدة كما إقترحت القيادة التي ستتكفل بكافة المصاريف! أرجو ان تبدأوا بتجهيز أنفسكم.
زغردت أم صلاح وعانقت سلمى.

ثم توجّه صلاح بالحديث إلى إبراهيم وشجعه على فكرة السفر لمتابعة الدراسة، بعدئذٍ طلب الأب إليهم جميعاً أن يشربوا نخب إبراهيم، صبّ لكل منهم رشفةً من عرق الميماس ومزجها بالماء، رفعوا كؤوسهم وهنّأوه بعيد ميلاده، رفع صلاح بدوره كلاشينكوفه، قرعوا الكؤوس، شربوها، ودّعهم صلاح وعاد كل منهم إلى ذاته وأفكاره. قطّعت ام صلاح الكعكة الشاحبة ووزّعت أقسامها المتساوية عليهم.

قطع الأب رتابة المضغ والسكوت بقوله: لقد اتصل بي منذ يومين أحد أصدقائي، ليروي لي أنَّه سيهرب في أقرب فرصة إلى ألمانيا. وعندما سألته عن زوجته الشابة وأطفاله الثلاثة، أخبرني أنَّه سيذهب في البداية بدونهم، على أن يلحقوا به ذات شمس، بعد ثلاث سنوات أو خمسة أو أبداً. تمنيت له التوفيق وتحقيق هدفه، لكني لست مع هذا الشكل من الهروب. تاريخياً، لم يحظَ الهارب الذي تجاوز الأربعين من عمره بمستقبلٍ لائق به في ألمانيا، بقيَ ضائعاً دون أن يجرؤ على المشي ولو خطوة واحدة باتجاه الوراء. لكن هناك حالات استثنائية بالتأكيد.

سناء: الناس معذورة، إنَّه الطوفان العارم، هبت العاصفة كلها دفعةً واحدة ومعها اِنداحت سيول الأمطار فوق الأرض، التي قد تجرف الجميع في طريقها.
الأب: وفَارَ التَّنُّور!
ماهر: (قوّض بيتك وابن سفينة، اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك، اترك متاعك وانقذ حياتك، واحمل فيها بذرة كل ذي حياة).

بيلسان: لقد قرأت أن أكثر من 70% من الهاربين السوريين هم من الذكور، لمن تركوا النساء والأطفال؟
الأب: هرب معظمهم تاركاً زوجته وبناته يعانون الأمرين في البلد؟ هربوا مع أولادهم الذكور فقط.
بيلسان: ومن أين للهارب المال الذي قد يصل إلى حوالي عشرين ألف دولار لتمويل الرحلة؟ كما يقول معلمنا في الصفّ!

سلمى: معظمهم لا يحمل صفة الحيادية أو الانتماء للقطب الثالث؟ إذنْ مما هم هاربون؟ لماذا لا يدافعون عن مناطقهم المحرّرة، إذا كانوا من أنصار الثورة؟ أو عن المناطق المتبقية تحت سيطرة الدولة، فيما إذا كانوا من الموالين؟
بيلسان: الهروب من الوطن إلى أوروبا ليس للفقراء غالباً، ليس للوطنيين أبداً، الفقراء والوطنيون لا يهربون.
الأم: سوريا قوية بشعبها الصامد في وجه الطغاة والغزاة والخونة وعناكب الفساد، المجد لمن رفض مغادرة الأرض الطيبة، رغم الفقر والجوع والمرض والموت.

الأب: معظم الوطنيين والمثقفين الحقيقيين لم يغادروا بلدهم، غداً سيعرف العالم أنّ الرجال الأوفياء يعرفون طريقهم إلى الثأر من كل العصابات التي عملت وتعمل على تدمير وتفتيت الوطن، وقلوبنا معك أيها الجندي الفقير وأنت تقاتل من أجل الحق، وعقولنا معك أيها المثقف الأصيل وأنت تناضل من داخل الوطن من أجل كرامة ووحدة أبنائه كلهم.

سلمى: وقبل أن يفهم الهارب معنى الغربة وحق الهروب الاِجتماعي وتَشَعُّباته عليه أن يفهم أولاً معنى الوطن وطريق العودة إليه.
الأم: المثقف الثوري الصادق والملتزم بقضية شعبه يبقى مع شعبه، لا يهرب!

سناء: أشعر وكأنّكم ضد الحق في هروب الناس وإنقاذ حياتها من المخاطر والموت.

إبراهيم: العفو منك يا أبي، لا أقصد حضرتك، لكنني ارغب أن أعبّر عن رأيي بشكلٍ عام، أرى أنّ كل من ترعرع في حضن الديكتاتورية، حتى لو كان ممن حاربوها بالكلمة، أو حتى لو عاش بضع سنوات في بلدان ديمقراطية، أراه يكذب حين يدّعي أنّه ديمقراطي التوجه والممارسة ولا أثر للسلوكيات والأفكار الديكتاتورية في حياته.

الأب: أبداً، تعميمكما ليس صحيحاً. بالتأكيد حرية التنقُّل (القانونية) مضمونة لكل البشر، وكذلك حق اللجوء وحق الهروب لمن يستحقه فعلاً. لكن للهروب أسبابه وأشكاله المتعددة وظروفه وليس ظرف الحرب بأولها، هناك من يخطِّط للهروب منذ كان في الخامسة عشر من عمره وهذا حقه. ونماذج الهاربين شديدة التنوع أيضاً، منهم الأكاديمي والطالب والطبيب والمهندس والمهني ومنهم السياسي والفنان والأديب ومنهم أيضاً الجاهل والمجرم والأصولي والأزعر والسارق والنصّاب ... الخ. وهؤلاء هم الأكثرية في ألمانيا للأسف. أعلم وتعلمون تماماً أنّ معظم من وصل إلى جنة الغرب وصلها بأموال سوداء، أو بطرقٍ غير مشروعة وطنياً وقانونياً، وأنّ البعض منهم كان له دوراً في إشعال الفتنة بين الناس ونار الحرب في سوريا، حتى مصطلح (ثورجي) كما يطلقونه على أنفسهم لا يليق بهم، بل مصطلح أخر مختلف تماماً، من يرغب في حماية وطن والارتقاء به ويعتبر ذلك من مهامه يتوجَّب عليه أن يكون آخر من يغادر السفينة وليس أولها. العمل الثوري المدني لا يتم إلا من داخل الوطن.

بيلسان: في البقاء تكمن القوة، وفي الَّتهَارُب تكمن الانتهازية. الثوار الهاربون يبنون سوريا عن بعد.
سناء: ما الذي تعنيه؟ بالأحرى ما الذي يعنيه معلمك البعثي في المدرسة؟
بيلسان: لا علاقة لمعلمي بهذا. أرجو احترام وجهة نظري كما أحترم وجهة نظرك. عن طريق الفيسبوك يستطيع الواحد أن يقرأ كل ما يدور على الساحات. لقد عملوا لأنفسهم صفحة فيسبوكية هزيلة مثلهم وراحوا يتقيأوون فيها برازهم النتن، بعضهم يحاول الظهور عن طريق كتابة الشعر الخفيف ورسم اللوحات الخالية من الموهبة وعرضها في الصالات المؤيدة للثورة العرعورية. حيث نسبة اهتمام المواطن الأوروبي بها لا تتجاوز مقدار النانوميتر. تسمعيهم يتكلمون عن أدب هروب ومنفى وكأنّهم أدباء يعيشون في القرن التاسع عشر. بينما هم في الحقيقة لا شيء سوى حثالة، بل جراثيم كما وصفهم سيادة الرئيس.

الأب: في بلد يحترف صناعة المعدات الثقيلة لا أحد لديه الوقت أو الرغبة كي يهتم بشعر الهاربين الخفيف، باستثناء المجانين طبعاً. سيدركون يوماً أنّ كلمة شاعر في ألمانيا مثيرة للسخرية.
سناء: ليس الشعب تنظيماً عسكرياً أو حزبياً، ليس الشعب خلايا إرهاب نائمة أو عناقيد عنب جرثومية، ليس الشعب بلا أرض أو أصل أو لغة أو كرامة، ليس الشعب حدائق مخابرات ومفارز أمن وتشبيح. الشعب هوية، حرية وانتماء. الشعب يريد الحق في الحياة.
*****
يتبع في المقطع الثاني عشر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا