الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبق من ورق العنب

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2017 / 11 / 22
الادب والفن


كان يمني نفسه بتناول وجبة شهية. لذلك قرر أن يدخل إلى أحد المطاعم نصف الفاخرة ليتناول واحدة من الوجبات الدسمة، وتأكد قبل أن يدخل إلى المطعم أن معه من المال ما يكفي لتغطية تكلفة وجبة متوسطة بأسعار ذلك المطعم.
اجتاز بوابة المطعم، وذهب إلى الطابق الثاني وفق إرشادات العاملين، وصك أذنيه، وهو لا يزال على السلم، الصخب المميِّز للمطاعم من اصطدام أدوات المائدة بالأطباق، وحديث الرواد، وصياح بعض الأطفال الصغار، وأصوات الموظفين، وهم ينادون بعضهم على بعض لتلبية طلبات الزبائن.
لم يلق بالًا لكل تلك الضوضاء التي ألفها منذ أن احترف تناول الطعام في المطاعم، وانتقى منضدة صغيرة الحجم بعيدة عن صخب المطعم، وجلس في انتظار أن يأتي أحد العاملين ليأخذ طلباته. وبالفعل ما إن استقر به المقام حتى جاء إليه أحد العاملين، ولكن بدلًا من أن يسأله العامل عما يطلب، طلب منه أن ينتقل إلى منضدة أخرى. كان الطلب مفاجئًا بشكل ما؛ لأن المنضدة كانت مناسبة من حيث صغر حجمها، وربما كان هذا هو ما دفعه إلى أن يختارها؛ فلا يجلس إلى منضدة كبيرة؛ ليأتي أحد العمال ويطلب منه الانتقال إلى منضدة أصغر؛ لأنه يجلس بمفرده، بينما المناضد الكبيرة مناسبة لمن هم أكثر من فرد.
كان العامل مهذبًا في أسلوبه، كما كانت المنضدة التي اختارها له مناسبة؛ فلم يمانع في الانتقال، وإن لم يستطع أن يمنع نفسه من ذكر السبب في اختاره المنضدة من أنها صغيرة ومناسبة له كفرد واحد، لكن الموظف قال له إن المائدة في مرمى نظر سائر رواد المطعم؛ لأنها تقع أسفل شاشة التلفاز التي تكون محط نظر رواد المطعم؛ فمنهم من يشاهدها طوال الوقت، ومنهم من يطلع إليها بين الفينة والأخرى.
استقر به المقام مرة أخرى في المنضدة الجديدة، وأعطاه العامل قائمة الأطباق المتاحة في المطعم؛ فقرر أن يختار وجبة دسمة للغاية رغم أنه ليس من محبي الطعام أو ذوي الشهية المفتوحة. راح يجري بعينيه بين الأصناف؛ فوقعت عيناه على طبق ورق العنب. عندها توقف قليلًا، وراح يفكر في أنه لم يتناول هذا الطبق منذ زمن بعيد؛ بعيد للغاية، وتحديدًا منذ أن توفيت والدته؛ فقرر أن يطلب ورق العنب. وعاد إلى قائمة الطعام، وراح يجري بعينيه بين أصنافها مرة أخرى، واستقر، في نهاية الأمر، على أن يطلب لحومًا مشوية وحساءً إلى جانب طبق ورق العنب.
أشار إلى العامل فجاء مسرعًا بشكل ربما كان مفرطًا قليلًا في سرعته، لكنه لم يلتفت إلى ذلك، وأملى عليه طلباته. سأله النادل عما إذا كان يطلب شيئًا آخر، فأجابه بالنفي، وأسرع العامل ليحضر الطلبات. فكر قليلًا في أداء العامل السريع، وبدا له كما لو كان محاولة لإزالة أي أثر سلبي ترتب على مسألة الانتقال بين الموائد، وفكر كذلك في أن هذا المبرر، إن صح، سوف يكون شديد السخافة، لكنه لم يشغل باله كثيرًا، وراح يتجول ببصره في المكان المتاح أمامه من المطعم.
ذهبت عيناه لا إراديًّا إلى المنضدة التي كان يجلس إليها في البداية، ورأى بالفعل أنها قريبة من التلفاز؛ فنقل بصره إلى التلفاز، وكان يعرض أحد لقاءات كرة السلة في الدوري الأمريكي؛ فراح يتابعه، بنصف ذهن. وبعد قليل، جاءت امرأتان تحمل إحداهما طفلًا رضيعًا جلستا إلى المنضدة خلف ظهره. لم يبال كثيرًا، إلا عندما سمع أحد العامين يأتي إليهما، ويسألهما عما إذا كانتا تريدان أن يحضر لهما مقعدًا مخصصًا للأطفال، فرحبتا بشدة. فهم أن العامل لمح السيدتين تواجهان معاناة في إجلاس الرضيع؛ فعرض عليهما إحضار مقعد الأطفال. ولم تمض ثوانٍ حتى حضر الموظف بالمقعد، وساعدهما في إجلاس الطفل عليه؛ فجاءت جلسة الطفل بجواره هو تمامًا لأن المقعد كان كبيرًا فملأ الفراغ بين المنضدتين.
في تلك الأثناء، أحضر نادل أطباق الطعام؛ فبدأ في تناوله. كان من عادته أن يبدأ بالحساء ثم ينتقل إلى الأرز، وبعدها اللحوم سواءً كانت دجاجًا أم لحومًا. ولما لم يكن هناك أرز في الطلبات، كان من المفترض أن يتناول ورق العنب بدلًا منه. لكنه قرر أن يبقي طبق ورق العنب للنهاية؛ فهو اليوم الطبق الخاص.
وبالفعل تناول الحساء، وبدأ يتناول اللحوم، ثم أخذ يأكل أصابع ورق العنب في تمهل، وكأنه مدخن حُرِمَ طويلًا من سجائره المفضلة. وبعد أن انتهى من تناول الوجبة، أشار إلى أحد العاملين يطلب الفاتورة، ثم نهض من مكانه ليذهب إلى دورة المياه ليغسل يديه إلى حين الانتهاء من إعداد الفاتورة. ولكنه بعد أن نهض من مكانه، وجد صعوبة في التحرك بسبب مقعد الطفل الذي كان يشغل الحيز بين المنضدتين. لم يكن هناك سوى مساحة صغيرة فقط وجد، على نحافة جسده، صعوبةً في المرور منها، لكنه لم يشأ أن يحرك مقعد الطفل؛ حيث قال في نفسه إنه طفل، ولا ريب أنه سوف يتعين عليه أن يفسح المكان للآخرين طيلة عمره؛ فلا داعي لإثقاله بمثل هذا الطلب، وهو لم يخرج من مهده حتى. وبعد أن غسل يديه، ذهب إلى المنضدة؛ فأحضر حقيبته، ودفع الحساب، وغادر المطعم.
عندما خرج إلى الشارع، فاجأه الهواء الساخن بعد الهواء المكيف داخل المطعم؛ فوقف قليلًا ليعتاد على اختلاف الجو، وليفكر في خطوته التالية، وما إذا كان سيعود إلى المنزل أم يتجول قليلًا، وبعد فترة قرر أن يعود إلى المنزل، ويشتري بعض اللوازم في طريق العودة. ولما بدأ السير، شعر ببعض التثاقل في خطواته من تأثير الطعام؛ ففكر في أن الطعام على ثقله كان شهيًّا، ولذيذًا، إلا أنه وأثناء عبوره الطريق أقر في نفسه أنه على لذته لا يكاد يقترب من نصف ما كان في طبق ورق عنب أمه من لذة ودفء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و