الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراع بين النص والجنس الأدبي للمنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي

عبير خالد يحيي

2017 / 11 / 23
الادب والفن


حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

الصراع بين النص والجنس الأدبي

مقال (١١)

عبد الرزاق عوده الغالبي

أولاً- ثلاثية الجنس الأدبي

نحن الآن نعيش عصر العولمة ونسكن دنيا يحكمها القطب الواحد وهوس الاتصالات ( Telecommunication age) عندها أصبح العالم قرية صغيرة، هو العصر الذي قيل عنه : "لم يبق فيه شيء لم يُقال، أو حدث لم يحدث"، وهو عصر الانبهار والانهيار، ومع ذلك لا يستطع أحد أن يكتب عن علم أو معرفته و يتجاوز الماضي، فالماضي دوماً أساس للحاضر وحضور للمستقبل، ولو استحضرنا الماضي كسابق للحاضر لوجدنا إبداع من سبقونا بآلاف السنين أساسًا رصينًا ، نبني عليه ما قيل اليوم وربما ما سيقال ويحدث غداً، قد لا يتفوق بل ربما يتقدم عليه قليلاً....

ميز الفيلسوف (أرسطو) في كتابه «فن الشعر» بين ثلاثة أجناس من حيث أسلوب المحاكاة، في التمثيل :

١الشعر الغنائي الذي يحاول الشاعر فيه التعبير عن ما يجول في وجدانه،

٢والشعر الملحمي أو الروائي، والذي يتحدّث الشاعر من خلاله كراوية على أثر التحاور المباشر بين الشخصيات.

٣والمسرحية فيختفي الشاعر في شخصيّته الملموسة.

محاولات"( )عديدة بذلت بعد محاولات أرسطو، لإظهار طبيعة تلك الأجناس الأساسية. وقد جرّب تلك المحاولات الكثير من الكتاب الكلاسيك، مثل (هوبز ) في رسالته إلى (ليفنت) أن يقسّم العالم إلى:

١ بلاط
٢مدينة
٣وقرية

واستخلص ثلاثة أجناس تتماشى مع هذا التقسيم وهي:

1- الشعر البطولي.
2- شعر الهجاء والملهاة أي الهجاء الساخر.
3- الشعر الرعوي.

لكن الكاتب الإنكليزي( إي. أس. دالاس) أخذها ثلاثة أجناس من الشعر :

1- المسرحية.
2- الحكاية.
3- الأغنية.

وبعدها انكبّ كل واحد منهم على دراسة كل جنس بمعزل عن الآخر، ليخرج بتصنيف ثلاثي جاء على النحو التالي:

1- المسرحية ويحكمها ضمير المخاطب الحاضر (الزمن المضارع)،
2- الملحمة ويحكمها ضمير الغائب (الزمن الماضي)،
3- الشعر ويحكمه ضمير المتكلم المفرد (الزمن المستقبل).

وفي القرن التاسع عشر فرضت المدرسة الرومانسية هيمنتها في أوربا والعالم الغربي على الأجناس الأدبية وظهر تأثيرها واضحاً حتى اليوم في الحكم الجمالي، باعتبار أن العمل الأدبي الناجح هو العمل الذي لا يهتدي بقواعد أي جنس. هذا التصور ساعد على ظهور الهجمة السريالية التخريبية والرواية الجديدة وهما من أهم الحركات التي وسمت ملامح القرن العشرين لتخرس الأصوات الأدبية التي تنادي بثلاثية الجنس( وهو ما نراه أعلاه كل تقسيم بثلاث عناصر) وتدعو إلى حرية الإبداع الأدبي بالتعدد الجنسي الذي يكون عابرًا للثلاثية.....حتى اتخذ مشروع زعزعة بنية الأجناس الأدبية في العصر الحديث منحيين متناقضين:

• المنحى الأول: تلاشت وجاهة الجنس بالتكاثر، بحيث تشكلّت إزاء الأجناس المعروفة - في وفاق مع تطوّر الأذواق والسياق التاريخي.

• المنحى الثاني: بروز أجناس جديدة خاصة، وأجناس صغيرة مستقلّة، وأشباه أجناس، وأجناس فرعية وأجناس بينية…

نالت كثرة هذه الأجناس وتفردّها من مصداقية الأجناس الكبرى. ومن وجهة نظر ثانية، تأثّر تصنيف الأجناس بالحملات التي أثارها دعاة الانتصار لحرية الإبداع، وللحق في مزجها مع بعضها، ونبذ التصنيفات المتصلّبة ، وصار التعبير عن الأدب في ثلاثة أجناس موروثة عن النموذج اليوناني موضع سخرية واحتقار، حتى تولدت إضافة إلى الأجناس الثلاثة، أشكال أدبية لم يأخذها أرسطو في الاعتبار، ولا أولئك الذين جاؤوا من بعده، وهي:

 الفصاحة التي عدّت في بعض الأحيان جنساً أدبياً حقيقياً.

 النقد الأدبي الذي يساوي الأجناس الثلاثة والذي يقول عنه الناقد الفرنسي برونتيير «ليس النقد جنسًا بالمعنى الصحيح، لا شيء فيه يشبه المسرحية أو الرواية بل يقابل الأجناس الأخرى كلها»

 التاريخ الذي يدخل في صميم العلوم الإنسانية من غير أن يكون ثمة شبه بينه وبين الأدب, وكان في العصر الكلاسيكي ملحقًا بما يسمّى «الآداب الجملة»، ويقال عنه أنه صنو الرواية، لأنه يعمل مثلها على تظهير الوقائع، وأحياناً في خلطها مع الأوهام .

 اليوميات الحميمة.

 السيرة الذاتية.

 المذكرات.

 المراسلات، وهي أجناس فرعية اخترعها الأدب في مسيرته الطويلة عبر العصور.

ثانياً- سلطة النص الأدبي على الأجناس:

ما عادت الاتجاهات الحديثة في النقد الأدبي، تهتم بالجنس كمبدأ تصنيفي للنتاج الأدبي، بل استبدلته بالنص، والنص الذي يصاغ من أحرف اللغة وجملها، ليس شعرًا أو مسرحًا أو رواية، إنه كلام يمزج من خلال كتابته لغوياً، كما يقول اللسانيون، تأملات فلسفية بإشارات إتنوغرافية وأسرار شخصية، وذكريات شعرية واقتباسات لغوية، وبذلك هو غير قابل للتصنيف إلى أي جنس، النص لا يمكن التقاطه والتضييق عليه في حلقات أية شبكة بلاغية، إنه إبداع مستقل، والإبداع لا يقاس أو يحدّد بأبعاد، واستمر النص سيد الموقف حتى نهاية القرن العشرين وظهرت له شروط وأبعاد ومحددات لذلك وضع اليد الطولى على الجنس الأدبي في تلك الفترة.......

وتلك هي سمة وسمت ب (ما بعد الحداثة) وهي الفترة المحصورة في الربع الأول من عقد السبعينات, وقيل إلى نهاية عقد التسعينات, لكني أقر وجودها إلى يومنا, هذا لعدم معارضتها بأي حركة أو منهج أو نظرية تقر نهايتها غير المنهج الذرائعي وحركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي, التي ظهرت في النصف الأول من عام ٢٠١٧, والتي حاولت محاربة التفكيك والتخريب والتجريب وإشاعة سيادة النص على الجنس، وأعادت هيبة الجنس الأدبي إلى عرينه الذي فارقه حوالي نصف قرن أو ما يقل أو يزيد قليلاً….

مصطلح الجنس الأدبي:

ويتناول سعيد علّوش في "معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة""( ) مفهوم النّوع (الجنس) من وجهة نظر اجتماعية لغويّة، فيقرّر أنّ النّوع يشير إلى "طبقة خطاب يتمّ التعرّف عليها بفضل مقاييس اجتماعية لغويّة" ولا يُحدّد تلك المقاييس، فلا نستطيع أن ندرك بدقّة ماذا يقصد بذلك، ولكنّ المهمّ أنه يحيل ذلك إلى مرجعيّة اجتماعيّة أوّلاً، وإلى مرجعية لغويّة ثانياً، ومع ذلك لابدّ لنا من الاعتراف بأهمية هاتين المرجعيّتين فيما يتعلق بقضيّة الجنس الأدبي، فاللغة والمجتمع عاملان ضروريان في تحديد هوية وماهيّة الجنس الأدبي بأي شكل من الأشكال والذي يقرّ الحديث والخوض فيها لكون قضية الأجناس قضية شائكة ومتشعبة…..

ويتابع سعيد علوش موغلًا في تحديد مفهوم (النوع أو الجنس) مركّزاً على تكوينه العضويّ ويدقّق فيقول: "النوع أو الجنس تنظيم عضويّ لأشكال أدبيّة، كان يمكن تمييز الأنواع الكبرى عن الأنواع الصغرى في نظرية الأنواع الأدبيّة الّتي تقوم على محورين متمايزين:

آ- مفهوم كلاسيكي، يقوم على تعريف غير علميّ للشكل والمضمون، ولبعض طبقات الخطاب الأدبيّ كـ (الكوميديا- التراجيديا)‏.

ب- مفهوم "واقع" الأصالة الّتي تكشف عن العوالم المختلفة والتسلسل السّرديّ"‏

وهنا يمكننا أن نورد بعض الملاحظات على مفهوم (الجنس أو النوع) عند سعيد علّوش:‏

1- يربط سعيد علّوش المصطلح بمنتجِهِ (الاجتماعيّ)، وهي سمة دقيقة وضرورية تمنح الولوج في عمق فهم المصطلح.‏

2- يتناول المصطلح من وجهة نظر تكوينيّة أوعضويّة، وهو أيضاً أداء مركّز يؤدّي إلى وعي المفهوم وعيًا دقيقًا.‏

3- عدم الاعتماد على مصطلح واحد أو ترجيحه، وإنّما ذَكَر المصطلحين معاً لدلالة واحدة, فكان يخيّر بينهما في اللفظ ولا يُخيّر في المعنى، فيقول: الجنس أو النّوع، وهذا المزج جعله يميّز بين أَنواع كبرى وأنواع صغرى, فالأنواع الكبرى هو ما نقترح أن ندعوه (الأجناس)، و الأنواع الصّغرى ما نقترح أن ندعوه (الأنواع) فقط

دون وصف, فنقول مثلًا: الشعر والرّواية والمسرحيّة والقصة والملحمة أجناس، أمّا الرواية التاريخيّة، أو الرّواية الاجتماعيّة... أو المسرح الشعريّ، أو المسرح النثريّ، أو القصّة الطويلة أو القصيرة، أو القصيرة جدّاً فهي أنواع...

ولم يقتصر الاهتمام بهذا المصطلح على المعجميين، وإنّما حاول كثير من النّقّاد الوقوف على حدّ دقيق للجنس الأدبيّ، ومن هؤلاء النّاقد العربيّ المعروف (محمّد مندور) الذي كانت له إسهامات كبيرة في تاريخ النقد العربيّ الحديث، خاصّة في نقل المفاهيم النقديّة الحديثة.‏

ثالثا - مسح سريع لنظرية الأجناس

يشير مصطلح نظرية الأجناس الأدبية"( ) إلى مبدأ تصنيفي للأعمال الأدبية تبعاً لأنماط أدبية خاصة تكمن في كيانات البنى الداخلية لتلك الأجناس، وتستمد هذه الأجناس الأدبية قوتها، بفعل جملة من العوامل الاجتماعية، تتحول إلى معايير ومؤشرات يستند عليها الأدباء في كتابة نصوصهم الأدبية التي تنطلق أصلًا من معاناة المجتمع، وتتبلور اختيارات الأديب لمؤسسة الجنس الأدبي، شكلاً فنياً يجسد رؤيته للعالم، فيدلي ذاتيًا ببيانات مهمة عن أسلافه في الجنس الأدبي المختار، وفي الفنون و الحياة عمومًا، مثلما يفصح عن آرائه فيهم وفيها....

وتشكل تلك المؤسسة الجنسية للمتلقي العام نظاماً ترميزياً يتعامل به مع العمل الأدبي ويرسم آفاق توقعاته تبعاً له، ليحكم في نهاية المطاف استجابته القريبة والبعيدة له، عندما يتبلور ذوقه النوعي الخاص بهذا الجنس الأدبي، و هذا الذوق والتذوق سيشكل بدوره حصيلة تراكم قراءاته في أطوار حياته المختلفة.
وبالنسبة للناقد الأدبي، فإن مؤسسة الجنس الأدبي غالباً ما تكون إطارًا مرجعيًا يحكم فراسته في القراءة النقدية للنص الأدبي، أي يحكم اختياره للنص ومدى الغوص في مخبوءاته وبناه وكوامنه الغامضة الكبرى والصغرى من دلالات ومدلولات ومفاهيم، وتحديده المصادر الأدبية المتناصة والمتوازية مع هذا العمل في عربة المعرفة للمنظومة المعرفية العالمية، وبعدها الحكم عليه في النهاية وذلك عن طريق وضعه في عدة سياقات جنسية داخل منظومة الأدب، وداخل منظومة الجنس الأدبي العالمي آنيًا وقديمًا، إن الجنس الأدبي بهذا المفهوم هو المحور الذي تلتقي فيه القوى الفاعلة في عملية الإنتاج الأدبي في أي مجتمع من المجتمعات: من كاتب وقارئ وجملة عوامل وشروط ومحددات تسهم جميعاً في تشكيله وتكوينه، وتعود نظرية الأجناس الأدبية في أصولها الغربية إلى أفلاطون بين شكلين من أشكال إعادة إنتاج التكوين، وتلك الأشكال :
 نمط الوصف أو التصوير بالكلمات
 ونمط المحاكاة
وبما أن الشعر يشكل بذاته، أقدم أداة في الأدب، من خلال إعادة إنتاجه للموضوعات الخارجية، فقد قسمه أفلاطون إلى:
• شعر محاكاة مباشرة للأشخاص هو الشعر المسرحي،
• وشعر وصف وتصوير للأعمال الإنسانية هو الشعر السردي.
وهذا التقسيم يضع الكثير من الشعر خارج دائرة التصنيف، الأمر الذي جعل أفلاطون مضطراً إلى إدخال نوع ثالث ذي شكل مختلف يتناوب فيه الحوار والسرد كما هو الشأن في الملحمة، حيث يندر استخدام السرد، ومع ذلك فقد بقي الشعر الغنائي الذي يعبر فيه الشاعر عن أفكاره ومشاعره خارج دائرة أفلاطون ومخططه ، ومن الصعوبة أن يجد الباحث تقسيماً واضحاً وبسيطاً للأجناس الأدبية في العصر الأثيني، وقد يصادف تشكيلة واسعة من المصطلحات المستخدمة في الإشارة إلى أجناس محددة مثل:
 الملحمة (أو الشعر المنشد)
 والمسرحية ( أو الشعر الممثل)، بنوعيها المأساة والملهاة،
 والشعر الهجائي المعروف باسم الإيامبي لكونه منظوم على البحر الإيامبي،
 والشعر (الرثائي) الإليجي، المنظوم على الدوبيت الإليجي،
 والشعر الإنشادي، أي الشعر المغنى من الجوقة والمصاحب بالناي أو القيثارة أو بهما معاً، وهو الأقرب إلى مفهوم الشعر الغنائي اليوم،
 النشيد أو الترنيمة و الديثرامب (أو أمدوحة باخوس)
 أغاني الجوقة
 أغاني النصر والاحتفالات.
وقد مثلت مدرسة الاسكندرية فيما بعد، الإنتاج الأدبي اليوناني وتصنيف القصائد ووضعها في مجموعات وطبقات تسهل تحديد القوانين والقواعد التي تحكم أعمال أفضل الشعراء، مما عزز الوعي بالأجناس الأدبية. وأثمر عمل (ديونيسيوس تراكس) في القرن الثاني ق.م بوضع قائمة بعدد من الأجناس الأدبية تضم المأساة، والملهاة، والمرثية، والملحمة، والشعر الغنائي وغيرها. وقصد بالشعر الغنائي ،الشعر المغنى المصاحب بالعزف على القيثارة، كما أضيفت إلى هذه الأجناس أجناس أخرى مثل أنشودة الرعاة والشعر الرعوي والنثر القصصي. ومع ذلك فقد ظل تقسيم أفلاطون يلقي بظله على تصنيف الأعمال الأدبية قروناً طويلة، وهو التقسيم الذي انتقل الى البحث لدى النحوي( ديوميدس) في القرن الرابع الميلادي ممثلاً بجنس التمثيل وجنس السرد والجنس المزيج. ولكن هذا الظل ما لبث أن انحسر تماماً في العصور الوسطى, إذ ضاعت كل فكرة المسرحية مثلما نسيت المعاني الدقيقة لمصطلحات الأجناس الأدبية بعد إغلاق المسارح، وجُعل الأدب مجرد خادم مطيع للاهوت...

كانت المسرحية تستخدم في الكتابات البيزنطية إشارة للرواية, تسمى في بلدان الغرب الأوربي الحوار الفلسفي، و تبددت فكرة المسرحية تماماً عند دانتي أليغيري, فقصيدته -التي تعد بحق رائعة عصرها- صارت عنده ملهاة لأنها حكاية ينتهي المطاف فيها بالفردوس، ولأنها منظومة بأسلوب لا نبيل ولا وضيع، و«الإلياذة»، ملحمة فرجيل الخالدة أصبحت مأساة. وهذا خلط واضح لكل ما أنجزته العصور السابقة من تقدم في نظرية الأجناس الأدبية.
العودة العربية لأجناس أرسطو
بدأت نظرة عصر النهضة في نظرية الأجناس الأدبية على أساس من كتاب «فن الشعر» لأرسطو الذي أهمل في القرون الوسطى، باستثناء الفلاسفة العرب المسلمين من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم. فقد ترجم هذا الكتاب في القرن الثالث عشر, وتزامنت تلك الترجمة مع العودة إلى الآداب القديمة وإحياء المسرح الكلاسيكي. وعاد النقاد ومنظّري الأدب من جديد إلى النص الأصلي لكتاب أرسطو في القرن السادس، سببت تلك العودة إحياءً لنظرية الأجناس الأدبية كأساس للنظام النقدي السائد. وشرع نقاد العصر في وضع قوانين وقواعد متطورة للمسرحية والملحمة استنبطت افتراضًا من أرسطو, وقاد هذا إلى خلافات حادة حول «الملهاة الإلهية» لدانتي وأعمال أرسطو وسبنسر، التي لم تتفق مع المخططات الكلاسيكية، الأمر الذي اضطر النقاد إلى مواجهة مشكلة إغفال الشعر الغنائي. وحاول بعضهم حل المشكلة بإخضاع الشعر الغنائي لنظرية المحاكاة الأرسطوية زاعماً أن الشاعر الغنائي إنما يحاكي نفسه، في حين رفضه بعضهم بحجة أنه ليس شعراً. ومع ذلك لم يضمحل الشعر الغنائي و من يدافع عنه، فقد ثبته (مينترنو) عام 1559 في قائمة أنواع الشعر الثلاثة الرئيسة, واصفاً إياه على نحو يذكر بتقسيم أفلاطون الآنف الذكر. فهو شعر إنشادي يحاكي الأعمال الإنسانية حينًا، ويسردها حيناً آخر، ويدخل متحدثين آخرين حينًا ثالثًا.
الاختلاف حول نظرية الأجناس من القرن السادس حتى العشرين
لم يكتمل الإيمان بنظرية الأجناس الأدبية في القرن السادس عشر، فقد كان هناك من يشكك فيها. عندما بدأ (برونو) يردد أن ثمة أجناساً للشعر بعدد الشعراء. وكذلك فإن ازدهار المسرحية الإليزابيثية والإسبانية اللتين خرجتا على القواعد الكلاسيكية، ولاسيما الوحدات الثلاث: الزمان والمكان والموضوع، زعزع من سيادة النظرية، وشهد القرنان السابع عشر والثامن عشر خلافات حادة حول أجناس أخرى, مثل الشعر الرعوي ومسرحية (البورلسك) والملحمة الساخرة .
وشهد القرن التاسع عشر مؤثراً قديماً - جديدًا في نظرية الأجناس الأدبية هو مفهوم التطور الذي تعود جذوره الأولى إلى أرسطو. ويبدو أن التطور وجد في أفكار داروين وسبنسر حافزًا قويًا على معاودة دوره، فغدت أفكار التطورية الجديدة تطبق بشغف على تاريخ الأدب في أقطار عدة, وهكذا طبق( جون أدنغتن سِمندز) في إنكلترة التشبيه البيولوجي (1884) بصراحة لاترحم، وقال: «إن الدراما الإليزابيثية خط واضح المعالم قوامه الولادة والتوسع فالازدهار ثم الذبول».....
وقد وجدت تحفظات (كروتشه) أصداء مختلفة لدى عدد كبير من نقاد القرن العشرين، فرأى بعضهم أن العمل الفني الجدير باسمه يكون فريداً، وقال بعضهم الآخر بعدم «تحديدية» النص ومن هؤلاء جاك ديريدا ورولان بارت الذي بيَّن في كتاباته الأخيرة أن القارئ إذ يواجَه بسلسلة غير محدودة من الإشارات ونظم الترميز المتصارعة، يكاد يكون من المستحيل عليه تفسير عمل أدبي بدقة وموضوعية. وأقر بعضهم -من ناحية أخرى-أهمية نظرية الأجناس الأدبية في الآداب القديمة، وزعم أنها لا تقوم بالدور نفسه في الأدب الحديث.
ومع ذلك فإن نظرية الأجناس الأدبية وجدت من يدافع عنها في القرن العشرين، و أبرز المدافعين هو ريناتو بوتجولي، الذي أكد في دفاعه عنها أن «الشعرية الحديثة» مثلها مثل نظيرتها القديمة، ما هي إلا نظام من الأجناس الأدبية، وطرح فكرة الشعرية غير المكتوبة أو الافتراضات التي تتناقل عن الأدب والتي لم تقنن في بيانات رسمية مكتوبة, و التي تتولى عادة نقل المعايير والأعراف الأدبية إلى جانب «الشعرية الرسمية المكتوبة»
وقد برز يوري تينيانوف الذي عني بتطور الأجناس الأدبية، واقترح «قانون الأضداد» ، و يان موكاروفسكي الذي تناول الأجناس الأدبية من وجهة تمييز أقامه بين الحوار والمناجاة، ودرس مشكلة التطور الذي تخضع له هذه الأجناس دراسة خاصة، وتبعهم تزفيتان تودوروف الذي قدم دفاعًا مجيدًا عن نظرية الأجناس الأدبية من منطلق بنيوي, مؤكدًا فكرة الصراع في تطور الأجناس الأدبية.
وأشار فراي صراحة إلى توقف التطور في نظرية الأجناس في كتابه «تشريح النقد» (1957) بقوله : إن نظرية الأجناس الأدبية لم تبارح النقطة التي بلغها أرسطو. ومن هنا كان إسهامه في تطوير هذه النظرية أصيلًا وخلافيًا إلى درجة لم يبلغها مُنظر آخر منذ أرسطو. وخلاصة القول أن المنظور التاريخي لنظرية الأجناس الأدبية قد بيّن أنها مقولة باقية بقاء الأدب نفسه، ذلك الفيض المستمر، وإن أي عمل أدبي، مهما كان موقفه من الأجناس القائمة في التقليد الذي ينتمي إليه، لا يستطيع أن يقطع صلته بها. ذلك أن الأجناس، على حد تعبير (تزفيتان تودوروف )، هي بالتحديد نقاط الأبدال، التي يُعاود فيها العمل الأدبي الصلة بعالم الأدب......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق