الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من بقايا ذاكرة إنسان لاديني...نعمة العقل(4)

حكمت حمزة

2017 / 11 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وصلت إلى المنزل، وأنا في قمة السعادة لأن الله لم يرسل لي أحدا للانتقام، ولأن الناس لم يكونوا متآمرين معه على إخافتي وإرهابي. طرقت الباب، فتح أبي باب المنزل، وعلى وجهه مسحة من الغضب تشوبها رغبة في الضرب والتأديب. لطالما كان ذاك المنظر مصحوبا بذكريات البكاء والألم، واللطمات التي لا بمكمن أبدا أن تضل طريقها، فهي تعرف خدودي جيدا. بمجرد ولوجي داخل المنزل، لم يحتاج الأمر سوى خطوتين، لأفاجئ بزيارة من الصديقة القديمة الجديدة (لطمة محكمة من يد أبي المباركة). ربما تستغربون من تسميتي لها بالصديقة القديمة الجديدة، ولكني أفضل هذا الاسم، لأنها أكثر شيء لازمني في طفولتي ومراهقتي.
" أين كنت يا ابن الـ..." سؤال شديد اللهجة كان صادرا من فم أبي، تبع اللطمة مباشرة. تلك السياسة المتبعة عند الكثيرين من الآباء في مجتمعاتنا، سياسة الترهيب، وحتى الآن لا زال السبب في اتباع هذه التقنية مع الأبناء مجهولا بالنسبة لي، وكأن الكلمة لا تؤتي مفعولها إلا بعد الضربة، ربما نظام اجتماعي سائد، أو ربما تعلموها من خدمة العلم، أو اقتباس عملي لسياسة المخابرات السورية في التحقيق، الضرب ثم السؤال.
بالكاد فتحت فمي لأجيب، ولكن شوق اللطمة الثانية لأختها الأولى، كان أسرع من مقدرتي على تجميع الأفكار والتحدث... بعد التقاء الشقيقتين أجبته، " كنت في المدرسة، ظننت أن اليوم سبت وليس جمعة، ذهبت إلى المدرسة ولكن لم أجد أحدا سوى الحارس الذي بدوره أخبرني بأن اليوم جمعة ثم عدت إلى المنزل". خرجت هذه الكلمات مني بأعجوبة، مقطعة الأوصال، ترافقها زخات دمعية من عيوني نتيجة زيارة اللطمتين الشقيقتين لوجهي. كانت تعابير وجه أبي تنم عن عدم تصديقه لما قلت، و كالعادة فقد أعجبت اللطمتان بوجهي وقررتا الاستقرار واستدعاء كافة أفراد قبيلة اللطمات. خصوصا أن المطر بدأ ينساب من الأعلى، وبدأت أفراد القبيلة بالتوافد، والمطر بازدياد. رغم كل ذاك الضرب، لم يتغير جوابي، وكأني أصبحت روبوتا مبرمجا على بضع كلمات فلا أعرف غيرها.
انتهت مباراة الملاكمة تلك بفوز أبي كالمعتاد، وتصبغ وجهي بألوان الطيف السبعة، توجهت إلى غرفتي
و بذور من الكره والحقد والرغبة بالتمرد تنغرس بداخلي، أحسست بأن هذا الوضع لا يجب أن يستمر هكذا، علي أن أفعل شيئا وأنهي هذه الحالة، الضرب المستمر يزيدني حزنا وألما في كل مرة أتعرض فيها لمواقف كهذه، خطر في بالي ان هناك شيئا ما ينقصني لأقضي على هذا الوضع المزري، لكني لم أعرف ما هو، وبعموم الحال لم أستطع إنهاء هذه المظاهر إلا بعد أ اصبحت في السابعة عشر، بيد أن الوضع أصبح أسوأ، أحداث جعلتني أحن إلى أيام الضرب، التي كانت بالنسبة لي جنة عرضها السماوات والأرض، وهذا ما سنراه لاحقا.
انزويت في سريري كالمعتاد، جفت دموعي فجأة وتوقفت عن البكاء، سكون عم الغرفة، فالجميع مستيقظون يمارسون نشاطاتهم اليومية في الوضوء والصلاة وقراءة القرآن، فقد كان يوم الجمعة، العيد الأسبوعي لكل مسلم، ولا ننسى سورة الكهف، التي تضيء شيئا ما لصاحبها كما كنت أسمع، كانت كل العائلة تداوم على قراءتها، حتى أنا كنت أفعل هذا الأمر، باستثناء ذاك اليوم، لم أقرأ سورة الكهف على غير العادة، والحالة التي كنت فيها ذاك الوقت، تمنعني من الجلوس مع العائلة، إذ أنهم اعتادوا في مواقف كهذه، أن يتجاهلوا الشخص المذنب (بنظرهم)، لا بل يزيدون على ذلك بإلقاء كلمات اللوم و الذم والتقبيح على مسامعه، كأنه اقترف الذنب الذي لا يغتفر، كل الاحتمالات ممكنة بنظرهم، إلا أن أكون صادقا، فبحسب وجهة نظرهم، من غير الممكن أن أكون ناسيا أن اليوم عطلة، لا بد وأني خرجت من المنزل لغاية ما، للتسكع أو لزيارة صديق، أو للعب بالكرات الزجاجية وهي لعبة شائعة لدينا، كل تلك الأمور كانت من المحرمات وفقا لتقاليد العائلة، فنحن عائلة نموذجية كما كانوا يدعون، و أرقى من أن نلعب بالكرات الزجاجية في الشارع، كي لا تفسد أخلاقنا، ولا نسمع الكلمات النابية من ( أولاد الشوارع)، وكأننا لن نسمعها فيما بعد حين نكبر.
فجأة قطعت حالة السكون التي كانت تملأ حجرتي، فتح والدي الباب بعنف، " هيا قم لتنازل طعام الفطور" أجبته بأني لست جائعا ولا أشعر برغبة في تنال الطعام، فانفجر غاضبا وبدأ بالصراخ وإخباري بوجوب تناول الطعام رغما عني، حتى الطعام كان إجباريا عندنا، وبالرغم من عدم وجود أي رغبة بداخلي إلى تناول الطعام، إلا أني قمت مجبرا، فلم أكن أستطيع مخالفة أوامر أبي في ذاك الوقت، حتى ذاك الشعور بعدم الرغبة بتناول الطعام كان شيئا جديدا بالنسبة لي، لا أدري هل هو وليد الصدفة، أم أنه نواة لما يسمى الاضراب عن الطعام للمطالبة بالحقوق كاملة. عندما نهضت من سريري استرسل أبي في الكلام ولكن بحدة أقل قائلا: إذا لم تأكل كيف ستذهب إلى صلاة الجمعة، ستشعر بالجوع ولن تستطيع الانتظار حتى تنتهي الخطبة والصلاة. تمتمت بصوت منخفض: ومن قال لك أني أريد الذهاب إلى الصلاة أصلا. شعر ابي بتمتمتي فقال: هل قلت شيئا؟ أجبته: لا ولكن معك حق فالخطبة تمتد لوقت طويل ويجب أن أأكل.
مشيت وراءه والحزن الشديد يعتريني، حتى الطعام ليس من أجلي، وليس لأني طري العود ويجب أن أتغذى جيدا، بل لأني سأذهب إلى صلاة الجمعة، حتى هذه لأجل الله وليست لأجلي، ألا يوجد شيء لأجلي، ألا أستحق أي ذرة من العطف والمشاعر لكوني أنا كما أنا، بشر يحتاج لغذاء، أو لأني جائع، كل هذا لأستطيع الصمود حتى نهاية صلاة الجمعة، ولأجل من؟ لأجل الله. كنت سأستمر في التفكير بذات الموضوع، إلا أن الخوف الذي عشته ليلة البارحة منعني من ذلك، ففضلت إسكات صوت عقلي ريثما أجد حلا لكل ما يدور فيه.
دخلت الغرفة الرئيسية خلف أبي كي نتناول الطعام، لأستقبل بنظرات باردة وجافة من العائلة الكريمة، نظراتهم إلى جعلتني أرى نفسي مجرما لا يغتفر ذنبه، و حكمت على نفسي بالإعدام لسبب لا أعرفه، كانت قطرات القسوة التي تقطر من وجوههم تمتزج مع الطعام الذي سأتجرعه بعد قليل، ولكن ما باليد حيلة، جلست وبدأت تجرع السم بنكهة الطعام.
من عادة جميع البشر عندما يتناولون الطعام، أن يكون هناك فاصل بين كل لقمتين، أما في ذاك اليوم، كhن أهلي يتناولونني في الفراغ الواقع بين تناول اللقمتين. وكل فرد منهم يتفنن في قهري وإسماعي ما لذ وطاب من الكلام، فهذا يقول بأني لن أنجح في محاولات الكذب عليهم، والآخر يقول بأنه لم يقتنع بأني نسيت أن اليوم عطلة، وتلك تمضغ اللقمة وتخبرني بأن الله سيحرقني بالنار لأني كاذب والمؤمن لا يكذب، والأخرى ستخاصمني ولن تتحدث معي مرة أخرى لأني كاذب، ولوا يمكن أن تتراجع عن قرارها إلا عندما أخبرها
بحقيقة خروجي من المنزل. لم أستطع أن أقاوم كل هذه الهجمات، فبدأت دموعي بالانهمار تلقائيا، أحسست بغصة قاتلة في حلقي، أردت الكلام فلم أستطع، أفهمتهم بنظرة مني أني أحتاج أن يصدقوني لو للحظة وأني مظلوم، لكن أحدا لم يفهم هذه الرسالة، فلغة العيون هذه لا يفهموها، حتى دموعي لم تكن تعني لهم شيئا، بل كأنها وقود انهمر وزاد من ضراوة النار، فأخبروني أن أخبئ دموعي إلى يوم الحساب حيث سأقف بين يدي الله، ليسألني عن هذا الموقف الذي كذبت فيه على اهلي، هناك لن ينفعني الكذب، لأن الله يعرف الإجابة مسبقا، بالنتيجة سيرمي بجسدي داخل تلك الحفرة الملتهبة المخصصة لشواء لحوم البشر.
تلك الصور والذكريات لا زالت ترافقني وتلتصق بي أينما رحلت وحيثما ذهبت، ذكريات موجعة عن الأهل، وعن الله، الذي بت مقتنعا أنه حال وجوده، فهو اختصاصي شواء لا أكثر ولا أقل، ينتظر الانسان على أقل غلطة ليحرقه، وكأنه خلق البشر ليحرقهم، والأحرى به- إن كانت هذه مهمته وهوايته- أن يخلقنا في جهنم مباشرة، فلا داعي لأن نخلق ونعيش تلك الطفولة المزرية ونكافح ونكابد في الحياة، ونضطر لمواجهة كل تلك ا لوحوش البشرية، ثم نعود لنتعذب في الآخرة، وتشوى جلودنا ثم تجدد ثم تشوى ثم تجدد وهكذا دواليك، وبعد كل تلك المعاناة والأقاويل التي تسمعها عن الله، يأتيك من يقول لك إن الله غفور رحيم، وهنا تضطر مرغما للقول سبحان الله، وفعلا يجب علينا قولها ولكن بإضافة بسيطة، سبحان الله كهذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح