الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمر الجزائر الزمن الاشتراكي الفصل الأول1

أفنان القاسم

2017 / 11 / 28
الادب والفن


تردد سعدي في الذهاب إلى دار حسيبة عند المساء. "ربما من الأفضل أن أقلع عن ذلك"، فكر. منذ بعض الوقت في الواقع، لم يعد يحتمل كل تلك اللقاءات الليلية. كانا يلتقيان سرًا، وأكثر فأكثر غدا الاختباء له هكذا شيئًا لا يطاق. انتهى الأمر بما ليس متوقعًا في لقاءاتهما إلى فقدان السحر وقوة الإغراء. لُعَبُ الإرجاء الأولى، الكلمات التي نرغب في نطقها ونُمْسِكُ عنها، الأحاديث التي تقودك إلى الأحاسيس اتفاقًا: لم يعد يبالي بكل هذا. سار بخطى ثقيلة، وهو يفكر في مشاعره التي كانت تموت. فكر في الموت. توقف تحت فانوس، وفكر في كل الذين ماتوا من أجل الوطن. بلا ثمن. ماتوا بلا ثمن. مجانًا. ماتوا كيلا يتركوا من ورائهم غير كل هذا الحزن الذي تَبْيَضُّ منه العينان. كان لدى سعدي إحساس من يشاهد أثرًا من آثار الموت.
توغل في طريق طويل يذهب به إلى القصبة، طريق مستقيم، كأنه الصراط الفاصل بين فردوسه وجحيمه. ماذا سيكون اختياره؟ الفردوس أم الجحيم؟ الجحيم أم الفردوس؟ أصابه الدوار. لم يكن يمكنه الاختيار إطلاقًا. كان أبوه يريده أن يكون قاسيًا، صارمًا. حاصل الكلام أن يكون رجلاً! لكنه هو، سعد، لم يكن يعتقد بذلك. حاول جاهدًا، غير أنه في الحقيقة كان يعلم كونه ضعيفًا، مترددًا، يُؤَثِّرُ فيه أي واحد. سيعلو القمر في كبد السماء، وسيستعد لهزم نفسه شر هزيمة. سيعاني آلامًا كبيرة، الضعفاء والجبناء وحدهم يعرفون احتمالها. أذهلته هذه الإمكانية. كان يسعى إلى حتفه. تَطَيَّرَ من مستقبله. فكر في حسيبة التي كانت تنتظره بفارغ الصبر كل مساء، كسفينة ترسو في الطين كانت تنتظره، وتجعله يسير على الماء حتى ميناء ضياعه.
في زقاق غرناطة، طوقته العتمة. كان يخاف من الظلام: ذُعر طفولته الشديد المَرَضي. أبوه. دومًا وأبدًا. كان يخاف من الظلام لأنه لم يكن يعرف أمه، ولأن أباه كان يرغمه دومًا على إطفاء الضوء قبل النوم. "أنت لست امرأة، سعد!" كان يقول له. "أنت رجل، وأنت لا تخاف من شيء، هل تسمعني، أيها الغائطي الصغير؟ أنت لا تخاف من شيء! من شيء!" كان يتخيل أباه غولاً مروعًا، غولاً أسود، أو شيئًا مشابهًا، غولاً يشبه الليل الأسود، ليلاً من تلك الليالي التي لا تتلألأ في جَلَدِها أية نجمة، فيغمض عينيه، ويبكي. "أنت لست خَرِعًا، يا وليدي، أليس كذلك؟ عُقْلَةُ الإصبع! أنت لست خَرِعًا، أنت لست خَرِعًا!" أخذ سعد يسير بسرعة، كما لو كان يهرب من الغول، من السواد، من الليل، وخطواته على البلاطات الرطبة دون صدى. توقف، وتأوه. حسيبة! يا لها من مجنونة! رجلها، ربها، عالمها: كانت تتوهم أنني كل شيء لها! كانت مجنونة تمامًا! إلى مستشفى المجانين، حسيبة الصغيرة! منذ الوقت الذي توقفت فيه عن حب أبيها، تخيلت أنني رجل حياتها الأوحد. لا توجد إلا لأني أوجد، لأني هنا إلى جانبها، وتكفيها رضىً الساعات القليلة التي أقضيها معها. عالم بأكمله لعدة ساعات. مجنونة تمامًا أقول لكم. ومع ذلك، أنا لستُ من تظن. أنا لست إلهًا، يا بيت البغاء!
استدار ليطمئن على أن ظله يتبعه، لكنه كان بلا ظل. تساقط ضوء باهت، وأرهق الصمت المدينة. كان وحيدًا، وكان يقطع الظلام مع شعور بكونه رقيقًا. في تلك اللحظة، كان باستطاعة الموت وحده أن يحرره. كان في قلب القصبة، فأخذ يصرخ: "ليمت كل الموتى! أنا لا أريد أن أكون امرأة، أنا لا أريد!"
سَيُؤْثِرُ سعدي لو يستطيع ترك الموتى للموتى، فلا يفكر إلا في الهوى. الحب الذي يحلم به، الحب الحلو، الحب السحري، حب الحكايات العجيبة، حبُّ عُقْلَةِ الإصبع. الحب الذي يَفْتِنُ، والذي يجمح جموح الجواد. لكنه كان تعبًا. أمله الخداع. حسيبة، حسيب، حَس، مجنونته الصغيرة، حبه. كانت تنتظره لتلجأ إلى ذراعيه. لكن هو، ماذا كان يستطيع من أجلها؟ ماذا كان يستطيع؟ هو من كان يكظم غيظه، معطَّلاً برجولته، فهل تكون عواطفه إنقاذًا، وذراعاه من طين، هو من أُرْغِمَ على أن يغدو رجلاً؟ رجولته، كان يجرجرها ككرة المحكومين. كانت تمنعه من أن يقول لحسيبة حاجته إليها، أو رغبته فيها. لم يعد يعرف، لم يعد يفرق. كان الإِصَيْبِع، الرجل رغمًا عنه، في حاجة إلى امرأته الصغيرة. "لا تنس. إذا أردت أن تكون رجلاً، إذا أردت أن تكون رجلاً..." فَكَّرَ في هذا الحب الذي يشيخ، الذي شاخ. مع ذلك، لم تكن حسيبة تعلم أن بإمكان الحب أن يموت يومًا. لم تكن تريد أن تعلم. كانت تريد فقط الاحتفاظ بِسَعْدِيِّها. كانت مستعدة لكل شيء. رجته، وطلبت منه الزواج بها، فرفض طبعًا. كان نِير الزواج له أسوأ من نِير الغرام. لم يكن يريد الاختناق. لم يكن يستطيع العيش من أجل هذا. لكن هذا لم يكن يقلقها، هي. كان في وسعها القبول بأقل شيء. إن وافق سعد على البقاء قليلاً قربها، اعتصمت بالصبر. كانت تريد الاحتفاظ به، الإمساك به. لها، قربها. لأنه كان هو، ولم يكن شخصًا آخر. لهذا تبقى في الليل هناك، وهي تمسكه من يده، وهي تنظر إليه. بلا كلل. كانت تخلع خمارها لأجله، وتُبدي وجهها. كانت تعلن تحبيذها إياه، بشكل طبيعي. شيء ضخم لامرأة من القصبة أن تستقبل الرجل الذي تحب في السَّنَى المتكبر لحرمانها. في النهار، يلزمها الاختباء من جديد، البقاء في السر، الاعتزال. خلف حجابها، تصبح المرأة عالمًا من المتعذر بلوغه. لكن في الليل، تَهِبُ كلَّ كيانِها قلبَ الرجلِ العاشق. المرأة هي العالم.


















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى أفنان
نبيـــل عــودة ( 2017 / 11 / 28 - 22:04 )
انتظر النص الكامل...


2 - إلى نبيل: راح تنتظر كتير ربما عام أو أكتر!
أفنان القاسم ( 2017 / 11 / 30 - 14:53 )
النص طويل جدًا حوالي ألف صفحة...


3 - لن أترك إيران حتى تقبل قوس قزح
أفنان القاسم ( 2017 / 11 / 30 - 17:57 )
إلى آدم عربي في الفيسبوك:

سأبقى مع مشاريع المنطقة، وكما سبق لي أن قلت، لن أترك إيران ترتاح مني، ورطتني معها، وسأورطها معي، حتى تقبل قوس قزح، فالواقع الحالي لا يقبل التأجيل، والتناقضات كلها تصب في صالحنا... بس نشر فصول من الرواية من فترة لفترة كي آخد نفس...

اخر الافلام

.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب


.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل




.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال