الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاربة الفساد في العراق أم محاربة داعش .. أيهما الأصعب

جعفر المظفر

2017 / 11 / 28
مواضيع وابحاث سياسية



ليس الأمر بطبيعة الحال معقودا على وجود الفكرة وحسن النوايا وإنما هو بالحتم يعتمد على وجود وسائل وآليات تنفيذها. وفيما يخص محاربة الفساد في العراق فإن وجود حسن النوايا والإعلان عن العزم لا يكفي في ساحة تفتقد إلى آليات ووسائل التنفيذ مثلما تعج بكل اشكال الخروج على المألوف في ما يخص مستويات السرقة والإستيلاء على المال العام.
الواقع أن الدكتور العبادي يعلم قبل غيره أن المعركة ضد الفساد هي في الواقع أشرس بكثير من المعركة ضد داعش. مع هذه الأخيرة لم يكن من الصعوبة تعريف العدو بوضوح وبدقة متناهيتين, كما أن وسائل خوض المعركة ضد هذا العدو وآليات تنفيذها كانت متوفرة إلى حد كبير, والقول أن إنتشار داعش بين الأهالي كان ساهم بتعقيد المعركة لا يلغي حقيقة أن داعش ومنذ الأيام الأولى لإحتلالها المدن العراقية كانت قد كشفت تماما عن وجهها القبيح, وسقطت بالتالي كفكرة وعقيدة.
الحال ان سقوط داعش كان بدأ بعد اللحظات الأولى لإنتصارها, إذ لم تكن هناك إمكانية ولو بسيطة لإستمرارها كطريقة حياة, وفي اللحظات الأولى بعد نجاح الإحتلال تبين لأهالي نينوى ولغيرها من المدن العراقية (السنية) أنها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار, وفيما ظهر ان المعركة لتحرير هذه المدن لم تكن هينة فإن السقوط الأخلاقي لهذه المنظمة الإرهابية قد جعل الطريق إلى سقوطها القانوني والسياسي ممهدا, رغم حجم الخسائر المادية والبشرية التي كان متوقعا أن تؤدي إليها معركة التحرير.
واليوم فإن تحميل أهل هذه المدن العراقية الباسلة, وفي المقدمة منها نينوى, إثم إستقبالهم وإحتضانهم لهذه المنظمة الإرهابية لا يمكن فهمه وإقرار طبيعته من دون مقارنته بالوضع السيء الذي كان سائدا قبل الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 الذي كان قد جعل الكثير من العراقيين على إستعداد للترحيب بقوى الإحتلال ظنا منهم بإمكانية ان يشكل ذلك حلا للأزمات المستعصية التي كان قد خلقها نظام صدام حسين.
خلال عقد من الزمن رأينا كيف تكررت عملية الإستجارة من الرمضاء بالنار, وكيف إستطاعت النار بعدها أن تغير قناعات الذين كانت الرمضاء قد كوتهم وجعلتهم يعتقدون ان النار ستكون باردة عليهم كما كانت على آل إبراهيم, فإذا بهم يكتشفون بعد وهلة أن النار هي النار, كما أنهم لم يكونوا أنبياء كما كان إبراهيم.
لقد خاض العبادي معركته تماما بعد السقوط الأخلاقي لداعش, ورغم الخسائر الهائلة التي تكبدتها عملية التحرير إلا ان اهل نينوى الذين جربوا نار داعش عادوا للقبول برمضاء العماية السياسية, فلعل الله أو القدر يكتب لهم حياة جديدة خارج مساحة هذا الإختيار.
لقد إنتهت مرحلة القضاء على داعش, من دون أن يعني ذلك أن داعش لم تعد قادرة على إعادة إنتاج نفسها ولو باشكال مختلفة وعناوين جديدة, وصرنا أمام مرحلة سياسية جديدة ليس بالإمكان ملئ فراغها ما لم يتم اللجوء إلى عناوين تعادل أو تفوق من حيث الأهمية عنوان الحرب ضد داعش.

لكن القضاء على الفساد, وهو العنوان الذي ترفعه السعودية أيضا, سيبدو تنفيذه حين المقارنة صعبا جدا على العبادي وسهلا إلى حد كبيرعلى محمد بن سلمان. ذلك إن نجاح مهمة كبيرة على مستوى محاربة الفساد لا يكمن في وجود النوايا الطيبة وإنما يكمن في وجود وسائل وآليات تحقيق تلك النوايا.
لنضع الآن جانبا كل وجوه المقارنة بين النظامين السعودي والعراقي إلا بما يخدم العنوان نفسه, اي توفر وسائل وآليات التنفيذ, وسنجد أن كل ما يقال عن قبلية النظام السعودي وتخلفه الديني والسياسي هو الآن في خدمة معركة إبن سلمان, وكل ما يقال عن ديمقراطية النظام في العراق يسلب العبادي كل ما في يد إبن سلمان.
إن الطبيعة القبلية للنظام السعودي التي تضع بيد الفرد الحاكم قوة القانون وتُخْضِع جميع مفاصل الدولة لسلطته وتجعل لكلمته مقام الفصل إنما تضع في يد إبن سلمان كل وسائل وآليات المعركة المطلوبة.
مع العبادي, الأمر يختلف دون أدنى شك, وستكون ورطته مع الديمقراطية تماما كما هي ورطتنا معها, فهو, ورغم أنه يتزعم الجهة التنفيذية للنظام فإن قراراته غالبا ما تكون خاضعة إلى وجود هيئات أخرى ذات سلطة تشريعية بإمكانها أن تعطل القرارات, وقد رأينا كيف أن قراره بشأن إعفاء نواب رئيس الجمهورية قد فشل بعد أن قررت المحكمة الإتحادية بطلانه دستوريا, ثم رأينا أيضا كيف واجه مشروعه الرامي لتعيين وزراء تكنوقراط, من إختياره, صعوبات كبيره أمام مجلس النواب.
أن ذلك وغيره سيجعلنا أمام حقيقة أن الوسائل والآليات التي يملكها العبادي لتنفيذ مهمة خطيرة كمهمة محاربة الفساد هي قليلة وربما تكون معدومة بفعل توزع السلطات.
لقد بدا العبادي معركته ضد الفساد بدعوته الفاسدين إلى تسليم الثروات التي إستولوا عليها من الدولة, وذلك يكشف بالتأكيد عن طبيعة المعركة التي ينوي العبادي خوضها. إن إبن سلمان لم يفعل ذلك. لم يطلب من فاسدي مملكته التفضل بإعادة الأموال المسروقة. إن إحتجازهم في فندق السبعة نجوم لم يتقاطع مع غاية الحجز ولم يقلل القدرة على تحقيقها. وهو لم يوجه رسالته على طريقة إسمعي يا جارة بل ذهب إلى الأسماء الكبيرة نفسها. أما العبادي فهو يعرف قبل غيره ان معركة العراق ضد الفاسدين إنما تبدأ من إلقاء القبض على كبيرهم الذي علمهم السحر, ومن تلك الشخصيات التي لم يستطع بالأمس إقصاءها من مناصبها لأنه لا يملك قوة القانون, ثم تنحدر من فوق إلى تحت, ولا تبدأ بصغار الفاسدين الذين سرقوا أو إرتشوا على طريقة حشر مع الناس عيد وبعد ان بلغ الفساد اشده, بحيث صار كل شيء سيتوقف إن لم يفسد, وكل شيء لا يتحقق إن لم يلجأ صاحبه إلى الطرق غير المشروعة لتمشية أموره.
وفوق كل ذلك والأهم من كل ذلك فإن العبادي يعلم أن الفساد الحقيقي يكمن في طبيعة النظام السياسي نفسه, وإن فساد أشخاصه هو نتاج لخلل وإثم بنيوي في النظام, وذلك في الحق ما يميز فساد النظام الحالي عنه في أنظمة أخرى. مع الأخيرة الفساد على الأغلب هامشي, وهو على الأغلب نتاج أشخاص منحرفين ضمن نظام غير منحرف. بدقة يمكن التعبير عن الإختلاف بالشكل التالي: مع الأنظمة الأخرى, الأشخاص أنتجوا فسادا, أما في العراق فإن الفساد أنتج نظاما. ولا سبيل لمعالجة تتجاوز السطح ولو بقليل أن تقف دون أن تنشب أظافرها بطبيعة النظام السياسي نفسه. هل تتذكرون كيف ذهب المالكي إلى إيران يوم تقلد العبادي مقاليد الأمور بديلا عنه ويوم سرت شائعات حول إمكانية محاكمته بعد إزاحته, وكيف أنه جاء بعدها بشهادات التميز والإستحقاق من الدرجة الممتازة ومزودا بوثيقة تقول ممنوع اللمس.
وحتى المالكي نفسه, والذي لا يمكن لعملية حقيقية ضد الفساد ان تبدأ إلا به. حتى هو, الذي يصنف كأبرز الفاسدين, فإن الفساد ليس من إن إنتاجه وإنما هو نفسه أحد إنتاجات الفساد.
إن وجود أليات ووسائل لمعالجة الفساد هي أهم من النوايا الطيبة والإدعاءات الإعلامية لمحاربته. إن محاربة الفساد في العراق هو بمثابة إعلان ثورة ضد النظام السياسي الفاسد بدستوره وهيئاته الفاسدة إبتداء من سلطته القضائية مرورا بمجلس نوابه ورئاسة جمهوريته ووصولا إلى مجلس وزرائه, والعربة قد تدهس حتى رئيس الوزراء نفسه, ويظل بعد ذلك من الضروري أن نسأل, هل تقبل أمريكا بذلك ؟ هل تقبل إيران بذلك, وهذه الأسئلة لا تأتي هنا من باب الحرشة بل هي تأتي من صلب الموضوعة نفسها, فالفساد في الأصل كان قد بدأ به بريمر وورُسخ بإرادة إيرانية, وكان وراء كل ذلك حساب, وإن أمر محاربته, لو أنه صدر بمشورة أمريكية وبمباركة إيرانية, فسوف تكون مشروطة بضرورة أن يتناول الحافات وأن لا يتحارش بالمركز, ولا مانع أن تجري التضحية برأس هنا وبرأس هناك, حتى ولو كان ذلك الرأس لوزير أو نائب في البرلمان.
ويبقى أن نفهم أن الدكتور العبادي, بطل المعركة ضد داعش, لن يكون بالضرورة بطلا للمعركة ضد الفساد, لأسباب أولها عوزه لوسائل وآليات خوضها, وثانيها أن الحرب ضد الأسماء الكبيرة, والتي لا معنى للمعركة دون الإطاحة بها, تحتاج إلى رجل لا تقيده الإرادات المتفرقة دوليا وإقليميا, أي إلى صاحب قرار وطني حر, وبرفقة ذلك فهي تحتاج إلى رجل يؤمن حقا أن القضاء على الفساد في العراق لا يتجسد في القضاء على شخوصه, وإنما على مرتكزاته أيضا.
ولأن الفساد في العراق هو حالة بنيوية وليست حالة هامشية, فإن الدعوة التي وجهها العبادي للفاسدين من أجل تسليم سرقاتهم تعلن بنفسها على أن المعركة هي سطحية, وهي تتناول أشخاص بدلا من مرتكزات, وهدفها إعادة أموال مسروقة وليس هدفها محاربة الفساد, وسياقاتها إرضائية وتوفيقية سيتم من خلالها التنازل عن مبالغ بعينها.
وبالنتيجة فأن من الصعوبة قيام معركة حقيقية ضد الفساد, والأمر كما أراه سوف يُصاغ بطريقة تُمَكِّن النظام السياسي الفاسد على عبور المرحلة القادمة بأمان حتى لو كانت الكلفة بعض خدوش على السطح.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية


.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر




.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع


.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام




.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب