الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبرا إبراهيم جبرا ما له و ما عليه

مهدي شاكر العبيدي

2017 / 11 / 30
الادب والفن


جبرا إبراهيم جبرا
ما له و ما عليه
في كتابه الموسوم (النار والجوهر) ، ينبري جبرا إبراهيم جبرا لتقييم التجربة الشِّعرية التي عبَّرَ عنها صديقه الفلسطيني توفيق الصائغ ، فيبين عنه وكأنـَّه الضَّحية لعزوفنا عنه وزهدنا في قراءة شعره ، ويروح مستعرضا ً اغترابه في عواصم الغرب وإلمامه بأكثر من جامعة من جامعاته محاضرا ً ، مشبها ً إياه بالمسيح المطارد بعد نزوحه من وطنه وهو يغالب شتى الكوابيس والضُّغوط النفسية مبتليا ً بالعداوات والمنافسات المتجنية ، كأي فرد متميز بكفاياتهِ وطاقاته ، وبعد كلام مفيض يمتزج فيه الشعر بالنثر والخواطر الوجدانية البينة الواضحة بالعبارات الغامضة العسيرة على الفهم ، لكنـَّها تفلح في توظيف عاطفتنا نحوه وانتزاع الاعتراف له بنقاء السَّريرة ونأيه عن كلِّ ما يشين أو يغضُ منه ، ويخلص إلى اتفاقه مع منظمة حرية الثقافة على إصدار مجلة اسمها (حوار) ، وقرَّر أنْ يجعل منها أفضل مجلة عربية على الإطلاق.

وكذا انصرف بكليته لإصدار المجلة طوال أربع سنوات ونيف ، كما شهد القرَّاء العرب ذلك منذ بداية الستينيات ، وقد تداولوا مجلة لها كلُّ مواصفات المنجز الثقافي الرَّصين المعتنى بطباعته وإخراجه بشكل جيد ، من ورق أبيض ناصع مصقول ، وترتيب وتبويب متقن وحسن لموضوعاتها ، فضلا ً عن رصانة هذه الموضوعات وجدتها وتميزها مستعينا ً بالمواهب والقدرات العربية الجديدة والواعدة ، غير مصروف عن الاحتفاء بنتاجات الرواد الأوائل من آن ٍ لآن ، غير أنَّ المجلة التي استنفدَتْ أيامه ولياليه واستهلكتْ نشاطه وحيويته ، وجنى منها بعض المتع والمباهج المشوبة بالعذاب والسهر والضنى ، سرعان ما هددَتْ بتشويهه فطالته المغامز من شتى الجهات والأنحاء ، ولما أصدر بيانه في أيار عام 1967م ، عن إغلاقها طالب الأمة العربية بمَنْ يتبرع لتمويلها بغية إصدارها من جديد.

والغريب أنَّ الراحل جبرا إبراهيم جبرا لمْ يشرْ في مداخلته إلى اغتراف توفيق الصائغ نفسه السُحت المحرم نتيجة ارتباطه وتبعيته لجهات مجهولة والتي هي مصدر التمويل والإنفاق وتخصيص المكافآت السخية الطائلة لكتابها لقاء مقالاتهم وبحوثهم من الذين توفق في استدعائهم واستقطابهم للنشر فيها ، وألمع إلى ما توهمه من مطالبة الأمة العربية بتمويله لتوالي الصدور مرة ثانية ، لكن كيف يبادر المواطن العربي من أيما رجأ أو جهة للجود بما يمتلك ؟ ، أليستأنفَ الرضا بامتهانه وازدرائه ، ويستقبل هذه العينة من المطبوعات والأدبيات الغامضة التي يخالطها شيء كثير من الدس الرخيص ، وسط هالة من التضليل والخداع ، إمعانا ً في تشويه فكرنا وثقافتنا وتراثنا ؟.

ويعتد جبرا هذه المطالبة حقا ً مشروعا ً لا غبار عليه ، لاسِيما أنَّ الشاعر يفعل ما فعله في سنيه السوابق يوم رفع يديه وعينيه صائحا ً : "أعني أعني" ، وهذه المرة لم يعنه أحدٌ ، والتوجه هذا كما لا يخفى نحو المصلوب ، كي يقذف بنا وسط جو كارب من الأسى والتفجع.

وآلتْ (حوار) وصاحبها لهذا المآل في شهر أيار عام 1967م ، يوم أخذ الحاكمون العرب يتجهزون لخوض المنازلة الحاسمة مع إسرائيل والتهب الشارع العربي بنداءات الاستنفار وتأجيج مشاعر الغضب والحماسة في وجدان الجمهور وتوعيته ، غير أنَّ النتيجة جاءَتْ مخيبة للآمال والتوقعات ، وهنا يحسن جبرا تطويع الكارثة المؤسفة ، فيجلو توفيق الصائغ الذي رهن مصيره بالغرباء و الأباعد وعوَّل على فتاتهم وأعطياتهم ، وهم الذين مكنوا اليهود من اجتياحنا واغتصاب ديارنا ، قلتُ يجلوه مواطنا ً مرزوءا ً بالإحباط والانخذال بعد أيام نكسة حزيران لتضع وقرها السَّاحق على قلبه مع الأوقار الأخرى.

ومن نافلة القول تذكير القارئ بالنهاية الأليمة لهذا الشاعر المنكود حيث عثر عليه جثة هامدة في أحد المصاعد لعمارة في الولايات المتحدة الأمريكية غبَّ وقائع حزيران بأيام قليلة.

وبعد فليسَتْ مجلة (حوار) أفضل المجلات العربية على الإطلاق ، أو لم تعرف حياتنا الثقافية المتجددة يوما ً ما مثل هذه المجلة ، بل هي فورة من النشاط ورغبة في إثبات الوجود ما تني أنْ تفتر ويعتريها الحصر والنضوب ، لكن قد تكون مجلة (حوار) أسبق المجلات العربية إلى تبني مآرب الطامعينَ في هذه الربوع واستعباد شعوبها وطمس ما لها من ميراث تعتز به وأصالة تحرص عليها.

ذاك هو الملمح السلبي في المسار الأدبي لجبرا إبراهيم جبرا.

لكن هل عدم الإيجابيات من المواقف التي تزينه و تجمّله ؟ لنرَ !

فقد أذكر لقائي ذات يومٍ في منطقة السيدية ببغداد بمواطنٍ فلسطيني على شيء من الإلمام الثقافي ببعض الشؤون و الإحاطة بملابسات و موضوعات شتى ، فحدثني عن أدباء فلسطين و ما يصطرع به وجدانهم من أملٍ و توقٍ و تمني العودة لديارهم ، و جاء ذكر إبراهيم جبرا فانتقده لأنه يخال تراث العربية الذي يمعن لفيفٌ من أبنائها في تدارسه و إحياء الدارس من شواهده ، هو السبب الأول في نكوصها و تخلفها ، و من الخير لها أن تنهج في استحصال ثقافتها غير هذا النهج العقيم المكرِّس للتقليد و الصارف لها عن التجدد و اللحاق بالحضارة ، فتصديت له رافضاً و جاباً لهذا التقول ، إذ الأحرى أن نقرنه بالأديب المصري سلامة موسى الذي كثيراً ما جهر بعدم مناسبة أدبنا القديم لمشكلات ظرفنا الحالي ، و ليس لنا إلا أن نؤثر الأسلوب المباشر عند التعبير عن آرابنا و رغابنا ، أي نتوخى البيان الهادف إلى المراد و الغاية قبل أن نهتم بزركشة الألفاظ و تنميقها ، و هذا كلام بيِّن الخلط بين ما يُقبل من المسلمات و بين ما تصدف عنه الأفهام منها ، لكن سلامة موسى يباين هذا النزوع و ينقضه بنفسه ، فطالما أعلن أنه لم يدع كلمة للجاحظ لم يتفرس فيها و يقرأها ، أو لم يستقرِ كلفه بتخيرها دون سواها من مفردات لغتنا ، كي يستخدمها في عبارته ، و لعل كتابه السائر (تربية سلامة موسى) حافل برصيده من الأدب الإنشائي المستجمع للصياغة المتفننة و المضمون المتوضح ، نتيجة تأثره بطريقة السلف في ترصين بيانهم ، و يشاكله جبرا إبراهيم جبرا في هذا المنحى ، فمحال أن يواتي اللفظ كاتباً بمثل ذينك الدفق و الجيشان اللذين نلحظهما غالبين على فصول كتاب (النار و الجوهر) و رواية (السفينة) و غيرهما من آثاره و كتاباته ، ما لم يكن في سوابق أيامه قد انصرف لقراءة الأدب القديم و انتفع منه بأن انصقل ذوقه و سلس أداؤه.

و ثمة نشاطات و صنائع إيجابية أخرى تكشّف عنها جبرا إبراهيم جبرا ، منها جوسه في مكامن صديقه الحميم جواد سليم الذي متَّ له بصحبة وشبه امتزاج و توافق في المشارب و الميول لأول دخوله العراق و انغماره في الوسط الثقافي مع الاحتفاظ و الابقاء على مسافةٍ بينه و بين عموم الأدباء ، و هذا تصرف حسن و جميل ، ففي كل عصر و جيل و في سائر البلدان العربية أخلق بمن يحترمون أنفسهم تجنيبها تحمُّل ثقلاء الظل من مدعي الأدب ، فكتب في كفاحه الفني أنفس دراسةٍ مستقصية و مستقرية أعمال جواد سليم النحتية و البواعث الخافية التي استوجبتها و ألهمت بها ، نشرها بمجلة (أصوات) الصادرة بلندن لمحررها المستشرق المعروف دزموند استيوارت و الذي خبر حياة العراقيين زمناً و عُهد عنه فرط كلفه - من باب التظرّف و اللطافة - بالألفاظ البذيئة التي تنقذف من أفواه العوام و البسطاء أثناء شجارهم و عراكهم ، و من نشاطاته كذلك و لو في وقتٍ متأخر و بعد طول تعامٍ و إغضاء تقصيه في مواقف الشاعر محمد مهدي الجواهري و مناكداته للحاكمين المتعاقبين قبل حركة تموز و بعدها ، فما الذي يبتغيه و ينشد تحققه يوماً من المقاصد و الغايات؟ أحقا أن أولاء الزمر من المسؤولين عن مصائر الناس و معائشهم ، قد نقضوا العهد و أخلوا بالذمة ، و هو وحده الطاهر الذيل و المتجرد من أيما غرضٍ و مطمع في شكاته المستدامة من استشراء الفساد و هدر الحقوق و مصادرة الحريات؟.

و ذا لونٌ مبتدع من البحث غير مسبوق به يوماً ، جلّى فيه جبرا إبراهيم جبرا بلغته الرصينة مقترنةً باندفاعه و تحمسه لتبكيت الحاكم مع تحاشيه توظيف شعر الجواهري لإشهار مزايدات هذا الرعيل السياسي أو ذاك على القضية الوطنية ، غير أنه لا يُعّفِي أو يصرف الأذهان عن التفكر في حالة السكون التي رانت على حياته (وعلى حياة عقلاء المثقفين المتزمتين و أحلاس المقهى البرازيلي في شارع الرشيد) خلال الأشهر الأوائل التي أعقبت حركة تموز تلك التي استحالت اليوم من (مجيدة) و (غرة في النضال السياسي) الى موضوع جدل و مماحكة و ملاحاة ، أكان يجب أن تحدث ؟ أم لا احتياج لنا بها أصلاً ، و في هذا اللدد ثمة تزكية لما قبلها.

كما أثنى عليه الكاتب عبد المجيد الشاوي ثناءً مبرأً من أيما غرض أو مصلحة ، و امتدح سوائيته و رفعة أخلاقه و ذلك من خلال لقاء و مكالمة صحفية معه بحكم أنهما اشتغلا قبل سنين في تحرير مجلة (العاملون في النفط) التي تصدر عن شركة النفط في كركوك قبل تأميمها و على سبيل الدعاية و الإعلان عن مجهوداتها المتوالية في مجال ترقية الصناعة النفطية و تطويرها و كانت صفحات عدة من كل عدد مخصصة لموضوعات ثقافية و مواد أدبية من النوع الراقي تلتقي عندها أقلام كتاب متميزين من البلدان العربية كافة ، سواء بأصالة نتاجاتهم أو تفردهم بنمط تعبيرهم.

و يعن لي التنويه بثقافة الشاوي رحمه الله ، و تخصصه بالموضوعات التاريخية و التراثية التي يتناولها و يُعنى بربطها بقدر ما يستطيع بحاضرنا الماثل ، و نادراً ما يدرك شأوه في المجال ذا واحد من المتشادقين بسعة إطلاعهم و غزارة ثقافتهم و من الذين تهيأت لهم فرصة لبسط ظلهم في الحياة الأدبية فأغتنموها مع ما ساعفهم في ذلك تهافتهم و كلفهم بالشهرة و تدرعهم بشيء من المخاتلة و الدجل بحيث حالوا بين ذوي الابداع الحقيقيين أمثال عبد المجيد الشاوي و غيره و بين أن يصاقبهم الجمهور و يمتثل بهديهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - توفيق صايغ عبقري الشعر الحديث
احمد صالح سلوم ( 2017 / 12 / 1 - 02:03 )
توفيق الصائغ احد اهم الشعراء وحسنا فعلت بكتابتك هذه المقالة فلم اقرأ له من قبل ووجدت ان اسلوبه كما ذكره جبرا ابراهيم جبرا بدقة ولغته كما وصفها جبرا وهو لايجتر اي موروث سلفي شعري عربي سواء جاهلي ما قبل الاسلام او بعده بل يقدم قصيدة متألقة وتطالب من يدخل اليها ان يفكر ويتعمق في دائرة الاشتغال العقلي مع توظيف الحسي بشكل ابداعي..وجبرا لايحتاج شهادة احد يكفي انه كتب مع الروائي الكبير عبد الرحمن منيف رواية مشتركة وانه افضل من ترجم ادب شكسبير فمن اطلع وقدم هكذا ادب بكل هذه العبقرية اللغوية ينبغي ان نقف له احتراما ولمنجره وايضا لنقده الادبي ..فهم لم يتحول الى موائد البترودولار وجرائدها الكويتية الصفراء كالزمان وغيرها وكان .كما توفيق الصائغ همه الاشتغال بعمق على قصيدته وادبه وترجماته كما انه توفي عام 1971 وافضل ما فيه انه لم يلتفت الى شعر تروجه محميات التخلف السعودي الخليجي على انه معلقات ولا لهذه الصياغات المفبركة واهتم بمنجز عصري مركب يمتع من يقرأه فشكرا لتوفيق الصايغ ولهذه اللغة الشعرية التي قدمها و جمالها وفرادتها وشكرا لجبر الطيب والجميل ادبا لأنه انصف عبقري الشعر الحديث توفيق الصايغ ا

اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته