الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القديسة فيرينا ابنة مصر أم الدنيا

مهند طلال الاخرس

2017 / 12 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تعتبر مصر رائدة فكرة العمل الطبي الخيري، وهذه الريادة الطبية تنسجم مع دور وتاريخ وموقع مصر منذ نشأة الخليقة، ويلحظ هذا الدور بشكل بارز في العصرين الروماني ومن قبله الفرعوني، وقد تجيب هذه الريادة ايضا على احد الاسباب والسر الكامن وراء إطلاق التسمية المشهورة"مصر أم الدنيا".

في دراسة جامعية للدكتور محمد عبدالشافى محمد محمود المغربي، الأستاذ بكلية الآداب بقنا جامعة جنوب الوادي، في هذه الدراسة أكد أنه فى عصر الدولة البيزنطية شهدت قنا تقدماً علمياً كبيراً فى مجال الطب.

وتشير كثير من المصادر إلى مهارة المرأة المصرية في العصر البيزنطي فى تركيب العقاقير المستخرجة من الأعشاب الطبية، ومن أبرز النساء الماهرات فى ذلك الزمن وهذه المهنة كانت فيرينا، التى حظيت بأوسع شهرة وأطيب سيرة، وقد رفعها الجميع فى عصرها، بسبب عملها الإنساني الرائع، إلى مرتبة القديسين.

في إحدى قصائده، لعلها «إلى شعبي في يناير» يقول بابلو نيرودا: «كثيرون قد نسوا، وكثيرون قد ماتوا، وآخرون لم يكونوا قد ولدوا بعد، أما انا فلم انس ولم أمت». النسيان الذي يعنيه الشاعر هنا نوع من آخر من النسيان، من النوع الفتاك حين يصبح المطلوب هو تغييب الذاكرة الجمعية للناس وعزلهم عن تاريخهم أو عزل هذا التاريخ عنهم.

وفيرينا هذه قديستنا المنسية نشأت فى قرية جراجوس بمركز قوص فى قنا، حيث كان تعليم الطب فى ذلك الوقت رسالة ودورا يتم تسليم رايتها من جيل إلى جيل لتأدية رسالة الطب والتطبيب والقيام به.

كانت فيرينا ضمن وفد من الأطباء والممرضات المصريات اللاتي صحبن الكتيبة الطيبية، التى أرسلت بأمر من الإمبراطور ماكسيمان إمبراطور الغرب على عهد الإمبراطور دقلديانوس إلى أوروبا (فى المكان الذى تمثله اليوم حدود فرنسا وسويسرا وبلجيكا) للقيام بالأعمال الطبية، وكان الإمبراطور ماكسيمان، أباد هذه الكتيبة، لرفضها مشاركته التبخير على كهنة المعبد وتقديم العبادة للآلهة، وقام بتسريح الممرضات، وفضلت القديسة فيرينا البقاء مع مجموعة من العذارى فى كهف صغير، وكانت تقوم بأعمال التمريض وحياكة الملابس سراً.

بعد إستشهاد أفراد الكتيبة الطيبية ال 6600 لم ترجع فيرينا إلى مصر ولكنها ذهبت الى سولوتورن بسويسرا وقد ارشد الله فيرينا ان تسير فى إتجاه جبال الألب السويسرية واعتكفت فى كهف ضيق بشمال سويسرا "الحدود بين المانيا وسويسرا" مع مجموعة من الممرضات والخادمات اللائى قدمن معها من مصر، وكانت فيرينا تجيد حياكة الملابس وتطريزها فساعدتها امرأة عجوز كانت تسكن بجوار كهفها على بيع عمل يديها وشراء الطعام ولوازم الحياة لها ولكل الفتيات معها، وبدأ الأهالى يتعرفون عليها تدريجيأ وبدأت فيرينا تتعلم لغتهم حتى أجادتها أجادة تامة.

وكانت تخدم سكان المنطقة من خلال معرفتها بالتمريض ودرايتها بفوائد بعض الأعشاب واستخدامها كعقاقير لأمراض كثيرة، وعلمتهم النظافة الجسدية بالأغتسال بالماء مصحوبة بصلاة حارة من أجل شفاء جميع الأمراض، وقد توافد عليها بعض القريبين من الكهف الذى تعيش فية ومن خلال صلواتها وايمانها صنع الله عجائب كثيرة على يديها وشفى مرضى كثيرين، وكانت القبائل التي تعيش فى هذة المنطقة لاتزال تعبد الأصنام وتشيد تماثيل متعددة للألهة ولكنهم بعد أن رأوا فيرينا وايمانها بدأوا يتطلعون الى معرفة الهها فعملت هي والفتيات على نشر تعاليم إيمانها المسيحي فى تلك المنطقة.

وعلم أحد الحكام بعمل وإيمان فيرينا وتأثيرها على من حولها فغضب عليها واستدعاها وتوعدها ثم اودعها السجن عدة ايام، وفى ليلة أصاب الحاكم الروماني حمى شديدة حتى شارف على الموت، فأرسل الى القديسة فيرينا راجيا اياها الحضور اليه . حضرت القديسة فيرينا الى الحاكم وصلت ووصفت له الدواء، فخرجت الحمى من جسدة وشفى تماما وخرجت فيرينا من السجن ورجعت الى مكانها فى الكهف مع زميلاتها وتابعت مسيرتها.

انتقلت القديسة فيرينا الى السماء فى 1 سبتمبر سنة 344م ، عن عمر يناهز 64 عاماً، ويعد هذا اليوم عطلة رسمية تحتفل فيه المؤسسات الرسمية وأفراد الشعب السويسري بإقامة المعارض والحفلات الموسيقية وزيارة الأماكن التاريخية التى ترتبط بالقديسة المصرية.

تُرسم أيقونة القديسة فيرينا وهى تحمل مشط وجرة ماء فى يديها وهذا للدلالة على طبيعة خدمتها والعمل التى كانت تقوم به. وعند منتصف الجسر المقام على نهر الراين بين سويسرا وألمانيا يوجد لها تمثال وهي تحمل جرة بها ماء. ويعتبرها كثير من المؤرخين أم الراهبات في أوروبا، وتوفيت سنة 344 ميلادية، وبنيت فوق جسدها كنيسة في مدينة تمبورتاخ بسويسرا، ولها 70 كنيسة في سويسرا، و30 كنيسة في ألمانيا تحمل اسمها.

الكثيرين منا لا يعرفون القديسة "فيرينا"Verena وسيرتها العطرة والراسخة في اذهان التاريخ والباقية ما بقي الزمان وإن وهن أصحابه وأصابهم الجزع. ولكل منا من إسمه نصيب، وهي كذلك، فاسمها بالقبطية "البذرة الطيبة او الثمرة الطيبة"، وترسم أيقوناتها دائماً بشكل فريد، ففي إحدى يديها جرة ماء وفي الثانية مشط، لأنها هي التي علمت شعوب الجرمان والغاليين وهم "الهمج وقتها" أصول النظافة الشخصية والتداوي بالأعشاب، ونجحت بالحب والتفاني فيما فشلت فيه سيوف الرومان بأن تجتذب الشعوب الجرمانية الوثنية القاسية إلى الحضارة والإيمان بالله.

القديسة فيرينا؛ ترجع بداية قصتها إلى زمن الملك الروماني الوثني دقلديانوس الذي جاء مصر في نهاية القرن الثالث الميلادي فأحسن أهلها استقباله، وأقاموا تكريماً له نصباً شهيراً مازال قائما في مدينة الإسكندرية.

وكان جيش دقلديانوس حينها يخوض حرباً طاحنة في بلاد الغال، وأراد أن يأخذ من أقباط مصر مدداً، فجمع أكثر من 6 آلاف شاب جعلهم في جيشه، وأطلق عليهم اسم "الكتيبة الطيبية"، نسبة إلى مدينة طيبة العاصمة الفرعونية القديمة.
كما أبدى المصريون حينها شجاعة فائقة في قتال أعداء الملك حتى انتصر، فأمر دقلديانوس بأن تقام الاحتفالات، وأن يحرق الجنود البخور لتمثاله فهو الملك المنتصر، ولكن أقباط "الكتيبة الطيبية" رفضوا أن يتعبدوا للملك ويحرقوا البخور له، فهم يؤمنون بإله واحد في السماء، فغضب الملك وأمر بأن تقف الكتيبة صفوفاً ويمر الجلاد بينهم، وبعد كل 9 جنود يجلد العاشر، ثم تقطع رأسه، ولكن الباقين ازدادوا إصراراً على إيمانهم، وظل الملك يكرر الأمر حتى اضطر أن يقتلهم جميعاً في النهاية، لأنه لا يوجد من بينهم قبطي واحد رجع عن إيمانه.

القديسة فيرينا القبطية المصرية كانت من الفتيات المصاحبات للكتيبة الطيبية لإعداد الطعام وعلاج الجرحى، ورغم أنها شاهدت المذبحة التي وقعت لأهلها إلا أنها هربت وبقيت في أرض الغربة، فسكنت أحد الكهوف، وأخذت تعلم أهل بلاد الغال الوثنيين قواعد النظافة الشخصية والعلاج بالأعشاب الطبية.
كما أنها كانت على معرفة واسعة بأصول الطب القديم الموروث من أيام الفراعنة، وهو ما أعانها على مساعدة المرضى.

"لقد قابلت الإساءة بالمحبة، والدم بالتضحية، فمنحها الله لمسة شافية، وكانت سبباً في بدء التبشير بالميسيحية بين أهالي المنطقة.
لقد انتصر الحب على السيف، ودم الشهداء على صلف الملوك، وما فشلت فيه سيوف القيصر نجحت فيه جرة "فيرينا" ومشطها".

هذه النماذج الرائعة يجب أن تكًُون جزءا حيويا من ذاكرتنا الشعبية ومعلما حيويا لشبابنا لدفع مسيرتنا العلمية والمعرفية والانسانية إلى الأمام ولإنهاء درب الأوهام والآلام.

هذه النماذج الرائعة في تاريخنا المتقد عطاء يجب ان نزيل عنها غبار التاريخ، وأن نخوض معركتنا مع النسيان إن جرأ واقترب منها، ويحضرني هنا مقتطفات مما قاله بهذا الصدد أحد المفكرين: "إن مقاومة النسيان تصبح هي الخط الأخير من دفاعاتنا، ... الذاكرة مقدمة ضرورية للوعي، والوعي مكمن الإرادة، وهذه معركة نستطيع أن نكسبها .. إن أبواب الذاكرة هي نفسها أبواب المستقبل."

حاملو أسماء شوارعنا من صانعي تاريخنا وثقافتنا يحرسوننا، وعيونهم ترنو إلينا كل يوم وكل ساعة لترى بلهفة أين أصبحنا في مسيرة التحرير وبناء الوطن ونحو إلتصاقنا بإنسايتنا أكثر. ولكننا مطمئنون، فأرواحهم علمتنا ضرورة إبقاء جذوة الأمل مشتعلة.

تبقى سيرة القديسة فيرينا وأمثالها ممن صنعوا التاريخ، وكتبت فيهم الاساطير، ووهبوا العالم شتى صنوف العلم والمعرفة، وصدروا لهم المحبة والتسامح، تجسيد حي على استحقاق مصر تسميتها المشهورة " مصر ام الدنيا".









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت