الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيناريو آخر للثورة البلشفية كان يمكن أن ينجح

سامح سعيد عبود

2021 / 10 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


سامح سعيد عبود
انفجرت ينابيع الحلم والثورة في مثل هذه الأيام منذ مئة عام، لتغمر وجه الأرض القبيح والملىء بالشرور، لكن سرعان ما انحصر فيضانها حتى أسفر وجه الأرض عن نفس القبح والشرور، بل تبدو الآن أكثر ركودا وعفنا عن ما قبل، ولا يكشف سطحها الهادىء والمستسلم في يأس، بعد انحصار المد، عن ما يمكن إن يتكرر مرة أخرى فربما تكون الينابيع قد جفت للأبد، وربما أنها تمور بالغضب الوشيك على الانفجار، فهل تكرر ما فعلته من قرن، أم انها كانت مجرد براقة أمل وحيدة ونادرة في التاريخ الأسود للبشر لن تتكرر؟
الحقيقة إن الثورة كانت متوقعة في أى لحظة قبل أن تحدث، وكثيرون قد كتبوا سيناريوهات لها، لكن التاريخ لم يكتب سوى لسيناريو واحد أن يتحقق، وهو ما كان مقدرًا له أن يفشل حسبما كتب الآخرون. نعم سيناريو آخر للثورة كان يمكن أن ينجح إلا إنها ضربات القدر التي لم تمنح الفرصة سوى للبلاشفة.

أفكار للمراجعة

ربما ستكون أفكار هذا المقال مخالفة لأفكار أخرى ظللت أحملها لفترات طويلة، فهكذا هى الحقيقة دائما صعبة المنال، تتلاعب بنا أوجهها المتعارضة ومظاهرها المتناقضة أحيانًا، وقد ظلت الإجابة عن طبيعة الضوء هل هو موجي أم جسيمي، محل خلاف بين علماء الفيزياء على مدى ثلاث قرون، حتى حسم اينشتين النزاع باكتشاف أن للضوء كلتا الطبيعتين فى نفس الوقت، حيث كان كل فريق من بين فريقي العلماء يركز بصره على طبيعة دون الأخرى، ليرى وجه دون الوجه الآخر من الحقيقة.
أحد هذه الأفكار هي أنه عند عجز أو ضعف البرجوازية عن أداء مهامها التاريخية وعلى رأسها تطوير قوى الإنتاج، أو عند وقوع هذه البورجوازية فى أزمة ما تهدد وجودها ذاته، فإن الدولة تتدخل بطرق متباينة، لتؤدي بعض المهام، آو لحل أزمة تلك البورجوازية.
إن أشكال تدخل الدولة أيا ما كانت هي ذات طبيعة مؤقتة، أو هي مرحلة انتقالية بين مرحلتين فى إطار النمو الرأسمالى، وغالبًا ما ينتهى شكل التدخل نفسه من خلال نفس البيروقراطية التي حلت محل البورجوازية، فنجد قطاعا منها هو الذي يقود عملية التحول إلى الخصخصة وانتزاع المكاسب الاجتماعية من الطبقات الشعبية (جوربا تشوف فى الاتحاد السوفيتى- السادات فى مصر- دينج هيسياو بنج فى الصين).
الفكرة الأخرى أن ظروف الإنتاج الرأسمالي مع نهاية القرن العشرين قد تجاوزت أطر الدولة القومية، ما ساعد على زوال كافة أشكال تدخل الدولة (الاشتراكية)، باعتبار أنها أشكال تجاوزها التاريخ، وإلا كان هذا السقوط المدوى لمعظم هذه الأشكال، وتأزم بعضها، والتحول الجوهرى للبعض الآخر بالرغم من استمرارهم فى رفع نفس الشعارات القديمة، هو على سبيل القدر المأساوي غير المفسر. فهل يسير التاريخ وفق قوانين موضوعية أم وفق عبث لا ضابط له ولا رابط، أو من خلال التآمر الخياني؟
هذين الفكرتين كانت نتيجتهما المنطقية أن الاشتراكية الحقيقية هي إمكانية موضوعية، لا تتحقق إلا على أساس مستوى عال من تطور قوى الإنتاج، وتحقق وفرة كافية لتوزيعها على الناس، وأن أى محاولة لإقامة الاشتراكية على بنية تخلف محاولة خيالية ستنتهي لشكل من المجتمع لا هو اشتراكي أو رأسمالي.

اشتراكية دون وفرة

ولكن هل ما استنتجته كان صحيحًا على إطلاقه؟... هل الأفكار الاشتراكية التي تقول ان العالم الآن (ومنذ القرن 19) أصبح ينتج ما يكفي احتياجات كل البشر صحيحا! أنا أعتبر هذا الحديث مجرد نكتة لأن العالم دائما وأبدا باستثناء فترات الكوارث الطبيعية كان ينتج ما يكفي احتياجات كل البشر في هذا الوقت أو ذاك بل كان دائما ينتج فائضا بدليل النمو المستمر في نسبة الفئات غير المنتجة للمنتجات المادية: القائمين بالعمل الذهني، والذين كانوا دائما يحصلون على احتياجاتهم.
الفكرة الأغرب هيَ القائلة بأن للبشر احتياجات ضرورية محددة، فالاحتياجات البشرية الضرورية تتزايد باستمرار، ويجد الناس أنفسهم مدفوعين للتطور، وزيادة الإنتاج لتلبية هذا التزايد.
الفكرة الغريبة الثالثة هيَ حكاية أن المبدد من الإنتاج حاليًا أو في عصر الرأسمالية يكفي لسد حاجة الفقراء، فهذه الظاهرة قديمة جدًا وبدأت منذ فجر التاريخ المكتوب، فكانت هناك دائما مصروفات عسكرية وأمنية خصوصا مع نشوء الدولة، وتبديد لقوة العمل في إنتاج أشياء تافهة مثل الأهرامات كمثال، ناهيك عما كانت تخربه الحروب والصراعات الاجتماعية.
هل تضخم الإنفاق العسكري للاتحاد السوفيتي السابق، وتكثيف الموارد الطبيعية والبشرية في الإنتاج العسكري حتى وصل به الحال أن يمتلك أسلحة تدمر العالم 48 مرة، غير ما أنفقه على برنامج الفضاء، كان يعنى إنه كان يعانى مشكلة ضعف الإنتاج وتدهور قوى الإنتاج ويعانى من الندرة، بما لايتناسب وإقامة الشيوعية؟.. تلك الندرة التي فسروا بها طوابير البشر على أبواب المحلات، المحرومين عن عمد لتوفير احتياجاتهم الأساسية.
هل يفسر ضعف الإنتاج ندرة الطعام على موائد الناس فيما تتوافر القنابل في معسكرات الجيش، مما أنعش السوق السوداء وأعمال المافيا؟ أم أن المسألة في النهب الطبقى، وسوء إدارة الموارد والتوزيع، والحرمان المفتعل الذي عاناه الناس، كى تستمر عبوديتهم المأجورة.
ومعنى هذ الكلام هو نسف منطقية وعلمية تطور المجتمعات وتسلسل مراحله وفق تطور قوى الإنتاج حسب الرؤية الماركسية، وأن الشيوعية كانت ومازالت ولا تزال إمكانية كامنة في الواقع، تعوقها فقط مصالح وقوى اجتماعية معادية، ويعوقها الوعي الاجتماعي الذي لا يتصورها، ولا يرى إمكانيتها، ولا يتحمس لها بشكل كافٍ، إمكانية غير مشروطة لا بوفرة في الإنتاج ولا بمستوى معين لتطور قوى الإنتاج، ولا بالقضاء على الندرة المفتعلة غالبًا، ولا بزيادة الإنتاجية التى يتحججون بها لعدم تحققها.
الدليل الأهم على ذلك أن الشيوعية في شكلها البدائي ميزت المجتمعات البشرية في العصور الحجرية حين كان الإنتاج بلا فائض، والإنتاجية ضعيفة من اليد للفم، وإن الانقلاب الطبقي والسلطوي في حياة البشر، حدث بمجرد تزايد القدرة الإنتاجية، ونشوء الفائض الذي استولت عليه القلة حارمة الغالبية منه كى تجبرها على قبول العبودية، وليس أبدًا بسبب ضعف القدرة الإنتاجية، وهو ما حدث تماما في التجربة السوفيتية وشبيهتها.
يفسر بيتر كروبوتكين، أحد أهم المفكرين الأناركيين، فشل كل الثورات في العصر الحديث، بأنها ركزت على تحقيق كل ما بعد الطعام والسكن والملابس من احتياجات إنسانية ملحة، وأهملت توفيرها للناس، فانصرف الجوعى والعرايا والمشردين عن الثورة مرحبين بالثورة المضادة، تاركين الثرثرة للسياسيين والحالمين الشبعى.
ومن هنا رأى أن توفير الطعام والملابس والمساكن وغيرها من الاحتياجات الضرورية مجانًا للجميع كخطوة افتتاحية ضرورية لنجاح الثورة يأتى بعدها الحديث عن أي شىء آخر، ولذلك يشرح فيه سيناريو الثورة بالاستيلاء على الخبز، بأنها تبدأ بإسقاط حقوق الملكية الخاصة، ومصادرة وسائل الإنتاج والاستهلاك لصالح الشعب بواسطة الشعب، والبدء في توزيع الاحتياجات مجانا على كل السكان عبر لجان شعبية تطوعية عفوية في كل شارع وحي ومدينة. هذا هو شرط نجاح الثورة الاجتماعية الذي يشرحه الكتاب الصادر قبل الثورة والذى لم يستجب لنصائحه البلاشفة.
إن موجة بحجم الموجة تلك الموجة الثورية ودولة بحجم الاتحاد السوفياتي لم تستطع فرض رؤيتها الاقتصادية، وبغض النظر عن مساوئ تلك التجربة إلا أنها تشير بوضوح إلى أن تحقيق انتقال جماعي كامل للكوكب إلى اقتصاد جديد هو طلب غير واقعي.
كما أن هذا الفشل المدوي للبلاشقة ونتائجه الكارثية أفقد الاشتراكية والشيوعية الجاذبية الجماهيرية، فلم تسقط اشتراكية الدولة البيروقراطية، للتحول إلى الشيوعية بعد التخلص من الجوانب البيروقراطية والسلطوية والبرجوازية والفاسدة فيها، كما كان الخطة، لكنها ارتدت بسهولة لرأسمالية متوحشة مافياوية، وديمقراطية تمثيلية، وأحيانًا سلطوية، وأحيانًا أخرى فاشية قومية، وترك الشعب ملكيته العامة التي صنعتها أجيال من آبائه وأجداده بتضحيات أسطورية، وبثمن فادح، تضيع من بين يديه بسهولة، وأحيانا وسط الترحيب وصرخات الفرح البلهاء، وبلا مقاومة تذكر، لتتحول لملكية خاصة لحفنة من اللصوص.
وتحولت التعاونيات لشركات رأسمالية بعد أن باع الناس أسهمهم فيها مقابل صناديق الفودكا، وليسقطوا هم في الحرمان من الحقوق التي كانت تمنحها لهم الدولةقيما سبق، أما في الصين وتحت اشراف الحزب الشيوعي فقد فتحت الأبواب للاستثمارات الرأسمالية، لتعيد قصة الثورة الصناعية المريرة بكل مآسيها التي ذاقتها الطبقة العاملة الانجليزية.

أطفال وبالغون!

لا أعتقد أن نزعات التفرد والتميز والتنافس هيَ المشكلة الوحيدة التي تقف حجر عثرة في طريق تحقق الشيوعية واقعيًا. المشكلة الأخطر إن البشر مهما بلغ ذكاؤهم وثقافتهم محكومون ومدفوعون بغرائزهم وعواطفهم الحيوانية الأقوى من عقولهم البشرية، وفي حمأة الحماسة ينساقون أحيانًا ليدوسوا في طريقهم كل ما يملكونه من ذكاء وثقافة ومعرفة وحكمة. وهكذا انجر البشر طوال التاريخ البشري وراء كل أنواع الدجالين، من الساسة والعسكر ورجال دين والإعلاميين والفنانين والأدباء والكتاب، الذين سحبوهم من بين أفخاذهم، أو من بطونهم الجائعة، وعواطفهم الساذجة، وأوهامهم العبيطة.
يطلق البعض من الأناركيين غير المتأثرين بالماركسية على التيارات الأناركية المتأثرة بالماركسية، أنهم أطفال لينين، لأنه سفه أسلافهم التاريخيين، ووصف شيوعيتهم اليسارية بأنها لعب أطفال، ولكن التجربة التاريخية فى هذه الحالة، أثبتت أنه أحيانًا ما يكون لعب الأطفال أكثر حكمة وصوابًا من عمل الراشدين.
فى مارس 1921، طالبت المعارضة العمالية بأن يكون الإنتاج والخدمات تحت إدارة النقابات العمالية ومجالس العمال، إلا أن لينين نعت الاقتراح فى تعبير يليق ببابا الفاتيكان بأنه "انحراف نقابي أناركى واضح وجلي"، وذلك في التقرير الذي قدّمه أمام المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي البلشفي لروسيا، وطرح فى مقابل هذا نموذج لدولة تتجاوز مهامها السيادية التقليدية إلى إدارة مجمل شئون المجتمع فى الإنتاج والخدمات، مأخوذًا ومنبهرًا فى ذلك بنموذج إدارة جهاز الدولة الألمانى لمرفق البريد.
لكن اقتراح لينين "البالغ" الذى أخذ فرصته الكاملة فى التطبيق، انتهى إلى أن يتحول كبار العاملين فى الجهاز البيروقراطي للدولة لطبقة منفصلة عن الطبقة العاملة مثقلة بالامتيازات، ومحصنة من النقد، وأتاحت لها سلطاتها الكلية القدرة، كاملة الجبروت، أن تفسد دون حسيب، وتخرب دون رقيب، وانتهى الأمر بها أن تدمر دولتها بنفسها، وأهدت بسهولة معظم ثروات الاتحاد السوفييتي التي بنيت بكم هائل من التضحيات عبر ثمانين عاما إلى حفنة من اللصوص، دون أن يبدى العمال أى دفاع عن ما شيدوه بالدم والعرق والحرمان، لأنهم فى الحقيقة لم يشعروا يوما أنهم مالكين لكل تلك الثروة، فقد كان تخطيط الدولة العقلانى جدا لكل من الإنتاج والاستهلاك، يعنى تكديس السلاح وغزو الفضاء، وفى نفس الوقت حرمان الناس من احتياجاتهم الاستهلاكية البسيطة.
أما ما اقترحه الأطفال، ولم يجد الفرصة للتطبيق، فكان يعنى ببساطة أن يتحرر العمال فعليًا من عبودية العمل المأجور التي استمرت لدى الدولة كما كانت لدى الرأسماليين، كما استمر انفصالهم عن وسائل الإنتاج، وعن ما ينتجوه كما كانوا فى الوضع الذي ثاروا عليه، كان الأخذ بكلام الأطفال، سوف يعنى عدم إتاحة الفرصة للفساد، ولتنامي الثروات من الاقتصاد السري، طالما ظل بأيدي العمال أنفسهم إدارة ملكيتهم، وما كان يمكن أن يسلب منهم أحد ما بنوه، وما تحت سيطرتهم بالفعل، بمثل هذه البساطة والسهولة والتى حدثت، فضلًا عن أنهم فى النهاية كانوا سوف ينتجون ما يحتاجونه فعلا من احتياجات استعمالية، دون هدر للإمكانيات والموارد وجهودهم الهائلة فيما لا طائل من وراءه، وبالتالي ما كان يمكن أن يفقد البشر فرصتهم التاريخية للتحرر من القهر والاستغلال، والتى قد لا تتكرر فى المدى المنظور، نتيجة هذا الفشل المروع، برغم ما يمثله الوضع الحالى من تهديدات لاستمرار البشر أنفسهم فى الوجود، وبرغم الأزمة التى تعترى الرأسمالية مؤخرا، بسبب عزوف الناس فى نفس الوقت عن سماع من يطرحون البديل عن هذا الوضع، والذين يقترحون تجاوز الرأسمالية فورا.
شرحت ألكسندرا كولنتاى، وهي أحد أبرز القيادات النسائية الشيوعية في الثورة، مميزات ظاهرة انتشرت عفويا مثلها مثل ظاهرة المجالس العمالية فى بدايات الثورة، وهى تحول الأعمال المنزلية من طهي وغسل للملابس ورعاية للأطفال وخلافه من أعمال تخص كل أسرة على حدة، وتُلقى على عاتق المرأة وحدها، إلى أنشطة جماعية يشترك في إنجازها العديد من الأسر والأفراد المتعاونين، والذين ينتجون ويستهلكون ويعيشون سويا، ومدى انعكاس ذلك على تحرر المرأة من مشاق العمل المنزلى وسلبياته.
إلا أن فكرة أن ينتج ويستهلك ويعيش الناس سويًا فى جماعات يربط أفرادها نشاط اقتصادى وجيرة، تحمل من الإيجابيات ما هو أكثر من ذلك ما لا يتسع المجال لذكرها، ولكن الظاهرة انتهت بسحق المعارضة العمالية، وقمع عفوية تحرير الناس لأنفسهم، وتنظيم حياتهم بإرادتهم، وتمت العودة مجددًا إلى نموذج الأسرة التقليدية، واستمرار التناقض بين الإنتاج الجماعي والاستهلاك الفردي، وهذا أدى لانتعاش الفردية واستمرار الأنانية فى الناس، وتنافسهم البغيض على المناصب والمغانم، بدلا من تضامنهم وتعاونهم سويا فى مواجهة الحياة، وهذا أدى لفساد بعضهم من الذين أاتيحت لهم فرص الفساد.
كما أتاح الاستهلاك الفردى، انتعاش ثقافة الاستهلاك بين الأفراد، وكانت النتيجة أن وقع الكثير من الأفراد تحت تأثير الإعلانات الاستهلاكية للكوكاكولا والماكدونالدز، وأوهام التطلعات الاستهلاكية فى الغرب الرأسمالي، مما ساعد على سهولة الانهيار، الذي ما إن تم حتى تورط عشرات الألاف فى مافيا الاتجار فى البشر سواء كمجرمين أو ضحايا.

القومية

من بين العديد من الانتقادات التى وجههتها القيادة الماركسية روزا لوكسمبرج إلى البلاشفة في كتابها عن تاريخ الثورة الروسية كان موقفهم من القضية القومية التى تتعارض مع روح الثورة الأممية، فقد تم بناء الاتحاد السوفيتى على أنقاض الامبراطورية الروسية التى كانت تضم أكثر من 160 مجموعة أثنية وقومية، أكبرهم الروس الذين كانوا يشكلون حوالى نصف السكان، وبعض تلك المجموعات كان لا يتجاوز أفرادها بضع آلاف، وكانت رؤى الأطفال الذين عبرت عنهم روزا لوكسمبرج أن تنتظم الأجهزة السياسية والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بشكل منفصل عن انتماءات الأفراد الأثنية والقومية مع تمتع هؤلاء كأفراد فى نفس الوقت بحقوق إنسانية متساوية، والذين يمكن لهم كجماعات الحفاظ على تراثهم الأثنى والقومى من خلال أنشطة ثقافية وتعليمية لا غير.
لكن البالغين بقيادة لينين قرروا أن يمنحوا تلك المجموعات كيانات سياسية وإدارية داخل الدولة فى شكل جمهوريات اتحادية وجمهوريات وأقاليم ذوات حكم ذاتى داخل الجمهوريات الاتحادية. مكرسين هيمنة الجمهورية الروسية داخل الاتحاد على الجمهوريات الأخرى، ومن ثم استمر وضع الامبراطورية الروسية مع تغير فى الشكل، مما أعطى الفرصة لتنامى النزاعات القومية والانفصالية بين شعوب الاتحاد، وكان نتيجة تبنى الفكر القومي والطائفي أن تفكك الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا لكيانات قزمية بسهولة غير عادية، لابد وأن تستمر تبعيتها للكيانات الأكبر رغم الاستقلال المزعوم.
فى حين لو تم تبني" أفكار الأطفال" ما كان يمكن لهذا الانهيار أن يحدث، فثمانون عامًا من العيش والعمل معا بين الأفراد دون اعتبار للاختلافات العرقية والثقافية والقومية بينهم كانت كفيلة بصهر تلك الجماعات القومية والأثنية معا مثلما انصهر المهاجرين الآتين من شتى بقاع العام فى دول المهجر فى العالم الجديد، برغم كل اختلافاتهم التي لا تعيرها دول المهجر اهتمامًا، كما لا تلتفت إليها المؤسسات الاقتصادية، وتظل الظاهرة القومية متجسدة ومحصورة فى أنشطة ثقافية واجتماعية تمارسها مؤسسات المجتمع المدنى للجماعات القومية والإثنية المختلفة.

أي بديل الديموقراطية التمثيلية؟
كتب كروبوتكين في "الاستيلاء على الخبز" أن الاشتراكيين (ومنهم البلاشفة) ارتكبوا خطأً مزدوجًا في خططهم لإعادة بناء المجتمع. فبينما يتحدثون عن إلغاء حكم الرأسمالية، فإنهم ينوون مع ذلك الإبقاء على اثنتين من المؤسسات الأساسية للغاية لهذه الحكم - الحكومة التمثيلية ونظام الأجور.
فند كروبوتكين آراء من يرون الأناركية ساذجة وخيالية، ويرون في الوقت نفسه أن قمة الفطنة والواقعية أن ينتخب غالبية الناس شخصًا واحدًا كيْ يأخذ قرارات تؤثر في حياة ومستقبل ملايين البشر دون أخذ رأي هؤلاء البشر، باعتباره عين العقل والحكمة والذكاء، وأن تختار الغالبية بضعة أشخاص لتشريع ما يحكمهم من قوانين دون أخذ رأيهم في هذه القوانين التي تؤثر في حياتهم. ويرى أن البشرية لن تحتاج في ظل الأناركية الشيوعية ديمقراطية من هذا النوع، ولن تحتاج لأيّ استبداد من فرد أو من جماعة حتى ولو من عباقرة البشر وأنقيائهم.
ولأن لكل نظام اقتصادي اجتماعي نظام سياسي يتوائم معه، ففي ظل الأناركية الشيوعية لابد وأن ينتظم الناس اجتماعيًا وفق اتفاقات وتعاقدات جماعية حرة توافقية بين الأفراد في جماعاتهم التعاونية وبين جماعاتهم التعاونية الصغيرة في اتحاداتها، لتلبية المصالح المشتركة.
تتحد هذه الجماعات وتنفصل وتنسق فيما بينها عبر مندوبين ملزمين في نفس الوقت بإرادة ناخبيهم، لا يحق لهم الانفراد بأخذ أيّ قرارات دون الرجوع لناخبيهم، القادرين على سحب التفويض منهم في أيّ لحظة، هذا هو النظام السياسي الذي يقترحه كروبوتكين بعد إلغاء الملكية الخاصة.
بدأت فكرة التمثيل التفويضي المشروط بارادة الناخبين كما طرحته كوميونة باريس 1871 تأخذ شكلها العملى عفويًا بظهور مجالس العمال والفلاحين والجنود (السوفيتات) في ثورات 1905 ثم في1917، التي سيطر عليها البلاشفة، بعد ثورة فبراير، وقبيل ثورة أكتوبر بشهور، وقد منحوها كل السلطات رسميًا، بعد أن رفعوا شعار" كل السلطة للسوفيتات، لا للحزب ولا البرلمانات"، ولكنهم احتفظوا لأنفسهم عمليًا بالسلطة الفعلية.
فقد كان البلاشفة هم من يقدمون المرشحين الوحيدين لعضويتها من بينهم، والمطلوب فقط تصديق الناخبين على هؤلاء المرشحين، مما كان يعني خيانة أصلية حتى لمبدأ التمثيل القاصر الذى تبنوه نظريا، وتحوله في التطبيق على أيديهم لشكل فج من أشكال الديكتاتورية، ففي مثل هذه النظم البيروقراطية يسهل جدًا للانتهازيين والوصوليين والأدعياء تبوء كل المناصب والصعود بسهولة لأعلى مراتب السلطة.
بينما يسهل في المقابل في مثل هذا النظام البيروقراطي أن يرسل المستقيمين والمخلصين للسجون والمنافي فقد أعدم ستالين تقريبًا كل أعضاء اللجنة المركزية للحزب التي قادت الثورة ما عدا هو، ولينين الذي قد توفى بالفعل، واغتال تروتسكي المنفى، وكانت تلك هي المأساة.

إلى كلٍ حسب حاجته

كتب كروبوتكين أن معظم الاشتراكيين ومنهم البلاشفة أوفياء للتمييز بين العامل المؤهل والعامل البسيط، الذى أقره خبراء الاقتصاد من الطبقة البرجوازية (ومن بينهم ماركس)، يقولون لنا، علاوة على ذلك، أن العامل المؤهل أو المهنى يجب أن يدفع له كمية معينة أكثر من العمل البسيط. وهكذا فعمل ساعة من الطبيب سوف يتعين النظر إليه بما يعادل عمل ساعتين أو ثلاث ساعات للممرضة في المستشفى، أو لثلاث ساعات عمل من الحفار. ويقولون " العمل المهنى أو المؤهل، سوف يكون من مضاعفات العمل البسيط، لأن هذا النوع من العمل يحتاج إلى التدرب لفترة أكثر طولًا".
ولذلك جعلت الثورة البلشفية فى روسيا الفرق بين الحد الأدنى للأجر والحد الأقصى للأجر واحد إلى ثلاثة، ووفقا لما قررته كوميونة باريس من حصول المسئولين التنفيذيين المنتخبين على أجر الموظف العادي، فقد طبق النظام السوفيتى هذا المبدأ فى البداية قبل الإفساد البيروقراطي.
اتبعت البلشفية المبدأ الجمعى (الاشتراكى) فى التوزيع وفق العمل، وهو مبدأ يعيد إنتاج الرأسمالية والطبقية والسلطوية والملكية الخاصة، ويختلف جذريًا عن المبدأ الشيوعي فى التوزيع المجاني وفق الحاجة.
لكن حتى هذا الفرق الضئيل بين الحد الأدنى والحد الأقصى الذي أقرته الثورة البلشفية تم التراجع عنه بسرعة ومن ثم زادت الفجوة بين الأجور بمرور الوقت. فقد رفضه رجال الدولة الذين كانوا يحصلون على أجر العامل العادى. ورفضه المهنيون والعمال المهرة لاقتراب مستوى معيشتهم من مستوى العمال العاديين.
ما الذي أغضبهم فى ذلك؟ وما الذى أضرهم أن يعيشوا مثل العمال العاديين؟ ..لا شئ سوى نزعات التمييز والتباهى المريض والبلاهة الإنسانية المعتادة.
والحقيقة الأخرى أن التوزيع الشيوعي وفق الحاجة لا يعني تساوي الناس فيما يحصلون عليه من احتياجات. ببساطة لأن احتياجات البشر متنوعة ومتفاوتة ومتغيرة للغاية. وتكاد تكون فردية تمامًا. المهم هو عدم حرمان الناس من احتياجاتهم. وعدم حرمانهم من الحق فى الرفاهية، فهناك من يشبع برغيف وهناك من يشبع بعشرة. ولا يمكن أن تساويهم فى عدد الأرغفة وإلا حرمت بعضهم وأصبت آخرين بالتخمة. الأصح أن يحصل كل فرد على ما يشبعه، وفى هذه الحالة لن يعترض أحد على ما يأخذه.
بناءً على الحفاظ على مبدأ الأجور، كان لابد من الاستمرار في النظام النقدي حتى في الداخل، ومنه سيكون سهلًا جدًا إحداث التراكم الرأسمالي من جرائم الفساد والتفاوتات في الدخول، كما تم الاحتفاظ بالملكية الخاصة وحقوقها الثلاث، التصرف والاستغلال والانتفاع، حتى ولو بشكل محدود، إلا أنها كانت الخميرة التى بها عادت الملكية الخاصة بعد السقوط قوية وعفية.
في حين، في التصور الأناركي، كان يجب إسقاط كامل حقى التصرف والاستغلال والابقاء فقط على حق الاستعمال والانتفاع ليس فقط فيما يتعلق بوسائل الإنتاج كما كان هو الحال، ولكن فيما يتعلق بمواد الاستهلاك أيضا، وبالطبع كان يمكن للتبادل الخارجى أن يتم بالمقايضة وليس بالدولار عملة التجارة الدولية التي تتمكن بها الولايات المتحدة بالامساك برقاب الجميع والتي يخضع بها أكثر أعدائها لها جبرًا واضطرارًا.
و أخيرا كيف نوفر الخبز للمدن حتى نضمن نجاح الثورة، وعدم سقوطها في الردة دون أن نكرر مأساة بل قل جريمة التجميع القسري في الريف في العشرينات في الاتحاد السوفيتي، التي أسفرت عن مجاعات مروعة في الريف والمدينة معًا؟
كان السيناريو المقترح من كروبوتكين في كتابه "الاستيلاء على الخبز"، تلافيا للتجويع المتوقع من الريف للمدن، هو ضرورة زراعة المدن وذلك بأن تنتج غذائها بنفسها بالصوب الزراعية وغيرها من الوسائل الحديثة في الزراعة، وأن يتم تصنيع الريف ومدينته بمده بالاحتياجات الصناعية وأدوات الإنتاج التي يمكن أن توفرها له المدن ويفتقر إليها سكان الريف، وإنشاء الصناعات الضرورية في الريف، مقابل أن يمنح سكان الريف المدن ما لديهم من مؤن غذائية يحتاجها سكان المدن فى صفقات طوعية بينهم دون جبر أو إكراه كما فعل البلاشفة، مما استدعى من الفلاحين حرق محاصيلهم وحيواناتهم حتى لا يستولى عليها البلاشفة، فعانى كل من سكان الريف والمدينة من الموت جوعًا.
وهكذا أرى أن هزيمة الثورة لم تكن أبدًا قدرًا محتومًا كما كنت أتخيل ، ولم يعد في الإمكان أن أتحدث بثقة مفرطة عن جريمة لم يرتكبها البلاشفة في الحقيقة، إن اعتبرناها جريمة، وهى جريمة حرق المراحل التاريخية، والقفز على الواقع، جرائمهم غير ذلك بالقطع، بل في الحقيقة إن سر فشلهم ، كما أراه الآن، هو عدم القفز بما يكفى من خطوات لتجاوز عفونة الواقع فسقطوا في مستنقعه.
2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السيد عبود
فؤاد النمري ( 2019 / 1 / 29 - 00:01 )
لا يمكن أن تعرف أصالة الثورة البلشفية دون أن تعرف لماذا فشلت
أنت كدت أن تصل إلى الحقيقة ثم تراجعت
أعيد ما تساءلت عنه حضرتك لكن بكلمات أخرى
لمتذا كان في سبعينيات القرن الماضي 240 قمرا تدور في الفضاء وفي المدن السوفياتية 240 طابورا من المواطنين يصطفون للحصول على حبات من البطاطا وقطعة من اللحم !؟
إن لم تفك هذا اللغز إسألني كيما أفككه لك

احترامي

اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم