الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد البابلي /الحلقة الثانية

نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث

(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)

2017 / 12 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يهود العراق والهوية الوطنية .. حقبة العهد البابلي /الحلقة الثانية

يعد عصر الملك «نبوخذ نصر» من أكثر فترات مملكة بابل الجديدة ازدهاراً واستقراراً وقد أمتد حكمه قرابة 60 سنة, كان جلّ اهتمامه بالعمارة والبناء حتى أن كل مدينة في بلاده لا تخلو من آثار من عصره تشهد لهذا الملك البنّاء وولعهِ بالعمارة ,فقد أقام الحدائق المعلقة في بابل التي تعد إحدى عجائب العالم القديم, كما تمكن من السيطرة على دويلات وممالك عديدة في غرب آسيا ويحكي «العهد القديم» (التوراة) أن «نبوخذ نصر» هزم الجيش المصري بقيادة الملك «نخاو الثاني» Necho (610-595 ق.م) في معركة «قرقميش» بالقرب من نهر الفرات. كما أخضع «نبوخذ نصر» بلاد سوريا وأجبرَّ ملك يهوذا على الاعتراف بالسيادة البابلية على أراضيها.
في هذه المرحلة برز دور النبي (إرميا) الذي دعا بني إسرائيل في مملكة يهوذا لعدم مقاومة ملك بابل «نبوخذ نصر» لأنه خادم الرب وهو الذي سلطه الرب لعقاب شعب يهوذا على ما اقترفوه من المعاصي والفساد, وفي سنة 597 ق.م حدث تمرد في أورشليم أبان حكم الملك «يهوياكين بن يهوياقيم» وكان هذا الملك قد أظهر العداء تجاه «إرميا» النبي, وقد قدم «نبوخذ نصر» إلى يهوذا لإخماد هذا التمرد, ثم قام بحصار أورشليم. ولم يظهر ملك يهوذا مقاومة للجيش البابلي, فاستولى ملك بابل على أورشليم ونهبَّ كل خزائن وكنوز هيكل سليمان من الذهب والفضة وأرسلها إلى بلاده, كما سبى كل شيوخ ورؤساء أورشليم وآخرين عددهم 10 آلاف شخص. وكان أكثر الذين تَمّ سبيهم من أورشليم ذاتها, وهذا السبي هو الذي يطلق عليه المؤرخون «السبي البابلي الأول».
كان ضمن هذا السبي الملك «يهوياكين» وأفراد عائلته, وقد أرسلهم «نبوخذ نصر» إلى بلاده, ثم عيَّن مكان الملك المخلوع ملكاً جديداً يدعى «صدقيا» Zedekiah وهو عَّم الملك المخلوع وقيل أخوه وكان «نبوخذ نصر» يظن أن ملك يهوذا الجديد سيكون تابعاً أميناً يدين بالولاء لبابل.
رغم كل ما قام «نبوخذ نصر» من تدمير وتخريب في يهوذا, إلا أن أورشليم وهيكلها كانت هدفه الأهم , ولهذا اتجه إلى أورشليم وفرض عليها حصاراً شديداً, دام قرابة 18 شهراً حتى أصبحت الحياة داخل المدينة المحاصرة أمراً في غاية المشقة حيث نفذت المؤن من أهلها وضربت المجاعة كل من كان بداخلها, نتيجة الحصار هرب «صدقيا» وأفراد عائلته ليلاً, ولما علم الملك البابلي بذلك, أرسل جنوده لمطاردته والقبض عليه, وقد تمكن الجنود البابليون من الإمساك به في أريحا, ثم اقتادوه إلى ملكهم في مدينة «ربله» -على نهر العاصي في لبنان- . وقد أمر «نبوخذ نصر» بقتل أولاده أمام عينيه, ثم أمر بقتل كبار رجال مملكة يهوذا, ثم قلع عين «صدقيا» وقيده بالسلاسل, وأرسله أسيراً إلى بابل.
بعد تدمير أورشليم وهيكل سليمان سنة 587 ق.م جمع «نبوخذ نصر» الآلاف من شعب مملكة يهوذا وقام بنقلهم إلى بلاده في أرض بابل ,يميز المؤرخون هذه الحادثة باسم السبي البابلي الثاني, وقد تباينت الآراء حول عدد اليهود الذين وقعوا في السبي إلى بابل, وإن كان تقدير عدد الذين تَمّ سبيهم نحو 62 ألف إلى 70 ألف شخص حيث يقال إنه لم يبق في مملكة يهوذا سوى مساكين شعب الأرض, ولم يترك «نبوخذ نصر» في يهوذا سوى فئة قليلة ممن يعملون مزارعين في الأرض. بعد هذا السبي على يد الآشوريين والبابليين انتشر اليهود في عدة بلدان مثل بابل وآشور ونينوى, كما هرب كثيرون من اليهود إلى أرض مصر, وبهذا تكونت جماعات وتجمعات كثيرة مما يمكن أن يطلق عليهم «يهود الشتات» وقد أختلط هؤلاء اليهود بشعوب البلدان الأخرى التي عاشوا فيها.
بعد أن سيطر نبوخذ نصر على مملكة يهوذا وقد بقوا بعض اليهود أبان السبي في فلسطين, فإن «نبوخذ نصر» ملك بابل قد عيّن حاكماً على يهوذا يدعى «جدليا» وهو رجل ينتسب إلى أسرة نبيلة, كان أبوه يدعى «اخيقام» الذي كان قد أنقذ حياة «إرميا» النبي من الموت, وكان جده «شافان» سكرتير الملك «يوشيا» في أمور المملكة باعتباره الشخص الأول الذي يدبر ويحرك الأمور, وقد أستقر حاكم يهوذا الجديد «جدليا» في «المصفاة» نظراً لدمار مدينة أورشليم و«المصفاة» كلمة عبرية تعني «برج النواطير» ويعتقد أنها قرية النبي «صموئيل», ويشغل موقع «المصفاة» حالياً منطقة «تل النصبة». وقد عاصر حقبة السبي العديد من أنبياء بني إسرائيل (إرميا, حبقوق, حزقيال, دانيال, عوبديا) ويعد النبيان حزقيال ودانيال من بين الذين تَمّ سبيهم إلى بابل, وقد سبي النبي دانيال أبان هجوم «نبوخذ نصر» على يهوذا سنة 605ق.م.
من اشهر العوائل اليهودية في حضارة بابل عائلة إيجيبي المصرفية Egibi وأسرة موراشو اليهودية في مملكة نيبور, وتعني إيجيبي هذه التسمية الأكدية بحوزتي, وكانت هذه العائلة على الأغلب من يهود السامرة , ولعله كانت من أسرى الملك سرجون, كان مركز عائلة إيجيبي في سيبار الواقعة على ضفاف نهر الفرات, وقد ساهم هذا النهر وموقعهم على استخدامه وسيلة للاتصال بالمدن المهمة والمراكز التجارية, وتعتبر عائلة ايجيبي اليهودية الديانة والعراقية الموطن من خلال اسماء افرادها التي تدخل ضمن تركيبتها المعبودات البابلية.
تعاطت هذه العائلة من خلال عملها المصرفي في الأشغال المختلفة قروناً وخاصة المعاملات التجارية المختلفة, وعقد الصفقات التجارية, وتعاطت تجارة الرقيق والنبيذ بالجملة, إلى جانب هذا كانت تقوم هذه العائلة بقرض الأموال وعقد قروض الرهان ولها حسابات مالية مع المتنفذين بالمملكة, وكانت تتقاضى الضرائب وتشهد على العقود التي تتم بين المتعاقدين, وتحول التعامل من مدينة إلى أخرى, ونصوص هذا البيت كانت تعتمد على تحرير وثائقها على الأسلوب العراقي, فتذكر نصوص العقود باليوم والشهر والسنة التي تم فيها العقد.
عاشت هذه العائلة في زمن سنحاريب وبلغت قمة الغنى والنفوذ في عهد الملك نبوخذ نصر, أي نحو قرن من تأسيسه, كما أخذت هذه الشركة تضطلع بشؤون البلاط البابلي لأمد طويل, حيث كانت تجبي الضرائب عما تنتجه الأرض من محصولات الغلال والتمور, كما كانت تستوفي الضرائب المفروضة على الطرق العامة وقنوات الري لقاء الإفادة منها, ومن جانب آخر كانت هذه العائلة غير معروفة على المستوى التاريخي لو لا العثور على ارشيفها من قبل أحد الأعراب في أطلال ناحية الجمجمة شمال بابل التابعة إلى مدينة الحلة بحوالي 10كم, عثر الاعرابي على جرار عديدة من الطين كانت مسدودة سداً محكماً وقد قدر عدد هذه النصوص 300 نص, الآن محفوظة بالمتحف البريطاني, ويختلف حجمها اختلافاً بيناً حيث تتراوح بين عقدة واحدة مربعة واثنتي عشرة عقدة مربعة, فظهر انها سلسلة تاريخية ثمينة تعود لبيت إيجيبي واحفاده, حيث تشير النصوص إلى أن أولاد ايجيبي كانت تمتلك أكثر من مئة رقيق كانوا يستخدمون في الأعمال التي يمارسها بيت ايجيبي وحتى في المزارع الخاضعة للضرائب وكذلك في الخدمات المنزلية. كما لم يقتصر نشأت بيت ايجيبي على المدن الرئيسية في بابل وإنما تعدى هذا النطاق إلى إيران, فمن أصل تسعة عقود هناك ستة عقود صدرت في Humadesu التي تقع في الجزء الغربي من بلاد فارس على مسافة لا تزيد عن 50كم شرق سوسة, لكن المؤخرون قد ارتأوا إلى عام 1878م أن بيت ايجيبي قد دام إلى عهد دارا فقط, إلا أن المستر دلج بين سنة 1882م أن البيت المذكور قد دام إلى ما بعد عهد الاسكندر المقدوني, وقد توصل إلى ذلك من خلال استقرائه لمئات من نصوص الآجر التي اقتناها من رسام واضافها إلى المجموعة التي حصل عليها جورج سميث سابقاً, وعليه يكون بيت ايجيبي قد استمر بأعماله التجارية لمدة اربعة قرون متوالية.
بعد سقوط بابل وانتهاء معبدها أدى إلى توسع نشاط المصارف الخاصة التي كان قد أنشأها اليهود ولا بد أنها واحدة من الأمور التي أفاد منها الفرس على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي, وقد بالغ المؤرخون بأهمية دور اليهود في هذه الحقبة وحللوا الأمور كما لو أن تاريخ اليهود قد تمركز في هذه الفترة.
أدت سياسة كورش الاقتصادية في خزن النقود والمعادن وسحبها بالتالي من التداول إلى شحة دائمة لها مما عرقل إمكانية توفيرها من قبل الأفراد لدفع ضرائب الملك. وأًجبر دافعوا الضرائب من البابليين على الاندفاع نحو الحصول على قروض بفوائد عالية وصلت نحو 40-50% في نهاية القرن الخامس للميلاد, كما ثبت ذلك في سجلات موراشو, بينما لم تزد في زمن نبوخذ نصر عن 10% هذا بالنسبة للمدن في جنوب العراق التي كانت خاضعة للسيطرة الأخمينية.
وجد أرشيف بيت موراشو في نيبور (نفّر), وتعتبر عائلة موراشو عائلة عراقية بابلية, كانت مركزاً رئيسياً لسكن اليهود في حدود القرن الخامس قبل الميلاد, والأرشيف الخاص بهذه العائلة محفوظ بمتحف استنبول, فخلال التنقيبات التي جرت من قبل جامعة بنسلفانيا وهي تمثل مجموعة كتابات تتكون من سبعة وثلاثين لوحاً تعود إلى عهد ارتحششتا الأول (464-424)ق.م وداريوس الثاني (424-404) ق.م.
كُتبت الرقم التي تخص بيت موراشو بالمسمارية, غير أن عدداً من الوثائق يحمل على وجه واحد, خلاصة محتويات مؤلفة من كلمات آرامية قليلة كتبت بالحبر, ففي هذا التاريخ لم يكن سوى الأفراد المثقفين ثقافة عالية يستطيعون الكتابة المسمارية واللغة الأكدية, وكان عامة الشعب يتكلمون الآرامية وإذا استطاعوا أن يكتبوا اطلاقاً فإنهم يكتبون بالآرامية أيضاً, ومن المحتمل أن تكون الرقم موضوع البحث تمثل ارشيف شركة بيت موراشو وأن خلاصة المحتويات المدونة بالآرامية قد تعين الكتبة على وجود الوثيقة التي يريدونها وتقديمها إلى أحد اعضاء الشركة ممن يستطيعون قراءة الكتابة المسمارية.
الأسلوب المتبع في تغليف العقد هو عبارة عن ظرف من الطين مكتوب عليه ملخص للترقيم قد توقف العمل به في فترة العهد البابلي الحديث, وتملك الكثير من هذه الألواح آثار الأختام أو أحياناً علامات الأظفار لواحد أو أكثر من الرؤساء الموجودين في البيت التجاري أو الشهود, وتشير المادة النصية المكتشفة في نفّر إلى ممارسة التملك هذا من جانب طبقات اجتماعية معينة كاليهود الذين سكنوا في أماكن وشوارع منعزلة وكانوا تحت إشراف موظفين خاصين.
كانت عائلة موراشو إحدى العوائل اليهودية التي كانت ضمن الأسرى الذين رحلهم نبوخذ نصر من فلسطين إلى بابل, واشتهرت هذه العائلة كأحد البيوتات المالية في عهد ارتحششتا الأول, وقد استطاعت هذه العائلة من أن تنشئ بيتاً مالياً كبيراً كانت له فروع في مناطق مختلفة, وقد اتجه اصحاب هذا البيت إلى الإقراض بالفائدة التي كانت تصل إلى 40-70% وبعض الديون الثقيلة اضحت عالية إلى حد يفسر لنا حجم الفقر الذي حلَّ ببابل, بالمقابل فقد عثرَ في أرشيف بيت موراشو على ديون مقدارها 350 كغم أو 90 كغم من الفضة والذهب, كما عقدوا القروض مع الشخصيات الفارسية المتنفذة في بابل وباعوا واشتروا المنازل والأراضي وامتلكوا جداول الري وقطعاناً كثيرة من الأغنام وأداروا أموال غيرهم, وكانت أكثر الأراضي بجوار نيبور مرهونة عندهم.
كانت لهذه العائلة علاقات تجارية قائمة بين الأمراء والملكات, فقد كان الأمراء والملكات وسيدات البلاط غالباً ما يؤجرون بيوتهم ومزارعهم إلى بيت موراشو وإلى أشخاص آخرين, ونظراً لهذا الدور الذي لعبه بيت موراشو وأولاده فقد منح من قبل السلطات الأخمينية لقب (Bano والي) وهو يمنح لصفوة رجال الأعمال في الأحوال النادرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت