الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمة في قصيدة -الحمامة والعنكبوت- تميم البرغوثي

رائد الحواري

2017 / 12 / 8
الادب والفن


هذه الأمرة الأولى التي أقرأ فيها لشاعر "تميم البرغوثي"، رغم سماعي للعديد من قصائده، فالقراءة شيء والسماع شيء آخر، ولم أكن أتصور أن يكون شعر "تميم" بهذه الجودة والتألق، لأنني تعود على سماع شعره بالصوت العالي والنبرة المرتفعة، لكننا في هذه القصيدة أمام نبرة وصوت هادئ، فالشاعر يخاطبنا بصيغة السؤال، لكي نفكر فيما آلت إليه أحوالنا، فأهم ما في القصيدة اللغة الناعمة والتساؤلات التي تطرحها الحمامة على العنكبوت.
اختزال سيرة وحال أمة في قصيدة ليس بالأمر السهل، لكن من شاعر مبدع يمكنه أن يقدم لنا ما هو متألق ويناسب أحوالنا، يبدأ الشاعر قصيدته بهذا الشكل:
"تقول الحمامة للعنكبوت
"أخية تذكرين أم نسيت؟؟
عشية ضاقت علي السماء
فقلت على الرحب في الغار بيتي
وفي الغار شيخان
لا تعلمين حميتهما يومها أم حميت
جليلان إن ينجوا يصبحا أمه
ذات شمل جميع شتيت
وقوم أتوا يطلبونهما"
جزء من احداث الهجرة النبوية التي كانت فاتحة لتشكيل الأمة العربية والحضارة العربية الإسلامية، لكن جمالية القصيدة كانت عندما قدم لنا الشاعر مشاعر (إنسانية) للحمامة والتي جاءت بهذا الشكل:
"أقلب عيني في القوم ما بين وجه مقيت
ووجه مقيت
أتوا فارتعشت فقلت اثبتي
تحرزي الخير يا هذه ما حييت
فليس بأيديهم أن توتي"
وكأنه بهذا يردنا أن نتأكد بأن مشاعر الخوف وهواجسه هي مشاعر طبيعية في الإنسان، مهما أعطي من قوة ومهما كان موضعه، فهو يردنا أن نصل إلى فكرة أن الضعاف يمكنهم أن يفعلوا المعجزات، إذا ما توفرت لديهم الإرادة.
الصورة الفنية لما حدث على باب الغار يقدمه الشاعر بهذا الشكل:
" سنحمي الغريبين من كل سيف
بريش الحمام وأوهى البيوت
سنبني المآذن في المشرقين
بخيط رفيع وخبز فتيت"
الأشياء البسيطة ـ الريش وخيط العنكبوت ـ يمكنها أن تحدث أشياء عظيمة، فالشاعر يؤكد على قلة الامكانيات وضعفها ومع هذا أحدثت نقلة نوعية ليس على الصعيد العرب فحسب بل على الصعيد الإنسانية أيضا.
المنجزات الحضارية والثقافية والدينة التي أحدثها الشيخان تتمثل فيما يلي:
"لقد كان في الغار دينا
من الصين حتى بلاد الفرنجة
أسواقها وميادينها وقوافلها
وعساكرها .. صياح المنادين
بسط الجوامع آي المصاحف
أضرحة الصالحين نقوش الأواني
وشاي الصباح يعطر بالميرمية والياسمين"
الفعل الحضاري متكامل وشامل لك ما هو إنساني ومكاني/جغرافي، لهذا نجد الشاعر يهتم بالمكان كما يهتم بالاجتماع المدني، فهو يتناول الجغرافيا والتجارة والجيش والعبادات والسلوك والقراءة والبنيان والعمران والفنون وحتى الجلسات الخاصة للأفراد، فهنا صورة مختزلة المجتمع العربي الإسلامي الذي أحدثه "الشيخان" .
الأسئلة التي تقدمها الحمامة لنا تشير بطريقة رمزية إلى سوء أحوالنا عل كافة الأصعدة:
"أخية ماذا جرا لهما؟؟؟
أترى سلما؟؟
يا أخية ماذا جرى لأرى ما أرى
فلقد طفت ما طفت تحت السما
لم أجد أحدا مهما
وكأنهما لم يكونا هنا
لم يحلا لم يرحلا
يا أخية ضيفاك ما فلا؟
أو لم يصلا للمدينة أم وصلا؟
يا أخية ضيفاك ما فلا؟
أترى قتلا أترى أسرا؟
أترى بقيا صاحبين أن انفصلا
يا أخية ضيفاك ما فلا؟؟" رغم أن الأسئلة جاءت تغريب لحادثة الهجرة، فكلنا يعلم أن الرسول وصاحبه وصلا المدينة، لكن الشاعر تعمد أن يقدمها لنا بهذا التغريب ليجعلنا نتوقف متسائلين متفكرين فيما آلت إليه أحولنا، فهو يحترم تفكيرنا وقدرتنا على الفهم والتحليل، لهذا جاءت الأسئلة بصيغة مغايرة للحدث، لكنها تحمل الرمز، وتعطي اشارات لنا بأن أحوالنا لم تعد جيدة.
الشاعر يحملنا المسؤولية فيما حدث لنا وفيما فعلناه بأنفسنا، فيغيب العنكبوت بالموت:
"روح حارسة الغار فاضت"
ويجعل الحمامة تختم القصيدة فتقول:
"ثم ميلي إلى كل طفل وليد
قصي عليه الحكاية قولي له
في زمان مضى
حل في غارنا عربيان وارتحلا"
تبدو هذه الخاتمة سوداء وتجعلنا نصاب الإحباط، لكن هل أرادنا الشاعر أن نصل إلى هذا القنوط أم أراد به شيء آخر؟ هل نصاب بهذه الخامة باليأس أم أن مجمل القصيدة يجعلنا نستفز فكريا ثم عمليا لننتقل إلى الأمام، مندفعين بما خلفه لنا "صاحبي الغار" من أرث حضاري وثقافي وأخلاقي وديني؟، بهذا الاستفزاز والتغريب يمكننا أن نحدث نقلة نوعية في تفكيرنا ثم النقلة الأهم في سلوكنا وعملنا.
إذا ما توقفنا عند اللغة التي استخدمها الشاعر سنجدها لغة سهلة وبسيطة، لكنها جاءت تحمل أفكارا تغريبة تدفعنا إلى التوقف والتأمل والتفكير، لهذا يمكننا القول ان القصيدة لا تجذب القارئ فحسب بل تجعله يقرأها أكثر من مرة مستمتعا مفكرا متوقفا عند حالة وحال أمته، وهذا الأمر ـ التوقف والتفكير ـ كان مناسبا ومنسجما مع لغة القصيدة، لهذا كانت متألقة ومدهشة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل