الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسن طلب والانعتاق من لذَّة اللغة - دراسة نقدية للشاعر والناقد المصري محمود حسن

عبير خالد يحيي

2017 / 12 / 11
الادب والفن


حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الادب العربي
لجنة الذرائعية للنشر

حسن طلب والانعتاق من لذَّة اللغة

رؤية / محمود حسن
رييس مجلس أمناء مؤسسة الكرمة الثقافية في جمهورية مصر العربية :

كثيرون من محبِّي اللغة العربية ، ومجيديها ، وأصحابِ النبرةِ العالية في الحديث بها ـ وعنها - حجَّموا الإبداع في الفخيم والمعجميِّ منها ، فنتج عن ذلك التقوقعُ في قالبٍ محدد ، لغويٍ تارةً ، وموسيقيٍ تارة أخرى .

ورفضوا حتى مجردَ التفكيرِ في الخروج من هذه الغرفة ، حتّى وإن كان الظرفُ الأدبيُّ أو الحياتيُّ لا يستدعي هذه الفخامةَ وهذا الجرسَ ، فانغلقوا علي أنفسهم ، وأغلقوا أبواباً فاعلةً ، كان من اليسير عليهم أن يلِجوها ، فاتحين بها آفاقاً ومنعطفاتٍ شتَّى ، ومحدثينَ بها عصفاً ، وتوالداً لأجيالٍ لغويةٍ جديدةٍ تنتمي للغة الأمِّ ، متواصلاتٍ بحبلها السُّرِّيِّ ، حاملاتٍ جيناتها الأساسية ، ولكنها أكثر شباباً ، وتجدداً وطاقةً ، وخلايا ، وحيويةً ، ليصبَّ كلُّ ذلك فى خدمةِ الفكرةِ والطرح .



وكثيرون أيضا لم ينفتحوا على اللغةِ الفخيمةِ والمعجميةِ ، فتبسطوا حد الخلل ، وراحوا يبنونَ إبداعهم بشيءٍ من يسيرِ اللغة ، ومحدوديةِ الإتقانِ ، وانتفاءِ الجرسِ والموسيقي ، بل وحتى الإيقاعُ الداخلي لم يعد ملموساً .

وهذا التبسط ربما لم يكن عن عدم قدرةٍ معرفية وحسب ، بل ربما عن عداءٍ " نعم عداءٍ للغة " وهم كُثْر ، فقدموا إبداعاً أو كتاباتٍ هشَّةً ، تهبط باللغة وبهم ، وقد وقعوا فى النفقِ الهشِّ كما وقع أصحاب الفريق الأول فى النفق الفخيم والمعجمي ، وأعتقد أن كليهما أضرَّ وأضير .



أما الذين تعاملوا مع اللغة ، على أنها الأداةُ ، والبَوصلةُ ، والدفَّةُ ، وقصَّاص الأثرِ ، وعجلةُ القيادة ، ليصلوا بكل هذا إلى الهدفِ الأخيرِ مباشرةً ، وعلموا أيضاً أن الإطار " الكاوتشوك " ليس هو الذى يحمل السيارة ، بل الهواءُ الذي يملأ هذا الإطار ،

هؤلاء هم الذين استطاعوا أن يمتطوا فرسَ اللغةِ ، فكانوا أسرعَ وصولاً ، وأصدقَ عاطفةً ، وأعظم احتكاكاً وتوهُّجاً ، فلمسوا الواقعَ المعيشَ والإنسانيَ ، دون أن ينفصلَ المتلقي عنهم ، أو ينفصلوا هم عن المتلقي .

بل واستطاعوا خلقَ كيمياءَ متجانسةٍ بينهم وبين المجتمعِ وقضاياه ، فتفرَّدوا ، وتجاوزوا ، وأصَّلوا ، وقادوا ، وصارت لهم وبهم مدارسُ جديدةٌ ، بل ومفرداتٌ تصكُّ بأسمائهم .



فتعددت الأجناس الأدبيةُ ، التي ربَّما هي الراكز الأساسيُّ فى الإبقاء على اللغةِ ، وتناميها وتحديث الـ

SOFTWARE

الخاصَ بها إن جاز التعبير

ومحاولةُ الكتَّابِ السفرَ علي ومن خلالِ اللغةِ ، لعوالمَ أخرى رحبةٍ ، تخدمُ الذَّوقَ ، وتُعرِّجُ علي الهمِّ الإنسانيِّ الآنيِّ ، هي محاولاتٌ محمودةٌ ،

بل أتمني ألا أكونَ متجاوزاً إذا قلتُ هي فرضُ عينٍ علي كلِّ مبدع .

وباختصار هي الضرورة الملحة لإسقاط النص في أرض الواقع ، لأن المبدع هو الذي يقود الثورة التي تشعل الفتيل لتفجير اللغة ، لتستدعي خلفها براكين ، تستخرج الأجيال القادمة منها بعد خمودها معادنَ نفيسةً وجواهرَ لا يستهان بها .

على أن الضررَ الذي أعنيه ؛ لا يتحمَّل تبعاتهِ المبدعُ فحسب ، ولكنَّ أصحابَ القرارِ المنوطَ بهم إدارةُ غرفة اللغة ، لا يقلِّون مسؤلية عن هذا ،

فهناك مسؤولية استدعاء التراث ، على أن يُعرضَ بالشكل الذي يتتناسب و عصرِالمتلقي ، ومن المفيد هنا استدعاء دعوة الأستاذ الدكتور/ أحمد درويش لــ " تبسيط التراث القديم " لأنه حسب قوله " الكتلة تستعصي قليلا علي عمل الرافعة " ( 1 ) وفي محاضرته التاريخية فى نادي القصيم ، والتي كانت تحمل عنوان " آفاق النص الأدبي عند أمير الشعراء أحمد شوقي " قال إن مسرحا كبيرا مثل مسرح الكوميدى فرانسيس فى فرنسا وهي عاصمة كبرى من عواصم الثقافة العالمية لا يعرض إلا إنتاج الكلاسيكيين ، أمثال موليير ، و راسين ، و كورْنِييْ ، و لامارتين " ( 2 ) .

وبالطبع يعرض التراث بلغته القديمة بشيءٍ من التبسيطِ والمعاصرةِ ، فيربط هذا الجيل بمن سبقه وبلغته وتراثه .. حتي عند الكتابة النقدية عنها لابد كما قال الأستاذ الدكتور صلاح فضل " كما يقتضي بالإضافة إلى ذلك توسعا في استخدام المصطلحات العلمية ، وتوخيا لتبسيطها وتقريبها مما عهدناه ، حتي لا يصطدم القارىء بمصطلح مستوحَش يتأبي علي الفهم والقبول " . ( 3 )

وإذا عدنا للدكتورأحمد درويش يقول " لكن هذا المجتمع نفسه حينما دخل مرحلة التدوين بعد المشافهة ، وإلي مرحلة المدينة والحاضرة بعد البادية ، وإلي مرحلة الاختلاط بالآداب الأخري ، والترجمات منها وإليها ، هذا الدخول هو نفسه الذي خلق المقامة في مرحلة ، وخلق آداب المجالس ، وخلق كليلة ودمنة ، ونوَّع حتي في إطار القصيدة القديمة ، فأصبحت قصيدةً تُكتب لمجتمع التدوين ، متطورة في كثير من خصائصها عن تلك التي كانت تُكتب في مجتمع المشافهة " ( 4 ).

ثم يقول " إنَّ أدباً ما يقدم مادته الخام ، مادته الفنية ، في إطار ما يسمي الآن " بأُفق التوقع " والأديب اللامعُ هو الذي يلتقط الحاجة الجديدةَ فيطورُ الإنتاج علي أساسٍ منها " وهو نفس المعنى الذي أشرت إليه من ضروة إسقاط النص في أرض الواقع ، أو ما أسميه فقه النصوص إن جاز التعبير ، مع التركيز على مفهوم الفقه ، حيث إن النص هو صاحب الأساس الفقهي ، يتبعه المتلقي بفقه التأويل ، بما يستدعيه من مكونات النص نفسه ، وأسسه التي يقوم عليها .

*

ومن المعلوم من اللغة بالضرورة - و فقهاً - أن العربيةَ لم تتوقف يوما عن تطوير نفسها ، وكذلك الشعر فهو متجدد دائما ، فهل يمكن أن نقول إن العربية والشعر عند امرؤ القيس هي هى العربية عند المتنبي ، أو إن العربية عند الحُطيئةِ هي هي العربيةُ عند أبو تمام ، بل هل العربية عند شوقى هي هى العربية عند البحتري أو ابن زيدون ، اللذين عارضهما شوقي فى السينية والنونية على التوالي .



وهل يكون مفيدا أن أسأل ؛ هل اللغة عند المجايليين أنفسهم كانت لغة واحدة ؟

وعلى سبيل المثال : لو وضعنا شاعرين من جيل واحد وعصر واحد ، وهما امرؤ القيس وعنترة ؛ الأول ولد سنة عشرين وخمسمائة وتوفي سنة خمس وستين وخمسمائة ، والثاني وهو عنترة ولد سنة خمس وعشرين وخمسمائة وتوفي سنة ثمان وستمائة .. أي أنَّ عنترةَ وُلد بعد امرؤ القيس بخمس سنوات ، ثم رأينا ما قاله امرؤ القيس :

وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتِها

بِمُنْجرِدٍ قيْدِ الأوابدِ هيكلِ

مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً

كَجُلْمودِ صخرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ من عَلِ

كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ

كما زَلَّتِ الصَّفواءُ بالمُتَنَزَّلِ

فهل اللغةُ هنا ؛ بمدلولها ، ومفرداتها ، ووظيفتها ، وصورها ، وتناميها ، هي اللغة عند عنترة حين يقول :



لمَّا رأيتُ القومَ أقبلَ جمعُهم

يتَذامرونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّمِ

يَدْعونَ عنترَ والرِّماحُ كأنَّها

أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهمِ

مازِلتُ أرميهم بِثُغْرَةِ نحْرِهِ

ولَبانِه حتَّى تَسَرْبَلَ بالدَّمِ

فازْوَرَّ من وقعِ القنا بِلَبانهِ

وشكا إليَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ

لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى

ولكانَ لو علِمَ الكلامَ مُكَلِّمي



ولعلي لا أُلامُ إذا ما تركتُ المتجايلين امرؤ القيس وعنترة لأحل ضيفاً علي المتنبي والذي يجئ بعدهما بحوالي أربعمائة سنة ٩١٥ - ٩٦٥ م ونستمع إليه وهو يقول :

ومُهجةٍ مُهجتي مِنْ همِّ صاحِبِها

أدْرَكتهــا بِجــــــــوادٍ ظهرُهُ حَرَمُ

رجلاهُ في الرَّكضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ

وفِعْلُهُ مــا تريدُ الكفُّ والقدَمُ

ومُرْهَفٍ سِرتُ بينَ الجحفلينِ به

حتَّى ضَرَبتُ وموجُ الموتِ يَلتَطمُ



ثم ما بال ذلك إذا قفزنا قرناً ونصف القرن لنصل إلي كل من :

نزار قباني

ليس هناك سلطةٌ

يمكنها أن تمنع الخيول من صهيلها

وتمنع العصفور أن يكتشف الآفاق

فالكلمات وحدها

ستربح السباق

مرورا بـ محمود درويش

لماذا تركت الحصان وحيداً ؟

ـ لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها

ثم هذه القفزة العصرية في تناول أحمد عبد المعطي حجازى فى قصيدة " مذبحة القلعة " :

يا حصاني طر بنا

وإذا الفارس في السحب عقاب

يتهادى شاهرا في الجو سيفه

معطيا للشمس أنفه

تاركا للريح أطراف الثياب

كإله وثني يتمشى في السحاب

فإذا ما قارب الأرض قفز

والحصان

صار أشلاء على ظهر التلال



فهل ظلت اللغةُ لغة عنترة وامرئ القيس ، والصورةُ ، والفعل ، والفاعل ، والدّال والمدلول ، أم أن كل هذا تغير وتطور تطورا في إطار ما يسمي " بأفق التوقع ... حسب أحمد درويش " ؟ . وإن كنَّا نأمل الآن أن يتم كسر أفقَ التوقع .



بل الدَّال على اختلاف اللغة العربية قالبا ، وربما مفرداتٍ ، وآليةً لم يتوقف عند الشعر ، فها هو أبو عمروٍ بنُ العلاء يقول والعهدة هنا على الدكتور محمد عبد المطلب يقول " يقول أبو عمروٍ بنُ العلاء اللغة التي نزل بها القرآن على محمد صلي الله عليه وسلم ، عربية أخرى غير كلامنا هذا " وكان هذا حديثة بعد مائة وخمسين سنة فقط من نزول القرآن ، ويقول عبد المطلب متسائلاً " هل لو قرأ الجاحظ الجرائد اليوم بهذه اللغة العربية أكان بإمكانه استيعابُها ؟! " ( 5 ) .

ويكمل الدكتور عبد المطلب أيضا " الأدب هو النص اللغوى ، ولا شيء سواه ، واللغة هي العنصر الأساسي ، هي الوسيلة والأداة ، فإذا لم تكن هناك وسيلة لاستيعاب اللغة أصلا ، فلا إمكانية لاستيعاب الأدب ولا لاستيعاب النقد أيضا " .

ثم :

أقول هذا كله ، متجها إلى الشاعر الدكتور حسن طلب ، فأجد فى ديوانه كل مستويات اللغة ، بدءا من المعجمي الجاف ، إلى المعجمي الطيع ، إلى اللغة الآنية ، ثم إلي لغة الشارع . ( 6)

لكن لابد من تنبيه هام ، قبل أن نبدأ الحديث عن حسن طلب ، مفاده أنني كلما عرجت على إبداعه ، طاردتني الأسئلة ، فليسامحني القارىء الكريم ، لأني سوف أطارده أنا أيضا بل وأطارد حسن طلب نفسه بهذه الأسئلة .

حسن طلب كان ومازال تشغله اللغة ، ربما أكثر مما شغلت جميع شعراء عصره مجتمعين ، علي أنني أختلف مع الذين يقولون : إن حسن طلب ينفذ من خلال الشعر والإبداع إلي اللغة لأنه لا يفعل هذا فحسب ولكنه ينفذ من خلال اللغة إلي الشعر والإبداع أيضا فهما شاغلا فكره معا وفى نسق واحد وبوتقة واحدة .

فهو المغني :

سقوني سلافة ثغرٍ بإبريقِ عينِ

سقونى ... وقالوا

متى كان ينفع وقت الشراب المقالُ

سقوني .. وقالوا لا تُغنِّ

وهل أستطيع سوي أن أغني !

وهل كان غير الغناء يترجِم عنّيِ !

نعم حسن يطلب يغني ، يغني مرة لذاته ، ومرة للمتلقي ، ومرة حتي للأشياء ، مستخدما مستوياتٍ من اللغة تناسب متي يغني وتناسب من يغني لهم .

هو يخلق حالاتٍ متعددةً ، منطلقا ربما من مفردة واحدة كما يقول عنه الدكتور عبد الحكم العلامي " إنه يريد أن يقيم كونا شعريا بمفردة واحدة ، نعم هو ذا ، وكما هو حادث بالفعل في ( آية جيم ) علي سبيل المثال وفي غيرها من قصائد ( سيرة البنفسج ) التي شكلت مفردةُ البنفسج مادةَ فعلها الشعري ، بعد أن تم زرعها هكذا لتصبح مُحدِّدةً للمسار " ( 7 ) .



حسن طلب يستدعى مخزونا ثقافيا هائلا ، من اللغة ، والفلسفة ، والتاريخ ، والأديان ، وعلم الجمال ، والحضارات ، ليكتب قصيدة .

وهو ربما كان يكتب وهو فى حالة اللاوعي ، يأخذه التاريخ أو المرموز إلي حيث شاء : ( أولى الزبجدات ) المجلد الثاني



تبرَّجت القصيدة لى

وكلمني الزبرجد .. قال من تهوي

فقلتُ غَوايةٌ

في غير وقتِ الغيِّ تذهبُ بي .. فأذهب !

قال : من أغواكَ ؟

قلتُ الشادنُ الأحوي !

فضمَّ يديَّ .. دسَّ تميمةً في الكفِّ

أطلعني علي رمزٍ لمرموزين .. أقرأني سلام الحرفِ

قال : ألا لأمرٍ تَطَّبيكَ الآن أشكاٌل بلا فحوى

فكنْ أقوى !

ورُدَّ علي البنفسج ما اطَّباك به البنفسجُ لا يراودْك البنفسجُ بالشذا



هل هي الحالة التي تتلبس حسن طلب ، كما يتلبس الجنُّ الإنسانَ ، فينطق لا بلسانه ، ويتحرك لابرجليه ، ويغيب في هذه الحالة المجهِدةِ ، أو يخضع لثقل الوحي كما يئن منه الأنبياء عند تلقيه ؟!

أقول هذا ، وحسن طلب ماثلٌ أمام عيني ، ليس الآن فحسب ، ولكنه ماثل أمام عيني ، وهو يعالج القصيدة وتعالجه ، وجبينه يتصبب عرقا ، ربما يشبه مع الفارق هذا المريض المصاب بنونات من الصداع النصفي في أعلي درجاته ، أو المصروعَ الذي لا حول له ولاقوة ، تجاه كل ما يصدر عنه ، لكن الفارق بين طِلب وبين هذا ، أن طِلب بعد إفاقته يتذكر كل ما نطق به وما أوحي الجني والحالةَ التي تلبسته فيعتدل ليشرب فنجانا من القهوة ويخط على الأوراق كامل المشهد .

ولا شك أن حسن طلب كان يقاوم في كثير من الأحيان هذه الحالة ، وهذا التعب الشديد الذي كان ينتابه فتراه يقول : البنفسجة الخؤون جزء 2

ذلك وقت أستطيع فيه أن أصرخ نادما ً

إليكَ – ويكَ عني

أيها البنفسجُ الملوثُ

أيتها اللغةْ

كُفِّي عني

بأنصاف الكؤوس الفارغة

وأخرجيني من فُسَيْفِسائك المراوغة



نَعم اللغةُ مراوغة عند حسن طلب ، تُلْمِحَ تارة ، وتتكشفُ تارة ، وتبدو كظلٍّ تارة , وتشفُّ تارة أخري .

لكن السؤال : هل بعد أن توضأ حسن طلب باللغة وارتدي ثياب الكتابة ، وتطيب بالفلسفة وعلم الجمال ، كان أحيانا ينطلق إلى التنظير ، وإلي النقد ، وهل كان فعله هذا متعمدا ، أم ضمن الحالة التي تلبسته ؟!

فيقول علي لسان الطهاوي :

ها هو ذا الطهطاوي الكهلُ

تشبَّع من معرفة الجهل ِ .... فلاذ – أخيرا – بقناع الصمت الواقي



لو يقدر أن يتكلم قالَ :

لقد ضيعتُ حياتي هدراً

ما الحبُّ بلا محبوب

ما الشعرُ بلا أسلوب



وهو يقول أيضا :

الزمنُ الموزَّعُ في تفاصيل القصيدةِ

أو فضاءِ النصِّ؟

آخرُ ما يرومُ من الصَّهيلِ ــ إذا دنا الموتُ ـ

الجواد المُجْهَدُ ؟

بل وكان حسن طلب رغم ما اتهم به من لجوئه إلى غريب اللغة ، وصعبها ، وإغراقه فيها كما حدث كثيرا في ديوانه آية جيم ، والذي هاجمه به الكثيرون ومنهم الدكتور مصطفي محمود واتهم الديوان حسب مقاله المنشور بجريدة الأهرام بأنه " عبث أو لاشيء " ، وأعتقد أن الديوان تم مصادرته لفترة طويلة ، وأعتقد أيضا أن هيئة الكتاب أعادت توزيعه مرة أخرى فى إحدى دورات معرض الكتاب الذي كان يقام في منطقة فيصل بالقاهرة ، رغم هذا كان يرى حسن طلب أن القصيدة في يديه تتحول يقول :

أجل لابد من دفع القصيدة فى تحولها

إذا بلغت أدانيها أقاصيها

أطاعت أمر عاصيها !

وسمت في خصائصها

سمت لخلودها

لم يبق منها غير هيكلها

فلا ثبت اليراع بإصبعي

إن كنتُ قد أقحمت فيها

لفظةً هجناءَ

أو أنزلتها

في غيرِ مُنْزَلها

هو إذن يري القصيدة روحاً وهيكلاً والذي يصعد ويسمو من القصيدة هو الروح ، ثم لا يتردد فى الدعاء عليه ، بأن لا يثبت اليراع في يده إن فعل كذا وكذا ، والأهم أنه لا ينزلها في غير مُنزَلها وليس مَنزِلها ، في تصوير يتفرد به حسن طلب ، وكأنه هذا الذي يرتب الكلمات والقصيدة ترتيبا يعدل ترتيب الخلق من اللاشيء ، فيعيد القصيدة سيرتها الأولي فى إهابها وإطارها وصندوقها البنفسجي أو المُطَعَّمِ بالزبرجد .

على أننا نري في حالاتِ حسن طلب حالاتٍ تعيد إنتاج نفسها ، فالمفردة التي تحدث عنها عبد الحكم العلامي هي البنفسج وهي زمان الزبرجد وهي آية جيم فهل يسمح لي حسن طلب أن أرتب هذه الدوواوين الثلاثة على أنها ثلاثة أجزاءٍ لديوان واحد ؟ ، وبالطبع من حقه أن يرفض ما ذهبت إليه .

وهل كان أيضا حسن طلب يبحث عن إجاباتٍ لنفسه هو ، من خلال الرجوع إلي ما كتب ، أو بمعنىً آخر هل كان يعالج نفسه بشعره ؟! وهل كان يستفيد من حالاته السابقة ، في حالته الآنية ؟

قرأت من " آيةٍ جيمٍ "

بعضَ مازلتُ أعي

وبين أضلعي دفنته !

قلتُ : وداعا أيها الطفلُ الذي : قد كنتُ كنتُه !

يقول هذا .. ليس في ديوان آية جيم الذي يضع عنوانه ما بين قوسين في قصيدته " ينصبُّ في أذني بلذة الترديد " بل في ديوانه " طهطا البيت طهطا القبر " .

وأيضا وقف حسن طلب من خلال القصيدة ، ليرسل رسالة في غاية الأهمية متعلقةً بالشكل ، الذي لا أدري لماذا عادت الحرب عليه مرة أخري ، ولمصلحة من ، فالشكل لا يمكن أبدا أن يحجر علي إبداع ، أو يزيِّن إبداعا آخر ، بينما الإبداع بإمكانه أن يزيِّنُ الشكل ، يقول عيد عبد الحليم " أنه لا قانون للإبداع سوي الإبداع ، وأرى أن النص الشعري يمكن أن يستوعب أشكالا مختلفة ، بعيدا عن النمطية التي يروِّج لها البعض ، رهان الشعر أن يقترب أكثر من الحسِّ الإنساني " ( 8 ) .

وأعتقد أن حسن طلب أراد أن يوصل رسالة مفادها أن المبدع حر فى اختيار الشكل الذي ينطلق منه ، وبالطبع أنا متوافق معه تماما في هذا الرأي حينما يقول :

في قصيدته الجيم تجمَحُ

أجل ...

للشاعر العادي أن يختار قافية

ويسرفَ فى تسوُّلها

ولي أن أستقلَّ

بما يجلُّ جلاله

عن رفضها أو تقبُّلها

ولي أن أستعيذَ بوردة أخري

تترجم آيةً كبري

انظر كيف تكون هذه القافية المتَسوَّلَةُ ؟ ! لابد أن يعيدني هذا إلي الدراسة التى خصصتُ بها ديوان " رطب الصيف " للشاعر عبد الحكم العلامي وقلت

فيها " إنَّ بعض الشعراء العموديين أو الخليليين هم أشد خطرا علي القصيدة الخليلية من القائلين بموتها ... إلخ " وآفتنا هي الأحكام المطلقة يقول الأستاذ الدكتور يسري عبد الله " لإيقاظ العقل العربي لابد من الابتعاد عن الأحكام المطلقة ، التي تنطلق من رؤية يقينية ثابتة ، فكل شيىء قابل للمراجعة ، والعالم نسبي ، وهو ابن للتحول والتغير المستمر ، ويتصل بهذا الشأن اتصالا وثيقا توسيع نوافذ الحريات البحثية والفكرية " ( 9 ) . ولعل ما يقوله يسري عبد الله يُحيلنا أيضا إلي عميد الأدب العربى طه حسين وتبنِّيه وإيمانه بمذهب ديكارت وآلية الشك عنده مع الفارق .

هذا و يري حسن طلب أن الحروف لابد أن تكون بقصد ليس تعريفا للشعر حسب ما قال به جعفر بن قدامة من أن الشعر هو الكلام الموزون المقفي بقصد ، ولكن حسن طلب يذهب إلى أبعد من هذا فيقول في صدر ديوانه " آية جيم " " الحرف يسري حسب القصد ، جيم جنَّة جيمٌ جحيم "

لكن ما لا أفهمه لماذا فعل حسن طلب ما فعله حينما قال في مقدمة الأعمال الكاملة الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة " بقدر ما كان المجلد الأول ينتمي بمحصوله العام إلي عقد الستينات ، بعد أن تم إسقاط القصائد العمودية ... إلخ " والسؤال لماذا يسقط حسن طلب قصائده العمودية ؟

هذا وإن استعرنا جملة الشاعر الكبير الحساني حسن عبد الله ( 10 ) عن حجازي في مبحثه الذي قدمه هنا في الكرمة حين أقمنا مؤتمراً بعنوان ( أحمد عبد المعطي حجازي رائدا ) قال عن حجازى " إن حجازي يحترم عمود الشعر " ونحن أيضا بإمكاننا أن نطبق هذه المقولة على حسن طلب " إن حسن طلب يحترم عمود الشعر " .. فطريقة الكتابة عند حسن طلب تحيلك إلي موسيقي مذهلة ، وتراكيب لغوية غايةٍ في الروعة والإتقان ، وقافية قدَّت من علم الجمال ، وإن كانت تأتي متأخرةً ، وليست علي النسق الخليلي ، بل إن حسن طلب نفسه ربما فاته أن هذا الجزء وغيره يحتوي على فقرات عمودية كثيرة منها علي سبيل المثال

يناديكِ الأريجُ علي الغصون

بنفسجةَ الندامـةِ عنك : دوني

متى تكن الخيانةُ فيكِ طبعا

فخوني ما حلا لكِ أن تخوني

نثرتُ عليكِ من شعري فنونا

ولولا أنتِ أزرت بالفنون

يَحُطُّ الشعرَ أن تُعزىْ إليه

لأن الحبَّ هان عليكِ هوني

ص 78 جزء 2

ومثال :

طبيبكِ لا يبشر بالشفــــــاء

فَداؤكِ يستحيل علي الدواء

رآكِ وقد تعلَّقَ من أمامٍ

بكِ الدَّنسُ المقيمُ ومن وراءِ

يعزُّ عليكِ أن يبقى طهورا

رداؤكِ – ويكِ – قُبِّحَ من رداءِ

فحسبي مغنماً أوْبي سليماً

فإني قد نجوتُ من الوباءِ

ص 83 جزء 2

بل تراه يصدر أبياتا لشعراء قدامي أو يتوسط بها شعره كما صدر قصيدته " سندسةٌ علي سندسةٍ " بقول الشاعر العذرى :

سقوني وقالوا لا تغنِّ .. ولو سقوا

جبال حُنينٍ ما سَقوني .. لغنَّتِ

ولربما كان يقصد طِلب أنه استبعد القصائد العمودية الكاملة ، ولم يستبعد هذه المقطوعاتِ العموديةَ التي تتخلل الديوان ، وأيضا من حقنا أن نتسائل لماذا فعل حسن طلب هذا ؟



أنتقل إلي السؤال التالي وهو :

هل كان حسن طلب في مفرداته التي أراد أن يقيم بها كونا " حسب عبد الحكم العلامي " ، هل كان يري أن البنفسج والزبرجد مثلا آيتين كآية جيم ؟ وهل كان يخصهما بفكرة وفكر معين ، قد لا يكون واقعيا ، فقط هو بين الحقيقة والخيال ، والتمرد ، والرمز ، والمرموز ، حتي إذا جاء إلي الحديث عن الحقائق مثل حقيقة " نجيب سرور " تراه يقول لك حذار فهذه ليست بنفسجةً ولكن رجع حشرجةٍ لمومياء الشقيِّ الآدمىِّ " وحينما يتحدث عن أو إلي "صلاح عبد الصبور " يبدأ بقوله " حذار .. فهذه ليست زبرجدةً ولكن فيضُ مَوْجدةٍ ودمع لا يغيض " ؟ وإن كان هذا فلماذا يعود عندما يتحدث إلي روح جمال حمدان

يقول " بَدارِ .. فهذهِ ليست زبرجدةً ولكن بعض هلوسةٍ وتلويحٌ بأعلامٍ منكسةٍ " أو حينما كتب " زبرجدة إلى أمل دنقل " دُلَّنا أنت يا دكتور حسن طِلب .. فقد أتعبْتَنا .

عالم حسن طلب عالم فوضويٌ ، مرتبٌ ، يرتفع بك فجأة ، ويهبط بك أيضا فجأة ، ودون أن ينبهك إلى ربط حزام الأمان ، فيظل قلبك طول الرحلة ما بين بين ، لكنك حينما تصل وقليلون هم الذين يصلون ، يكتشفون روعة الرحلة ، بل ويتبادلونها في مجالسهم ، ومع تابعيه ، ومُريديه .

حسن طلب وعى تماما أن اللغة مستويات ، وأن المتلقين مستوياتٌ أيضا ، بل وإن الأحداث مستويات ، ولا شك أنه من أوائل الذين قرأورا " الناس في بلادى " لصلاح عبد الصبور " وقرأ له :

ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ
فشربت شاياً في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق
قل ساعة أو ساعتين
قل عشرة أو عشرتين
وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق
ودموع شحاذ صفيق

ورأي هذه البساطة واليسر في لغة صلاح عبد الصبور ، والتي أحالها العقاد إلي لجنة النثر ، فأعادها الإبداع والعصرية والتطور وإسقاط النص في أرض الواقع إلي صدارة المشهد الشعري ، وبني عليها النقاد ، ودخل مدرستها الكثيرون ، رغم أن صلاح عبد الصبور ارتفع بلغته في المسرح الشعري ، درجات كبيرة ، حتي تجاوز كل الكتاب المسرحيين آنذاك ، ( طبعا من وجهة نظر البعض وليس الكل ) , فقدم مسرحا اعتبر مدرسة جديدة في المسرح الشعري ، وقد تجاوزت لغته المسرحية معجما ومصدرا وصورة لغته في دوواينه الشعرية ، لأنه كان يعي أن المسرح الشعري ، يُكتب للخاصة ، علي خلاف القصيدة التي تكتب للخاصة وللعامة ، إن صح هذا الطرح .

ولا شك أنه قرأ وعاصر وزاملَ أحمد عبد المعطي حجازي وقرأ له " مدينة بلا قلب " وتفاعل مع ما قاله حجازى :

الناس حولي ساهمون
لا يعرفون بعضهم...هذا الكئيب
لعله مثلي غريب
أليس يعرف الكلام؟؟
يقول لي.. حتى.. سلام!؟
..يا صديق
يكاد يلعن الطريق
ما وجهته؟
ما قصته؟
!!لو كان في جيبي نقود
لا.. لن أعود
لا لن أعود ثانياً بلا نقود
!!يا قاهره

قصيدة الطريق إلى السيده

الشاهد هنا أن حسن طلب حينما نشر بعض قصائدَ ، أو مقاطعَ من ديوانه تحت الطبع " سِفر الشهداء " وما بين قوسين " هذا العنوان المحبب إلي قلبي ربما لأن العنوان يتشابه في جزء منه مع عنوان ديواني – سفر التَّوسُّلِ ـ الصادر سنة 2013 م "

حينما نشر بعض مقاطع من ديوانه تحت الطبع " سفر الشهداء " عاتبه كثيرون على لغته ، التي رأوا أنها بعُدت عن الشعر كثيرا ، واقتربت من لغة الشارع ومنهم الشاعر والناقد الصديق ( السيد العيسوي ) وقد ردَّ عليه طِلب وشكره علي رؤيته بأدبه الجم والمعتاد ، لكني أقول إن اللغة العربية لها مستويات ، كما عرَّجت علي ذلك في مقدمة البحث ، ولقد صار بإمكاننا الآن أن نطلق مصطلح " العربية الدارجة " وهي عربية صحيحة معجما ، وملتزمة بكل القواعد ، لكنها لغة بسيطة ، صارت علي كل لسان ، وأصبحت عصريةً ، وقارئها لا يحتاج لأن يفتح المعجم ليفسر المعني ، ليس هذا فحسب ، بل نزعم أن مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخره حطه السيل من عل .. كميت .. والصفواء .. ولَبَان . وازورَّ .. والقنا .. وغيرَها كانت في عصرها لغة عربية دارجة ، تتناولها كل الألسنة دونما تغريب أو التباس .

فحينما يتحدث حسن طلب عن " يناير 2011 م " وهو عاش هذا وتفاعل معه ، وغضب , وانفعل , وصفق , وقام , وقعد ، بين جمهور أكثره من العامة ، وربما المدسوسين ، وبعضه من المثقفين ، وبعضه من النخبة ، والأمر يذهب ويعود ، ثم يذهب ولا يعود ، والتخبط سيد الموقف ، والمتربصون المتربصون ، فماذا كان عليه ، وأيَّةُ لغةٍ كان بإمكانها أن تؤدي الغرض ، إذا ما طبقنا فقه إسقاط النص في أرض الواقع ؟ ! هو تحدث عن هذا كما يلي على سبيل المثال :



آخِرُ مَن أتَوْا إلى الميدانِ يا شهْدُ

وأولُ الذين غادَرُوا.. همُ الفُلولْ

بِئسَ الرِّجالُ فى الخُروجِ.. والدخولْ!

همُ الذين صادَرُوا الثورَةَ

همْ مَن هَتَكوا الأعراضَ

همْ من قتلوا الشبابَ غدْرًا

ثُم ساروا فى جِنازةِ القتيلْ

وساوَمُوا بقيَّةَ الثوَّارِ عن حُلمِهم النبيلْ

يا شهدُ همْ لم يَحرُثوا الأرضَ.. وهمْ لم يزرَعُوها

إنما سطَوْا على المَحصولْ

فليست الثورةُ فى قانونِهمْ يا شهدُ

إلّا سُلَّمَ الوُصولْ

وهكذا تَسلَّقوا فأصبَحُوا همُ الرُّؤوسُ

بعدَ أنْ كانُوا همُ الذُّيولْ

بِفضلِهمْ صارَالربيعُ كالخريفِ

عبِثُوا بدوْرَةِ الفُصولْ

لو استمرَّ حُكمُهمْ سيعرضُونَ الأرضَ للبيْعِ

ويستَوْلُونَ يا شهدُ على الريْعِ

ويَعبَثونَ بالأُصولْ!

أيَّةُ لغة " وأنا بالطبع أقصد اللغة ومكوناتها ، وعناصرها ، وصورها ، وأدواتها " كانت تصلح في رصد هذا المشهد ؟ إلا لغةٌ كهذه أو قريبةٌ منها !؟ أ

يقول الناقد العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي فى كتابه المهم ( الذرائعية فى التطبيق ) والذي أصدرته مؤسسة الكرمة ضمن مشروعها الطموح عام النقد الأدبي يوليو 2017 – يونيو 2018 م " فن الشّعرَ مِنَ الفُنون العربيّة الأولى عند العرب، وقد ظهر هذا الفنُ في التّاريخ الأدبيّ العربيّ منذُ قديمِ العصور، إلى أنْ أصبحَ وثيقةً يمكنُ مِن خلالها التعرّفُ على أوضاعِ العرب ، وثقافتِهم ، وأحوالهم ، وتاريخهم ، فقد حاول العرب تمييز الشّعر عن غيره من أنواع الخطاب المُختلف " (11 )

وقد اقتصرت اللغة هنا فى حالة حسن طلب وسفر الشهداء علي وظيفتها الإنسانية ، والثورية ، وإن إنخفضت حدَّتها البلاغية بعض الشىء ، لكنها وصَّلت رسالتها ، بقدرةٍ فائقةٍ وتجلٍّ واضح ، وكانت كمياتها بميزان الذهب بلا زيادة ولا نقصان وهذا مكمن تفاعل الرؤية ، وعامل نجاحها وأصالتها ، يقول الناقد الدكتور يسري عبد الغني " الأصالة التي يجبُ أن يتمتع بها الشاعر عندما يعبِّر عن ذاته أو عن نفسه ، وتصوير مشاعرهِ وأفكاره بصور مستمدة من تجاربه الخاصة ، ومن بيئته التي يعيش فيها ، بشرط ألا يلجأ لتقليد القدماء ، " ( 12 )



أصابني الإجهاد ، وانا أركض في مساحات ضيقة علي حد تعبير الصديق والشاعر " سفيان صلاح " فما بالي إذا أردتُ أن أركض في مساحات شاسعة ، يتملكها حسن طلب ، وبعقد رسمي أخضر ، من هيئة المجتمعات اللغوية الجديدة ، حصل عليها ، بعد أن قدم عطاءه ، ودفع التأمين ، ولم يجامله فيها أحد ، ولا تستطيع هيئة الرقابة الإدارية أن تنازعه عليها .. هي إذن أرض حسن طلب .

لكن وأنا أسطر آخر سطور هذا المبحث ، أكاد أجزم أنني لو دعوتُ حسن طلب الآن أن يقف علي هذه المنصة ، ليتحدث شاعرا ، ودون أن يردد كلمة واحدة من ديوانه الكبير ، ودون أن يختل معه الوزن والموسيقي ، لاستطاع ذلك ، ولعدة ساعات ، لا يوقفه إلا التعب الجسماني ،

إذن هذه القدرة اللغوية الهائلة ، وهذا الأفق الهادر ، كيف له حتي هذه اللحظة ، لم يرتد آفاق المسرح الشعري كاتباً ومؤلفا ؟!

طرحت عليه السؤال في معرض القاهرة الدولي للكتاب منذ عشرة أعوام ، وطرحته عليه في منتديات عدة ، وطرحته هنا ، ووعدني بأن يفكر في الأمر ، وأن يهديني أولي مسرحياته الشعرية ، إن تم له هذا ، وما زلت منتظرا .

ولا أغادر مبحثي هذا دون أن أذكر وصيته حين قال :

تركت فيكم كِلمتي تلكَ ..

وصيتي لكمْ

يا من تشيعونني

أن تجعلوها شاهد الضريح



وأيضا وصيته بالغة الأهمية لأم علىٍّ :

يا أمَّ عليّْ

ما هذا بأوان بكاءٍ .. ليسَ ولا بأوانِ حدادٍ أو نعيْ

لو كان علىّْ

قد شبَّ الآن عن الطوقِ .. وما زال على ما كنتُ أربيهِ

وكان نجا من سلسلة النكباتِ المتتالية .. وصار فتيً

فعليه أن يطلب ثأر أبيهِ من الشخصيات الآتيةِ

فممن قلتُ له عنه .. وكنتُ أخافُ أسمِّيهِ " فلانُ بن أبيه"

من سمسار اللحظةِ .. من كل زبانية الماضي

وربيب النعمة والمتغاضي

من رؤساء الأحزاب الأربعةِ .. من الإمَّعةِ المنتسبِ إلي مخدوميهِ !

من الخانع والقانع والراضي

وإمام الأمة والمتخصصِ في فقه الأزمةِ .. والقاضي .. ومثقفِ صاحبة العصمةِ

من خازنِ بيت المال .. وكاتمِ أسرار البيت العالي

ونديم الوالي .. والوالي

وزعيم المؤتمر الوطنيْ

أرجوكِ إذا حزبَ الأمرُ .. خذيهِ

دعيهِ ينادي من فوقِ القبر علىّْ

كما كان يناديني .. وأنا حيْ

ما زال أمامك الكثير ، وهبك الله بركة الوقت .. وما ذكرتُ هذه الوصية المؤلمةَ هنا وفي خاتمة المبحث ، إلا لأرجوك أن تسمح لنا بأن نوصي بها أبناءنا .. أبناءنا جميعا ، وأن تكون لهم وبهم خارطةَ طريق ، وميثاقَ شرف ، ليكون الجيل القادم جيلا يملك مقدراته في يده .



محمود حسن

القاهرة 30 نوفمبر 2017







الهوامش والمراجع :

( 1 ) الأستاذ الدكتور أحمد درويش أستاذ الأدب والنقد بكلية دار العلوم .. جامعة القاهرة في حديثه للفضائية المصرية الثانية برنامج بنصبح عليك ١٧ مايو 2016 م .

( 2 ) الأستاذ الدكتور أحمد درويش في محاضرته بنادى القصيم بالسعودية 4 مايو 2013 م وقدم المحاضرة الدكتور حمد السويلم .

( 3 ) الأستاذ الدكتور صلاح فضل في مقدمة كتابه " علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته الطبعة الأولى 1998 م " .

( 4 ) الأستاذ الدكتور أحمد درويش في محاضرته بنادى القصيم بالسعودية 4 مايو 2013 م وقدم المحاضرة الدكتور حمد السويلم .

( 5 ) الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب في حديثه لقناة الشارقة الفضائية 3 يناير 2014 م

( 6 ) اعتمدنا في المبحث علي ديوان حسن طلب الأعمال الكاملة الجزء الأول والثاني الصادين عن المجلس الأعلي للثقافة 2014 و 2016 م على التوالي .

( 7 ) " حسن طلب شاعر مغاير " قراءة في ديوان " سيرة البنفسج " الدكتور عبد الحكم العلامي .

( 8 ) الشاعر والناقد عيد عبد الحليم رئيس تحرير مجلة أدب ونقد وحواره بجريدة المساء الأسبوعية العدد 22124 بتاريخ 10 يونيو 2017 م .

( 9 ) الأستاذ الدكتور يسري عبد الله أستاذ الأدب والنقد كلية الآداب جامعة حلوان مقال ذهنية الاستباحة والتلذذ بالدم جريدة الأهرام العدد 47831 20 نوفمبر 2017 م .

( 10 ) الأستاذ الحساني حسن عبد الله شاعر وناقد مصري معاصر .

( 11 ) الذرائعية في التطبيق الذرائعية في التطبيق في تحليل النص الأدبى الناقد العراقى الأستاذ عبد الرزراق عودة الغالبي الصادر عن مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية 2017 م .

( 12 ) المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث د . يسري عبد الغني مجلة دراسات أدبية 29 فبراير 2016 م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا