الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنهج البنيوي في العلوم الاجتماعية (4-5)

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2017 / 12 / 13
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الجزء الرابع من الترجمة :
في الثلاثينيات من القرن الماضي ، طور "تالكوت بارسنز" المنهج الوظيفي ، الذي اكتسب شعبية كبيرة ، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية (17). و تتواشج الوظيفية على نحو وثيق بالبنيوية لكونها تركز على الصيرورات أو القوى التي تنجز وظيفة معينة داخل كُلٍ عضوي (18). و تؤكد الوظيفية نزعة كل منظومة لإدامة نفسها ضمن "توازن دينامي" بحيث أن كل القوى أو الصيرورات المتعددة فيها تواصل انجاز وظيفتها المحددة ضمن الكل . و يمكن اعتبار الوظيفية منهجاً أكثر تطوراً من البنيوية في البحث العلمي لكون نموذجها هو : "الكيان العضوي" ، و ليست : "الماكنة" أو "البُنية" . و هي تيسر – مثل البنيوية – التطبيق للأساليب الرياضية في النظرية الاجتماعية و تؤكد التوازن على حساب التطور ، رغم أن كل واحد من المنهجين قادر على الكشف عن التطور و الصراعات الكائنة داخل الكيان العضوي الاجتماعي .
و بالتوازي مع تطور النظرية الاجتماعية البنيوية [في الأنثروبولوجيا و علم اللغة و الاجتماع] الموصوف آنفاً ، حصل تطور آخر في نظرية الاقتصاد السائدة و الذي يجب وصفه بالبنيوية ، رغم أن وشائجه أوضح بالفلسفة الوضعية السابقة . فبالرغم من أن فلرفيدو كان وضعياً صريحاً ، إلا أن تطبيقه للرياضيات في علم الاقتصاد وسّع مجال الفرصة التي أتاحها "جيفونز" و "فالراس" و عبَّد الطريق أمام المقاربة الوضعية-البنيوية في علم الاقتصاد .
و جوهر هذه الطريقة بات جلياً تمتاماً للجميع لأنها ما تزال حتى يومنا هذا هي الاتجاه السائد في الاقتصاد الكلي (19). يتم أولاً خلق عدد من الكيانات الميتافيزيقية بواسطة التعريف التشغيلي المؤثر ، مثلاً : معدل سعر الذهب في سوق هونك كونك في عند بدء التعامل ، أو الانتاج السنوي للقمح في الولايات المتحدة الأمريكية ، و ما شابه . ثم تتم معالقة البيانات عن هذه التعريفات ببعضها البعض بهذه الطريقة أو تلك لتحديد الترابطات المتبادلة بينها (20) . مثلاً ، "أن الزيادة في الأجور تترابط نسبياً مع الانخفاض في التوظيف" ، أو أي أمر آخر . ثم يجري التحويل للبيانات كي تلعب دورها ككيانات مستقلة عوضاً عن العوامل الاقتصادية الأصلية المستقلة المفترضة . مثال : " إذا ما حصلت الزيادة في الأجور ، عندها سيحصل الانخفاض المقابل في التوظيف ." ، و هلم جراً .
و يمكن تطبيق نفس هذه الطريقة عبر كل مدى علم الاجتماع باستخدام المفاهيم المجردة العامة (مثال : "العمال من ذوي الياقات الزرق فوق سن الخمسين" ، "معدل عدد الأطفال في العائلة" ، "المقترعون لحزب العمال" ، إلخ) و التي يتم تعريفها على نحو صارم على وفق المقاسات ، و التي تنقصها أي قيمة نظرية غير تلك القائمة على التحيز .
هذه الطريقة العقيمة تستحق اسمها : "البنيوية" ؛ لكونها – شأنها شأن بنيوية ليفي-ستراوس الأكثر تطوراً – تصطنع تجريدياً من البيانات التجريبية نموذجاً ييسر عليها تطبيق التقنيات الرياضية المتناسبة مع النموذج الخاص بالبحث ، و الذي له نظيره في البنى المحدودة الطبيعية منها و المصطنعة . ففي حالة الرياضيات البنيوية ، يتم تطبيق نفس التقنيات الرياضية لتحليل استجابة الأنظمة الميكانيكية للقوى أو الإزاحات الخارجية عليها ، أو العمليات الخطية البسيطة التي تُطبق في الفيزياء الكيمياوية ، على سبيل المثال .
أما علم النفس البنيوي فقد كان أدنى تأثيراً ، و أشعر أن عدداً من المدارس التي كانت لها روابطها مع علم النفس البنيوي و التي تشترك معه في بعض النقاط لا يمكن ضمها لهذا المفهوم . يبدأ علم النفس البنيوي مع [مدرسة] فيلهلم فونت في "علم النفس التجريبي" التي تقدم تعريفاً للعقل بهيأة أبسط المكونات القابلة للتحديد ، ومن ثم إيجاد الطريقة التي تتلاءم فيها تلك المكونات مع بعضها البعض بأشكال معقدة و ذلك باستخدام آلية الاستبطان المنضبط . و مثلما يحصل في الدراسات البنيوية الأخرى ، يتم التقييم للتجربة (experience) باعتبار أنها الحقيقة دون تحليل أهميتها و لا قيمتها . لذا ، فإن "التشريح للعقل" لا يوضح سوى القليل عن الكيفية و السبب اللذين يشتغل بهما العقل لكون نقطة الانطلاق في البحث تتمثل في التحري عن البُنى المعطاة في التجربة الموثقة من ثم الاشتغال على تلك المادة المثالية . ففي كتابه "منهج في علم النفس" (1909-10) ، يصرح "تجنر" بأن العناصر الضرورية لوصف التجربة الواعية تنحصر بالحس و الشعور . و يتم اعتبار صيرورة الفكرة أساساً على كونها الحصول للإحساسات في التجربة الجارية مع الإحساسات التي تمثل التجربة السابقة . أما السلوك و الشخصية فيقعان خارج نطاق الدراسة التي تعتمدها البنيوية (21). هذه المدرسة تفصُل المعنى عن حقائق التجربة و تفصُل الظروف الاجتماعية الموضوعية عن الاستجابات الذاتية و ذلك على الضد من مركز الاهتمامات التي تشتغل عليها معظم مدارس علم النفس ، بضمنها الجيشتالت و الوظيفية و السلوكية ، على سبيل المثال .
و هناك عدد من الاتجاهات التي انفصلت عن البنيوية أو التي تطورت في الضد منها و التي تواصل تطبيق بعض أوجه الطريقة البنيوية و لكن لا يمكن اعتبار أنها تنضوي تحت لوائها . بذهني هنا معظم النظريات لعلم النفس الإدراكي و علم النفس الوراثي (أو البنائي) لفيجوتسكي و بياجيه و التحليل اللغوي لتشومسكي و "ما بعد البنيوية" لميشيل فوكو .

الهوامش :
(17)
تالكوت بارسنز (Talcott Parsons) (1902-1979) استاذ علم اجتماع أمريكي من اتباع عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم ، عُرف بنظريته العامة للفعل التي عرضها أولاً في كتابه "بنية الفعل الاجتماعي "(1937) و طورها لاحقاً عام 1951 .
(18)
المنهج الوظيفي (-function-alism) في علم الاجتماع (كونت ، دوركهايم ، بارسنز ...) : يعتمد المنهج الوظيفي في العلوم الاجتماعية على مبادئ علم الأحياء نموذجاً في بحثه للبُنى و الوظائف الاجتماعية ، و كذلك في تحليله لصيرورات الارتقاء من خلال منظومات التكيف . و بموجب هذا المنهج ، فإن المجتمعات هي منظومات محددة للعلاقات المتآلفة حيث تشتغل كل مؤسساتها المختلفة مع بعضها البعض مثل الأجزاء المؤلفة للمخلوقات العضوية لتحقيق التوازن الاجتماعي العام ؛ لذا ، فإنه يرى بأن كل الظواهر الاجتماعية و الثقافية هي وظيفية المنحى لكونها تعمل مع بعضها البعض على نحو غير ذاتي و غير واع ، و لكل منها "دورة حياة" خاصة بها يتم تحليلها من خلال الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها . أما الفرد ، فإن أهميته لا ترتبط بشخصه بالذات ، و انما بمشترطات الموقع الذي يتبوأه داخل نماذج العلاقات الاجتماعية القائمة ، و بسلوكه المرتبط بموقعه هذا . و هذا يعني أن البنية الاجتماعية هي شبكة من المواقع الوظيفية المترابطة بالأدوار المتصلة بها . و بسبب تأكيده على منظومات التآلف و الاجماع الاجتماعي و ليس على الصراع الاجتماعي بفعل سواد الاستغلال و عدم المساواة ، فقد تميز بكونه منهجاً محافظاً بطبعه ، و غير قادر على اعطاء التفسير المعقول للتغيُّر و للصراعات الاجتماعية القائمة على قدم وساق في النظام الرأسمالي ، و هو لا يقترح أي بديل للوضع الاجتماعي القائم ؛ الأمر الذي أدى إلى تفككه ، و من ثم موته تماماً في الغرب منذ ثمانينات القرن الماضي .
(19)
الاقتصاد الكلي (macroeconomics) هو مصطلح صاغه الاقتصادي النرويجي "رِكنر فرِش" سنة (1933) و ذلك بالإشارة إلى مجموعة الحلول النظرية التي تتعامل مع الاقتصاد المحلي والعالمي كتلةً واحدةً وذلك من خلال الاشتغال على أدوات الدخل القومي ، و الناتج المحلي ، و الاستهلاك المحلي ، و معدلات البطالة ، و الادخار ، و الاستثمار ، و التضخم . و على الجهة المقابلة ، فإن الاقتصاد الجزئي (microeconomics) يدرس التصرفات الفردية للمنتجين أو المستهلكين في محاولة لفهم كيفية قيام هذيّن الطرفين باتخاذ قراراتهم بغية تحديد سياسات العرض و الطلب .
(20)
التعالق هو ترجمتي لمفردة (correlation) المستخدمة في نظرية الاحتمالات والإحصاء لتبيان مدى الارتباط الكائن بين المتغيرات العشوائية المتعالقة ، مع اتجاه الارتباط الخطي للتعالق . و بكلمة أخرى ، فإن التعالق هو أي علاقة إحصائية ، سببية كانت أم لا ، تنطوي على الاعتمادية ؛ مثل : احتمالات انتقال هذه أو تلك من الصفات الجسمية من الجيل الأول للجيل الثاني من البشر ، أو ارتباط حجم الطلب على السلعة بحجم عرضها أو بسعرها . و هذا المفهوم مفيد في التنبؤ بما سيحصل بين المتغيرين العشوائيين المتعالقين على أرض الواقع ، و يمكن احتسابه رياضياً .
(21)
السبب الحقيقي وراء إلغاء دراسة السلوك و الشخصية المهمين جداً يعود أساساً إلى تعذر قولبتهما بقوانين الرياضيات المعتمدة في منهج البحث . المفارقة هنا هي أن منهج البحث – و ليس معطيات الواقع – هو الذي بات يحدد للعالم الاجتماعي البنيوي ما يمكن دراسته و مالا يمكن من الظواهر الاجتماعية ؛ وهذه المقاربة الميتافيزيقية غير علمية البتة ، حيث يجب على الباحث العلمي أن يدع معطيات الواقع هي التي تحدد له مفردات منهج بحثه ، و ليس العكس .

يتبع ، لطفاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل التبس عليّ الامر
قاسم علي فنجان ( 2017 / 12 / 13 - 18:01 )
السيد حسين علوان تحية محبة وشكر مستمر على هذا الجهد في الترجمة والهوامش التي اغنت الموضوع كثيرا
لدي استفسار وتساؤل عن ما قلته في الهامش رقم 18 من ان المنهج الوظيفي يعتمد على مبادئ علم الاحياء, كنت اعتقد ان المنهج التطوري هو الذي يعتمد على علم الاحياء وبالاخص الداروينية, ام ان الموضوع قد التبس او اختلط عليّ.
وايضا قلت في نفس الهامش بأن هذا المنهج -الوظيفي- كان قد تفكك في ثمانينات القرن العشرين في الغرب وانتهى, هل معنى ذلك ان هذا المنهج يشتغل عندنا هنا في الشرق الى الان.

خالص تحياتي


2 - الرفيق العزيز الأستاذ قاسم علي فنجان المحترم
حسين علوان حسين ( 2017 / 12 / 13 - 22:24 )
تحية متجددة ، و شكراً على المرور الكريم
النظرية الداروينية تخص الارتقاء الأحيائي إذ ترى بأن كل أنواع الكائنات الحية تتكون و تتطور بالانتقاء الطبيعي للمتغيرات الصغيرة الموروثة التي تزيد من قدرة كل كائن حي على التنافس و البقاء و التكائر ، و تفسر أنقراض بعض الكائنات و بقاء غيرها على أساس البقاء للأقدر على التكيف .
الوظيفية في العلوم الاجتماعية هي رؤية كل الظواهر في هذه العلوم ككيان حي يتكون من أقسام يؤدي كل قسم منها وظيفة واحدة أو أكثر تساهم في ديمومتها . هذه الرؤية المستعارة من علم الأحياء محدودة الامكانية في الاشتغال في علم الاجتماع و الاقتصاد التي تتعامل مع كيانات مصطنعة و مفاهيم تجريدية و ليست حيوات دينامية . معلوم أن النظام الراسمالي - مثلاً - يعتمد في اشتغاله و تطوره على عشوائية السوق المتقلب بطبيعته و هذا هو سبب أزماته الدورية التي تستدعي دائماً تدخل الدولة لتحميل العمال أوزارها . يأتي الملفق الوظيفي ليقول بأن للسوق ديناميته الخاصة التي تتكفل بتنظم نفسها بنفسها !
في الشرق المتخلف ما زلنا نسمع بالترابط العضوي الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الفني و الفكري ..
مع فائق الاعتزاز .

اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا