الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المادة ومن أوجدها؟ ح7_2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2017 / 12 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يحتدم صراع الأضداد وتناقضات الواقع وتظهر قوى جديدة أكثر قدرة على الفعل وأشد قوة في الصراع لتعيد بنائ المشهد الكوني من جديد (علمت الآلهة الجديدة بنوايا آبسو، فوكلت الإله إنكي لتخليصهم من مخططات آبسو، وقام بحمايتهم بتعاويذ سحرية لحمايتهم، تبعها بتعويذة أخرى أدخلت آبسو في سبات عميق وشلت حركته، وبينما هو نائم قام إنكي بنزع التاج الملكي عن رأس آبسو، ووضعه على رأسه إشارة لاستيلائه على مكانة آبسو بين الآلهة، ثم ذبحه).
أنتهى الصراع بين قوى التجديد وبين قوى المحافظة في صراع ليس بين الظلمة والنور وإن كانت الرمزيات تشترك بين الإشارتين فالنور هو رمز العمل والحركة والظلام رمز السكون الثبات، ولكن تقديم الرؤية يتحدد ويتبلور بالرمز الثقافي لشعب أو شعوب المنطقة مستندا إلى وعيها بالبيئة والطبيعة وقيمة العلاقات التي تربط الإنسان بالواقع وتصنع وعيه الذاتي بكل الأشياء بما فيها الفكر وأنتاجه ولونه، هذا هو الفرق بين أسطورتين تشتركان في الجذر وتنتميان إلى فكرة واحدة لكنهما مختلفتين بالتقدمين لأن كل منهما تنطلق من واقع مختلف واقع تصنعه إحساسات الوعي وتصيغه مفردات قد تبدو للبعض متناقضة ولكنها في الجذر الإنساني واحدة.
أما الملحمة السومرية شقيقة الأسطورة البابلية فأنها لا تبتعد في أجوائها عن الفكرة العامة للصراع والحركة والقدم المطلق للمادة في الوجود، فهي تشير إلى خلو العالم القديم من أي شيء عدا الماء الذي كان محيطا بكل الوجود فتقول (أن العالم كان فارغاً من كل شيء عدا المياه الأزلية، التي خرجت منها الإلهة “نمو” إلهة الماء، وأنجبت كلاً من “آن” رب السماء، و”كي” ربة الأرض كأول آلهة، وبعد زواجهما أنجبا “انليل”، رب الهواء الذي قام بدوره بفصل أبويه الأرض والسماء عن بعضهما)، الأسطورة لا تبرر لماذا تم الفصل بين الأبوين ولكن تشير إلى الحركة كمصدر للوجود بمعنى دورها في عملية التوسع والتمدد والتجديد، قد يكون ما هو مضمر في هذه الحركة من "أن ليل" تعبيرا عن ضرورة وجود التناقض والتضاد، فلا بد من فوق وتحت كما هما في الأصل زوج وزوجة، هذه الثنائية التي تتكرر في كل الأفكار تعبر عن رؤية وجودية محورها الضدية والتناقض سواء أكانت نتائجه إيجابية أو كانت سلبية مدمرة، ولكنها في جميع الأحوال ضرورية وبدية.
لسبب ما يتعلق بالألهة وقد ذكرته الأسطورة السومرية في النصوص قرر الألهة الأولى "نمو" أن تبادرإلى التوسع في الخلق وتطوير الأداء الوجودي كله، هنا تصدت القوى المضادة للرغبة ونشأ صراع الإرادات مجددا لتشعل فتيل الخلق والتخليق بين قطبي الألهة، فتمضي الأسطورة لتقول (وافقت الآلهة “نمّو” وكلفت “إنكي” بالقيام بخلق هذه الكائنات، الأمر الذي استفز الإلهة “ننماخ” كونها المسؤولة الأولى عن عملية الخلق، وفي حفلة إلهية ضخمة قرر تننماخ تحدي إنكي، رغبة في إظهار عدم قدرته على الخلق، وقامت بصنع ستة أنواع من الإنسان، لكنهم كانوا مشوهين جميعاً، وليسوا بالصورة التي أرادها إنكي، فجاء دور إنكي فصنع ستة آخرين كانوا مرضى ومشوهين أيضاً، فانتهى الأمر بإشراك كل الآلهة في خلق الإنسان، ثم منحهم إنكي القليل من حكمته بما يتناسب مع قدراتهم المحدودة والضئيلة).
هذا الصراع الذي أنتهى بأتفاق عكس ما جاء في بقية الأساطير القديمة يميز الأسطورة السومرية عن سواها حين ترى أفق في النهاية يتضمن أبطال الصراع وعلله وأسبابه عندما يكتشف الإنسان أن الوجود ليس أحاديا أبدا وأن الحقيقة هي بما يمتلكه الجميع لا بما يمتلكها صاحب القوة والسلطان، لذا كانت الحضارة السومرية أرقى الحضارات القديمة المتصالحة مع الواقع والتي تتميز بالحكمة البعيدة والنظر إلى مصير الإنسان قبل النظر إلى مصير القوة.
هذه البساطة والمصالحة والواقعية الإنسانية المحتوى تدل على طبيعة الشعب السومري ورؤيته للحياة والوجود معا، نجد في الضد منها رؤية دموية عنفية ظلامية لا تهدأ فيها الصراعات ولا تنتهي المؤمرات بين أبطالها لتحيل الوجود إلى مسرح جريمة مستمرة، إنها الأسطورة الأغريقية بكل تعقيداتها وتعدد شخوصها ومساراتها، لتطبع شعب هذه الأمة أو الأمم بطابع العنف والدموية والقهر والأستلاب وعشق للحرب والصراع لا ينتهي ولا يتوقف بالرغم من وجود الحكمة كلاعب أساسي في ثنايا الأسطورة، لكنها حكمة خاضعة وغير قادرة على فرض السلام بين الخصوم والأضداد.
تبدأ هذه الأسطورة بتصور للعدم على أنه الظلام المطلق الذي لا حركة فيه ولا وجود محسوس، لتنتقل فجأة من العدم للوجود نتيجة إنقسام العدم ذاته لقطبين (لكن لم تدم هذه الحالة حيث قسم العدم نفسه إلى إلهين هما جايا إلهة الأرض، وأوروانوس إله السماء، وكانا ملتصقين ببعضهما حتى نشب بينهما خلاف فانفصلا عن بعضهما إلى الأبد، وبعد زواجهما أنجبا عدداً كبيراً من الآلهة، قاما بتقسيمهم إلى قسمين؛ القسم الأول هم “التيتان” وهم آلهة تشبه البشر قليلاً وتمتلك قدرات خارقة، بعكس القسم الثاني الذي أطلقوا عليه اسم “الكولكلوبيس”، فقد كانوا أشبه بمسوخ وشياطين قبيحي المنظر إلى أبعد حد، فقام أوروانوس بسجنهم في باطن الأرض، رغم اعتراض الإلهة جايا) ، كان السبب الأول الذي هزم الظلام وبه تم تقسيم العدم إلى قسمين متناقضين متضادين في المكان وفي الوظيفة، هو نمو الحركة البطيئة داخلة لتتسارع مع الزمن وتفرض وجودها كعامل حاسم يحيل كل هذا العدم وقد يكون للمعنى دلالة أخرى حسب الثقافة واللغة التي كتبت بها أصل الأسطورة، يحيل ذلك الوجود المبهم الظلامي إلى وجود حركي متناقض متضاد ثنيوي الطبيعة.
هذه الرحلة الموجزة عن أهم وأشهر الأساطير القديمة التي تناولت موضوع الوجود والخلق الأول وكيفية جريان التحولات الأولى والكبرى فيه تعطينا جملة من النتائج التي نقرأها من بين أصل الفكرة وجوهرها، هذا أولا وثانيا أن الكثير من أساطير الشعوب لم نذكرها لا لأنها لا تحتوي على فكرة أو لا تتضمن رؤية مختلفة أو مخالفة، ولكن المراد من البحث التركيز على نقطتين مهمتين الأولة هو تصور الإنسان عن أصل وجوده هل كان فعلا ينصرف إلى العدم بمعنى اللا وجود المطلق، والقضية الأخرى هي علاقة الفاعل الأول أو الخالق أو الألهة بهذا الوجود وكيفية إدارة عمليات التخليق، بمعنى أنه هو من خلق هذا الوجود وأحدثه من عالم غير معروف أو أنه خلقه فقط بالإرادة دون السؤال عن متى وأين وكيف.
نرجع لدراسة هذه الأساطير وإن كنت أظن أن كلمة أسطورة لا تليق بها كفكرة متقدمة عن نظر تأملي وعقلي وأفضل أن تكون رؤية بدل من أسطورة لما تحمل الأخيرة من معنة التوهم والخيال الفاسد أو اللا حقيقي، هنا لا بد أن نذكر أن هذه الرؤى الكونية التي أنتجتها حضارات متباعدة مختلفة المنشأ والثقافة والبيئة تشترك بما يلي:.
• من الخيوط المشتركة والقاسم بين كل ما أردته الأساطير القديمة وخاصة التي ذكرناها هنا في البحث تتفق على مبدأ واحد هو (أنها جميعا تنفي أن المادة الأولى ولدت من عدم أو أنها مستحدثة من عدم)، فكلها تشير إلى وجود عالم أزلي بصورة ما جاء بشكل البيضة أو ما يشبه النواة الأساسية التي خرج منها الوجود الأول بكل تفصيلاته، بما فيها الألهة أو القوى التي سيطرت لاحقا على مقاليد الحركة ووجهتها، فهي من العالم الأزلي القديم ولكنها ليست هي كل لك العالم أو أن وجودها سابق له.
• كل الروى تشير إلى أن ذلك العالم كان ساكنا فاقدا ومفتقدا للحركة الجوهرية الضرورية واللازمة لتحرك جوهره من الداخل وإن ما حدث من حركة لاحقة كان بطيئا ولكنه مستمر ومتواصل ومتسارع، ليحدث بعد أستحقاق القدرة على أول حركة قادت إلى التغيير والتبديل.
• في جميع الرؤى كان هناك عالم أزلي كما قلنا لكنه مغلق على ذاته ومنفصل بذاته لكنه أيضا موجود وبحاجة إلى فاعل يحرك فيه قانون التناقض والتضاد، فهو عالم قابل بالقوة ليكون محلا لقوانين التضاد والتناقض الأساسية.
• الفكرة الخلقية أو القدرة على التخليق التي نسبت للألهة أو الأرباب أو القوى المسيطرىة نجدها فيها كلها ولدت من داخله وليس خارجا عنه فهي أيضا غير محدثة بحادث لكنها نتيجة طبيعية للوجود المغلق الذي تحرك أخيرا، فالقوة الفاعلة ولدت نتيجة حركة داخلية كان لا بد أن تحدث بالضرورة والقوة الطبيعية للشيء بعدها أفرزت العالم القديم إلى قطبين، فاعل مسيطر خالق مبدع متحكم مدير ومدبرومفعول به خاض ومستجيب وغير قادر على التفلت أو الخروج من قدرة الفاعل وقوته.
من كل ذلك نتسائل عن حقيقة هذا الأشتراك الفكري والصورة التي جسدتها تلك الرؤى أو التي يسميها البعض أساطير، وهل هناك رابط قد صاغ هذا الأشتراك غير قدرة العقل الإنساني؟ فالمعروف أن البشر يختلفون عادة في كل الأشياء المعرفية وحتى السلوكيات إلا بالقدر الذي يتلائم مع كونيتهم الإنسانية، أما أن تتفق حضارات وثقافات ومجتمعات وأمم على مشترك معرفي بهذا العمق وهذه الكيفية التأملية دون أن تتغير أساسيات الفكرة وجوهرها، يعني لي شيء واحد هو أن الأس المشترك لا يمكن أن يكون فقط العقل هو من صنعه ولا بد من وجود سبب وتعليل أخر قاد إلى هذه الوحدة الفكرية.
ولا أستبعد أن يكون العامل الديني الواحد في المصدر وفي بسط الفكرة هو من كون لنا هذه الشكلية التصورية أو بنيت على فكرته هو لا على فكرة المجتمع والأمم التي صاغت أرثقها الثقافي هذا، لذا فأنا ممن ينكرون أن يكون الدين منقسما حسب طبيعته إلى دين سماوي ودين وضعي، فلا بد أن فكرة الدين ولدت مع فكرة القوة المسيطرة وما فرضته من طاعة أو جعلته كواقع في حياة المخلوقات، فالدين عموما هو علاقة الفاعل الأول بالمفعول به سواء أكان بشرا واعيا أو مجرد مادة لها وعيها وإحساسها الخاص به والمتلائم مع وجودها الطبيعي وإن لم نفهمه أو ندركه نحن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط