الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العمل السياسى ودعم المقاومة الفلسطينية بالماى وشبين الكوم- من ذكريات الطفولة والشباب (ج 3 / 6 )

بشير صقر

2017 / 12 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ويتناول الجزء الثالث من الذكريات : بيان 30 مارس 1968 وتداعياته ، ومنها معركة الانتخابات التى سبقها وواكبها نشاط واسع للشباب، وأعقبها احتجاج على تزويرها ؛ كمايتضمن تظاهرة كبيرة أثرت على مجرى النشاط اللاحق بالقرية. كذلك يتناول عينة من عمليات الرقابة البوليسية والمطاردة لبعض الشباب ، والمشاركة فى دعم المقاومة الفلسطينية . ويعرض كذلك عملية الإعداد لمؤتمر منظمة فتح بالقرية وعقده وآثاره ، وينتهى بتناول بداية الهجمة الأمنية المضادة على حركة الشباب.

بيان 30 مارس 1968 والصحافة تستطلع رأى الفلاحين:

خلال النصف الأول من مايو عام 1968 توجهت مجموعة من صحفيى جريدة الجمهورية إلى مدينة شبين الكوم وزارت مقر الاتحاد الاشتراكى لإجراء تحقيقات صحفية بمدن وقرى المحافظة، وهناك التقتْ بالأستاذ رضوان بيومى مسئول التثقيف بالاتحاد للاستعلام منه عن أنسب المناطق لزيارتها.

كانت هذه الفترة ساخنة بشكل استثنائى، وكان عبد الناصر قبلها فى 30 مارس 68 قد اتخذ قراراً بإجراء انتخابات جديدة للتنظيم السياسى الوحيد ( الاتحاد الاشتراكى ) تحت شعار " إعادة البناء من القاعدة للقمة " على غير ماكان متبعا قبل ذلك.

أشار الأستاذ رضوان - الذى كنا نعرفه ولايعرفنا وليست لنا به صلات شخصية – على بعض أفراد الفريق الصحفى بالتوجه إلى قرية الماى ، وعلى الفور قطع الصحفيون خمس كيلومترات بسيارتهم فى دقائق معدودة - حسبما سمعنا - وانتشروا فى طرقات القرية وحقولها وبدأوا فى الحوار مع الأهالى فلاحين ومهنيين ثم عادوا عصرا إلى شبين . هذا وقد قرأتُ التحقيقات التى نشِرَت - حيث كنت آنذاك فى عملى بسمنود - ولفت نظرى أن أفضل ما قيل فيها كان من الفلاحين حيث لخصت آراؤهم وإجاباتُهم مضمونَ ما يعتمل فى أوساط أهالى القرية علاوة على دقة ما نقلته التحقيقات على لسان بقية المتحدثين من الأهالى.

ولقد كان أهم ما فى تلك الزيارة الصحفية المباغتة هو الأثر الذى تركته بالقرية فضلا عن تردد شائعة قوية تنسب ذلك لحركة الشباب- وهو ما لم يكن صحيحا – التى فوجئتْ بها كبقية سكان القرية، وللحقيقة ساهمَتْ التحقيقاتُ فى رفع أسهم الحركة وفى تقدير الناس لها.

معركة انتخابات الاتحاد الاشتراكى وأدوات الاحتجاج على نتيجتها :

فى 21 أو 22 يونيو 1968 جرت انتخابات الاتحاد الاشتراكى وكان الإستعداد قد جرى لها من جانب حركة الشباب بالخطوات التالية :

1-تنفيذ حملة واسعة لتسجيل أسماء النساء والفتيات فى جداول الناخبين وهو ما دعم مرشحينا فى الانتخابات.

2-إجراء حوارات موسعة فى صفوف الأهالى لنبذ التعصب الجِهَوى بين الناحيتين البحرية والقبلية.

3-اتخاذ قرار باختيار 6 مرشحين للقائمة الانتخابية من الناحيتين وترك 4 مقاعد شاغرة يختارهم الناخب بمعرفته ، وكانت تلك الخطوة حاسمة فى المعركة. وكان الستة المرشحون هم ( سامى سلامة وصالح صقر ورسلان صقر) من البحرية ( حامد رجب وعبد الفتاح يحيى وعبد الفتاح شتات ) من القبلية، وكان رقم 3 ورقم 6 منهم فلاحين.

4-أسفرت النتيجة عن فوز خمسة من مرشحينا ورسوب رسلان صقر.

5-كان من ضمن الفائزين ( فتحى الدسوقى) من الجهة البحرية الذى كان مناوئا لحركة الشباب ، وفيما بعد انضم للتنظيم الطليعى.

6-كان ( السيد جاد الله ) من الجهة القبلية أحدَ الفائزين وكان عضوا بمجلس إدارة الجمعية الزراعية ولم يكن مُحَبّذا من جانب الشباب لدوره المناوئ للفلاحين.

7-حصل صالح صقر على المركز الأول ، وحامد رجب على المركز الثانى ، وسامى سلامة على المركز الثامن.

وقد أُعْلنتْ النتائج صباح يوم 25 يونيو68 ، وفور إعلانها ساد غضب واضح فى صفوف حركة الشباب وقطاع واسع من الأهالى بالذات لفوز فتحى الدسوقى ورسوب رسلان. وقد جرت فيما بعد انتخابات داخلية بين الفائزين أسفرت عن تولى صالح صقرأمانة اللجنة وحامد رجب على منصب الأمين المساعد.

مظاهرة الاحتجاج على النتيجة :

قبيل عصر يوم 25 يونيو فوجئت بحضورمجموعة من قادة حركة الشباب بين (10، 12 فردا ) لمنزلى بشبين الكوم أتذكر منهم سامى سلامة وصلاح حسين وعلى نجم وحمدى سلمان وكانوا فى حالة استنفار شديد من النتيجة وقالوا : كيف ينجح فتحى الدسوقى والسيد جاد الله ويرسب رسلان..؟

وبعد الاستماع لهم سألتهم :هل تتصورون أن تجرى انتخابات نزيهة ؟ هل قمتم بحراسة الصناديق أو راقبتم عملية الفرز..؟ ثم ماذا تريدون منى عمله الآن..؟ . فردّوا : نحتج. فقلت : إذن ما هو تصوركم للاحتجاج ..؟ قالوا : نذهب لمن قاموا بعملية الفرز ونطالبهم بإعادته. قلت : من يطبخ طبخة من هذا النوع لا يترك وراءه أثرا. قالوا مستنكرين: ماذا يعنى ذلك..؟ قلت : يعنى ستجدون الأرقام المعلنة صحيحة وبالتالى يفشل مسعاكم، ويتأكد بذلك أنكم مُدّعون وسذّج " ويِتْحِسِبْ ده عليكم بُنطْ ".

قال سامى سلامة : نقوم بحملة توقيعات بأن الانتخابات مزورة ونجمع أكبر عدد ممكن منها. فرددت عليه : وماذا بعد ذلك .. أين ستذهب عرائض التوقيعات ..؟ ألن تذهب لمن زوّروا الانتخابات..؟ فقال : نبقى حاولنا. وهنا سأل أحد الحاضرين الصامتين موجها حديثه لى: لكنك مُستغرِق فى الأسئلة ولم تبْدِ رأيك فيما يجب اتخاذه ، فلماذا إذن حضرنا لك..؟ فقلت : عرائض التوقيعات مآلها سلة المهملات. فقاطعنى قائلا : لماذا ..؟ فقلت : "لأنها شوية ورق." ولأنكم تقدمونها لمن زوّروا الانتخابات.. أى أنكم تَحْتكِمون للمتهم .. فماذا تنتظرون منه..؟

فرد شخص آخر قائلا : هيا انزل معنا وسنبحث ما يجب عمله فى الماى. فقلت : نتفق أولا وبعدها نذهب للماى. فقالوا جميعا : نتفق.
قلت لهم : الحل الوحيد الإيجابى هو عمل مظاهرة تبدأ من الجُرْن الغربى وتذهب إلى نقطة الشرطة فما رأيكم ..؟ رد سامى : لستُ موافقا على المظاهرة . سألته : لماذا..؟ فقال : لا أعرف .. لكنى أعتقد أن التوقيعات أفضل. فرددت عليه قائلا : لو أردتم جمعَ التوقيعات فلتقوموا بها بدونى ، ولو أردتم المظاهرة سأنزل معكم فورا.قال سامى وإمارات التردد تعلو وجهه : ما هو الفرق فى التأثيربين التوقيعات والمظاهرة..؟ فأجبته : المظاهرة احتجاج قوى سَيُخيف المُزوّرين لأن قوامها بشرٌ فى الشارع وليس مجموعة أوراق يمكن دَسّها فى أى دُرْج ، وسيبرهن للجميع أننا لسنا " هفية " ، وسيُعلّم الجمهور الاحتجاج والجسارة ، ويرفع الروح المعنوية لجميع الشباب وأهل القرية ، ويرفع وعيَهم بأشكال الاحتجاج المختلفة، وينذر من زوروا الانتخابات بأن يضعوا قوّتنا فى الاعتبار فى قادم الأيام. أما التوقيعات فبعيدة كل البعد عن كل ما قلته وسوف تُدْشَت فى الأدراج ولن يلتفتوا إليها .. فما رأيكم ..؟ ردت الأغلبية : وهو كذلك.

إلا أنى عندما وجدت سامى سلامة صامتا قلت: وهناك حل ثالث. فاستدار الجميع لى مستفسرين فى لهفة : ماهو..؟ قلت : نبدأ المظاهرة أولا وبعدها نجمع التوقيعات. فرد أحدهم : لو نفذنا المظاهرة ونجحتْ.. لن تكون هناك ضرورة للتوقيعات.. هيا .. توكلنا على الله.

ارتديت ملابسى ونزلنا فورا متوجهين للماى ، وفى الطريق اقترحت عليهم أن نُكلّفَ مُناديا لإخطار الأهالى بعقد اجتماع فى الجرن الغربى بشأن نتيجة الانتخابات وحددنا ساعته ، وطلبتُ منهم عدم الحديث عن المظاهرة إلا عند تجمّعنا فى الجرن الغربى .

فوْرَ وصولنا للقرية توَجّه بعضُنا للمُنادى ، وقمت باسترجاع بعض الشعارات ( الهتافات ) القديمة البسيطة . وصلنا الجرن الغربى ووقفنا نتناقش لبعض الوقت بينما المنادى يخطر القرية للاجتماع ؛ والشباب يتوافدون فرادى ومجموعات؛ وبعد حوالى ثلاثة أرباع الساعة بلغ العدد 200 شاب؛ فبدأنا النقاش العلنى وإلقاء الكلمات وتوضيح كيف تم تزوير الانتخابات الذى هو تزوير لإرادة المواطنين ولماذا نحتج على التزوير.. واستمر ذلك مدة ساعة تجاوز العدد فيها 300 فرد.

طلبت منهم التحرك ليس فى اتجاه نقطة الشرطة ( أى الجنوب) ولكن فى اتجاه الناحية البحرية مرورا بأكبر شوارع القرية – داير الناحية - ومنها إلى الناحية الشرقية ، ثم بمحاذاة البحر إلى الناحية القبلية. هذا وكانت المظاهرة تتوقف لدقائق فى مناطق التقاء الطرق والشوارع ( أى فى مفاصل القرية)– مع استمرار الشعارات- لزيادة الحشد ثم تستأنف بعد ذلك طريقها . وكانت هذه اللفّة هى مفتاح الحشد الذى وصل قرب نقطة الشرطة إلى حوالى ( 2500 – 3000 مواطن ) ما بين طالب وفلاح وموظف.

وقد قام عددٌ من الشباب برفع الشعارات بعضها معروف ومعظمها مرتجل مثل ( لا تزوير ع الجماهير) ، وكان ( حمدى سالمان ) من أبرز من رفعوا شعارات مرتجلة ، وفى الطريق تم اختيار عدد من الشباب قوىّ البنية وطالبناهم " بتحزيم " المظاهرة من الخلف والجانبين والأمام على أن يكونوا فى الصف الثانى من الداخل حتى لا يبدو ذلك الحزام ظاهرا ؛ مع منع الخروج منها ومن يُصِرّ على الخروج يبقى خارجها ؛ مع السماح بالانضمام لها. وقبل الوصول لنقطة الشرطة بمائة متر أخبرت الزملاء بالتوقف وزيادة الحماس فى رفع الشعارات ، واتفقت معهم قبل أمتار من النقطة على رفض طلبات ممثلى الشرطة.

وبوصولنا طالبَنا ممثلو الأمن باختيار عشرة أشخاص للحديث باسمنا ، فرفضنا وقلنا : (10 لا .. 30 ممكن). وبالفعل أدخلنا عددا كبيرا كان بينهم 7 زملاء هم المُخوّلون بالتفاوض وقد تفهّم الجميع ذلك كما تفهموا السبب ، وكان سامى سلامة ممن دخلوا بينما ظللت أنا بالخارج مع عدد من رافعى الشعارات والعناصر القوية وهناك أمام نقطة الشرطة بلغتْ المظاهرة أوج سخونتها .

عرفْنا أن العميد سامى خضير رئيس المباحث العامة ( أمن الدولة ) وعدد من ضباطه وضباط البحث الجنائى قد وصلوا وانتظروا فى غرفة ضابط النقطة وقد وضح لنا ذلك عندما حاصَرْنا النقطة بجزء من المظاهرة بينما بقى الجزء الأكبر منها على الطريق. وفيما بعدْ بَلغَنا أن عدة سيارات ( بوكسات) محملة بالمخبرين قد تسللت للقرية من الجهة الشرقية وانتشروا فى طرقاتها تقصّيا للأخبار بينما كانت هناك شاحنتان محملتان بالجنود والعصىّ تقبعان قرب النقطة .

كانت المظاهرة قد هدأت قليلا وبمجرد دخول الشباب عادت الشعارات إلى وتيرتها العالية الساخنة.

هذا وعندما دار الحوار بين ممثلينا وبين وفد الأمن كان تركيز الأمن على تصنيف الفائزين فى الانتخابات لمعرفة مَنْ مع الشباب ومن ضدهم ، المهم.. لم يستطع الوفد الأمنى الحصول على أية معلومات ذات قيمة من زملائنا ، ونعتقد أيضا أن المعلومات التى جمعها المخبرون المنتشرون فى طرقات القرية لا تزيد عمّا لدَى اجهزة الأمن عنا إلا قليلا.

كذلك كان هدف الأمن التعرف على قيادات المظاهرة وتصنيف وفرزالمتحاورين معهم للوصول إلى طريقة فعالة للتعامل معهم مستقبلا.

خلاصة الأمرأن أجهزة الأمن عرفَتْ مطالب المتظاهرين بشأن التزوير وضرورة إعادة عملية الفرز مرة أخرى ، كذلك لم تجرؤ على القبض على فرد واحد من القرية؛ ولم تحصل على أية معلومات ذات بال بشأن قادة المظاهرة ؛ وفى نفس الوقت لم تستجب لمطالب الشباب بإعادة الفرز أو إعادة الانتخابات كما كان متوقعا.

هذا وأثناء تواجد الزملاء فى مقر نقطة الشرطة كنتُ بين الحين والآخر أدخل إليهم للتعرف على طبيعة الأسئلة الموجهة لهم ولردودهم عليها ، وعلى ما يسوقه الزملاء من براهين على تزوير الانتخابات. إلا أن شُغلَنا الشاغل انحصر فى أن يظل الحشد الأكبر للجماهير خارج النقطة ثابتا لا ينقص لأنه الضمان الوحيد لخروج الشباب سالمين منها .بل ولنجاح الاحتجاج بكامله . وكنا بين الحين والآخر نرفع وتيرة الشعارات لأقصى درجاتها ليدرك الوفد الأمنى أننا متيقظون لهم ولحِيَلهم ولن ننصرف أو نترك الناس ينصرفون حتى لايفرض الأمن إرادته علينا ويقبض على الشباب و "يعلقهم فى تكعيبة العنب على باب نقطة الشرطة ".

هذا وقد تعمدْنا أن تكون معظم الشعارات المرفوعة فى المظاهرة شعارات تلقائية ومرتجلة ليدركوا جيدا أن المظاهرة بمطالبها.. تلقائية مائة بالمائة وليست بناء على رغبة بعض الأفراد . وأنّ مُحرّكها هو الغضب الشعبى من تزوير إرادة الناخبين .. وهو ما أعطاها زخما شديدا و قدْرا كبيرا من المصداقية لدى كل من شاهدها أو سمع شعاراتها أو حتى سمع عنها.

هذا وبعد مرور أكثر من ساعتين من الحوار الدائر بين الطرفين كان من الضرورى أن نطالب زملاءنا داخل النقطة بإنهائه والعودة لنا . وانتهت المظاهرة بعودتنا فى حالة من الزهْو والارتياح . وكنا قد اتفقنا مع الزملاء أن يتكتّموا كل عمليات الإعداد بتفاصيلها التى سبقت قرار القيام بالمظاهرة خصوصا ما دار فى منزلى.

نتائج المظاهرة وتداعياتها :

تتلخص نتائج مظاهرة 25 يونيو 1968 في الآتى :


1-حالة من النشوة والإحساس بالقوة اكتنفت جميع المشاركين فيها ، بل وكثيرا من شباب الماى وأبنائها ، وأيضا الإحساس بالندية تجاه أجهزة الأمن لنجاحنا فى تنفيذ مُرادِنا دون أن يفرض الأمنُ إرادتَه علينا. وعدم تجاسر جنود الأمن المركزى على النزول من سياراتهم .

2-عدم تجاسر الشرطة على القبض على أى فرد ممن كانوا فى المظاهرة أو من الشباب عموما كإجراء ترْهيبى للقرية .. خشية تجدد الأحداث وانفجارها مرة أخرى .. رغم أن ذلك كان إجراء من أبسط الإجراءات فى هذا الزمن.

3-رغم انتشار العسس من مخبرى أجهزة الأمن فى القرية فى اليوم التالى للمظاهرة لم يتمكنوا من الحصول على معلومات تُذْكر .. اللهم إلا من بعض الأشخاص المعادين لحركة الشباب والذين لا يعرفون أية اتصالات أو تفاصيل فى هذا الشأن.

4-قبَعَ المئات من أهل القرية وفلاحيها منذ عصر اليوم التالى 26 يونيو 1968 على عتبات منازلهم على غير العادة ؛ وبالاستفسار منهم عن ذلك كانوا يجيبون: منتظرين المظاهرة عندما تمر ، وهو شعور واضح بالتعاطف معها.

5-اعتبار بعض الأهالى - طلابا وفلاحين - أن المظاهرة سلاح فعال فى الاحتجاج وفى رد الحقوق لأصحابها ، فقد ظهرت بعدها مشكلة لدى عائلة المليجى صقر فى مياه الرى .. استطالت لبعض الوقت رغم محاولتهم حلها مع مهندس الرى والمحافظة ، ولمّا لمْ يجدوا حلا قالوا : ليس هناك حل سوى المظاهرة .

6-اكتساب الماى سمعة ثورية مميزة بين كثير من القرى المجاورة وبين أعضاء مجلس الأمة ( البرلمان ) والاتحاد الاشتراكى وأجهزة الأمن والإدارة المحلية بالمحافظة .

7-اضطرار أجهزة المباحث لتعيين أحد أهالى القرية مخبرا لأمن الدولة بها لمزيد من مراقبة الوضع وإحكامه.

8-انتشار حالة من الهلع بين كل المعادين لحركة الشباب بالقرية خصوصا من استهدفتهم المظاهرة مثل فتحى الدسوقى والسيد جادااله وآخرين لدرجة اعتكافهم بمنازلهم طيلة يومى 26 ، 27 يونيو 1968، أما فى الأيام التى تلتها فلم يخروجوا منها إلا لفترات قصيرة.. حيث رآهم البعض وهم يسرعون الخُطى ويتلفتون خلفهم إذا ما غادروا منازلهم حتى ولو لدقائق.

9-نجاح لجنة العشرة فى احتجازأحد الذين نجحوا بالتزوير وإبقائه داخل اللجنة القاعدية وحرمانه من التصعيد للجنة المركز كما كان يُخطط ويتمنى.

10-حصول صالح صقر وحامد رجب على منصبى أمين اللجنة والأمين المساعد وهو ما ساهم فى دعم أنشطتها خصوصا دعم الثورة الفلسطينية.

11-وأخيرا ومنذ ذلك التاريخ قررت أجهزة الأمن البحث عن طريقة سريعة للتخلص منى وإبعادى خارج المحافظة.


دعم المقاومة الفلسطينية .. والرقابة الأمنية الخانقة :

كان منزلنا فى شبين الكوم مركزا للنشاط الداعم للمقاومة الفلسطينية، فعلى مدى خمسة سنوات متصلة منذ أواخر الستينات داوَمْنا على عقد المؤتمرات السياسية فى قرى المحافظة كالبتانون والماى بعد أن كانت تقتصر على كمشيش؛ وكنا نستقبل ممثلى الثورة الفلسطينية من منظمة فتح فيه قُبيل أو بعد عقد المؤتمرات بقاعة الشبان المسلمين الموجودة على بعد عشرات الأمتار منه.

كما كنا نتعاون مع اتحاد طلاب فلسطين بكليتى الهندسة والزراعة ونستقبلهم ونحضُر مؤتمراتهم واحتفالاتهم .وأتذكر أن المباحث العامة ( أمن الدولة) كانت تراقب منزلنا بثلاثة مخبرين دائمين طوال النهار وبعضَ الليل. فكان أحد الثلاثة يعسكر لدى الزناتى صاحب محل الراديو فى المدخل الشرقى لشارعنا والثانى يجلس على مقاعد الرصيف الشرقى لمحطة القطار ليراقب المدخل الغربى والثالث يقبع فى غرفة مستأجرة فوق سطح أحد المنازل بحارة الخطيب التى تلى شارعنا لمراقبة الجالسين فى حجرة ضيوفنا .. هذا عن الرقابة المباشرة ؛ أما عن الرقابة غير المباشرة فقد تعرض عدد من إخوتى - بنين وبنات- لمراقبات صارمة من خلال بعض زملائهم فى الدراسة المتعاونين مع الأمن..ونعرض فيما يلى مثالا لذلك:

فوجئنا عصر يوم من عام 1969 بجرس شقتنا يدق وإذا بالطارق فتاة (س) كانت تسكن مع أسرتها فى منزل على البحركنا نقيم فيه قبل عشر سنوات. استقبلناها وأدركنا بمجرد رؤيتها الغرض الذى حضرت من أجله.. لأننا نعرف صلتها ببعض ضباط الأمن فى شبين؛ حيث كانت الفتاة فى سن العشرين وسيمة وترتدى ملابس حديثة وغالية. أحضرنا لها الشاى وكان من الطبيعى أن تبدأ الحديث .. فسألتْنا عن أخبارنا فأجبناها باقتضاب؛ ثم حاولتْ الاقتراب من موضوعِها الذى أتتْ من أجله فسألتْ عن بعض الملصقات الموجودة على باب حجرة الضيوف .. فأجبتها : هذه عن الثورة الفلسطينية . فقالت : أليس الفلسطينيون من باعوا أرضهم ..؟ ولما عقبنا على سؤالها : هذه شائعات الصهاينة والمباحث. ردّت : إذن لماذا تعلقون صورهم..؟ فأجبناها: تعاطفا مع المقاومة. فسألتْ: وهل تقْدِرون على حمايتها ..؟ ردّت عليها أمان: لكن .. ما الذى ذكّرك بنا اليوم..؟ أجابت: أنتم جيراننا وجئت لزيارتكم. استطردتْ أمان قائلة: ولمَ لَمْ تزورينا طوال عشر سنوات ..؟ ردّت: كنت مشغولة وأسافر القاهرة كثيرا.فقالت أمان: "والآن فضيتى" ..؟ ردت: نعم. فقلتُ لها : " إحنا مخمّنين لماذا حضرتِ اليوم .. كلنا مخمّنين". سألتْ : لماذا إذنْ..؟ قلت لها : لأن هناك من كلّفك بذلك. فسألتْ: مثل مَنْ..؟ رددتُ عليها: واحد من أصدقائك ..لكن ليس من أصدقائنا..؟

وهنا أيقنتْ الفتاة ُأننا كشفناها سريعا ومن الأفضل أن ترحل؛ لذلك لم تكمل تناول الشاى. وقالت: عن إذنكم . فقلنا لها : " ما ..بدْرى" .

وأثناء مغادرتها حجرة الضيوف ودّعتها أمان قائلة : " ما تقطعيش الجوابات "؛ وإذا بها تتوقف لتقول لى: هل يمكنك أن توصّلَنى..؟ فرددت عليها : وهل أوْصَلكِ أحدٌ لمنزلنا ..؟! قالت : أريد أن اقول لك شيئا شخصيا . فضحك جميع الحاضرين بصوت عال وقهقه بعضُهم. ففهمتُ أنها تريد أن تقوم بالمحاولة الأخيرة . فقلت لها : وهو كذلك.

بعد أن نزلنا السلم وقفَتْ فى حوش المنزل وقالتْ : بصراحة أنا من زمان وأنا معجبة بك واشتقت لرؤيتك. رددت عليها وقلت: يا (س) كُفٌّى عن هذه الأساليب لأنها مكشوفة ؛ وبالمناسبة أنا مَنْ كنتُ أريد أن أقول لك شيئا فى أذنك. فاقتربتْ منى وقالت : قلْ . فتراجعتُ قليلا للخلف وقلتُ لها : أبلغى من أرسلك أن أساليبكم قديمة وحيلَكم مكشوفة وإلعبوا غيرها. فغادرتْ (س) حوشَ المنزل حيث كنا نقف وهى عابسة الوجه وغاضبة . فقلت لها : مع ألف سلامة !.

نموذج لتعنت الأمن مع الشباب:

لم يكن نشاطُنا فى قرية الماى ينفردُ بمراقبة الشرطة لنا فقد كان هناك نشاط آخر أكثر سخونة فى أوساط طلاب جامعة المنوفية ( فى الهندسة تحديدا والزراعة نسبيا) تألق بشدة .. وكان دعم القضية الفلسطينية له النصيبُ الأوْفر من هذه الرقابة حتى منتصف عام 1971.

بعد أيام قليلة من مظاهرة الماى عام 1968 كان على نجم سائرا بشارع البحر أمام المدرسة الثانوية للبنات بشبين ولمحَ العميد َسامى خضير رئيس فرع المباحث العامة ( أمن الدولة ) قادما من بعيد، ولما اقترب منه وقف أمامه – بطوله الفارع – بطريقة أقرب ُ إلى اعتراض طريقه ورفع يده مبتسما ومصافحا وقال : إزيك يا أستاذ سامى ..؟! فمدّ الرجلُ يدَه فى ذهول بينما علىّ يضغط عليها بخشونة دفعتْ سامى خضير لمفاداته أو الحديث معه قائلا: أهلا وسهلا.. ثم استأنف سيره منسحبا ، وبعد أن التحق علىّ بالقوات المسلحة مجندا كضابط احتياط عام 1969 لم تمر سوى شهور معدودة ( تقريبا فى بدايات عام 1970) حتى تم تجريده من رتبة الملازم وصار عريفا أو رقيبا ، وأبعدوه عن بقية زملائه فى الكتيبة وعزلوه فى خندق بعيد مستقل وكانوا يرسلون له طعامه فى الخندق بل وكان يقضى حاجته بالقرب منه وحرصواعلى ألا يتصل بأحد منهم ، وكان يقضى أيام الخدمة بالجيش وحيدا إلى أن يحصل على إجازته ليجد متنفسا لذلك الحصار الخانق الذى لا مبرر له.

وقد كان من الممكن أن يفصلوه من الخدمة لأى سبب يرَوْنه لكنهم فضلوا تعذيبه بهذه الطريقة. وأعتقد أن سامى خضير عرف اسمه إما من وقت المظاهرة أو من القرية لأن خبرَ مقابلته له فى شارع البحر قد انتشر من ليلتها فى القرية ، ولذلك " سكّه سامى خضيرالتقرير المتين " الذى أوضحنا آثاره فى العبارات السابقة.

كيف يبدأ الفساد .. وهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون..؟ :

بعد 14 شهرا قضيتُها فى معهد سمنود الدينى تم نقلى إلى معهد شبين الكوم فى إبريل 1969 ونظرا لتقلص ميزانية التغذية بالأزهر خيّرتْنى إدارته فى الانتقال لعمل آخر ففضلتُ التدريس. وبذلك وصلتُ إلى شبين بصفتى مدرسا للعلوم قبل شهر من بدء امتحانات النقل ، ومع عدد من المدرسين- كانوا زملاء الدراسة الجامعية - اتخذت مكانى فى معمل العلوم .هذا و قد ترددت على المعهد عدة مرات خلال ذلك الشهر حتى حان موعد الامتحانات.

فى اليوم الأول وجَدتُنى مراقبا بإحدى لجان الامتحان بالدور الأرضى مرافقا لأحد مدرسي المواد الشرعية. كانت اللجنة تتكون من أربعة صفوف يختصُ كل مراقب بصفيْن.وفى تمام الساعة التاسعة صباحا بدأ الامتحان حيث جرى توزيع أوراق الإجابة ثم الأسئلة وبدأ الطلاب فى الإجابة ؛ وماهى إلا عشرة دقائق حتى ضبطتُ بعضَهم وقد أخرج " البراشيم " من جيوبه وشرع فى النقل منها ، فأخذتُ " البراشيم " واحتفظتُ بها وماهى إلا دقائق أخرى حتى وجدت الطلاب فى صفوف زميلى المراقب يخرجون ملازم كاملة من كتب الدراسة ويخفونها تحت أوراق الإجابة لنقل ما بها من معلومات. نبّهت زميلى المراقب فى اللجنة لما يحدث بجانبه فلم يتحرك من كرسيه وقال للطلاب بصوت عال: " يا ولد انته وهوّه .. وبعدين معاكم ..؟ ". تحركتُ نحو باب اللجنة وناديتُ المشرف على لجان الدور الأرضى وإذا به مدرس أول العلوم الاستاذ محمد الابيارى الذى كان زميل الفصل الدراسى لحمدى القاضى مدربى فى الكرة بنادى النشء وحسنى مبارك رئيس الجمهورية فيما بعد وبلدياته. عرضت عليه " البراشيم " وملازمَ الكتب التى ضبطتها قائلا : دى عملية غش جماعى يا أستاذ محمد فما كان منه إلا أن دخل اللجنة وفعل مثلما فعلَ زميلى المراقب الأزهرى أى أنه قذف الطلاب بجملة جوفاء فى الهواء. فأيقنت أن ما أقوم به لضبط أداء الطلاب للامتحان هو الاستثناء بينما القاعدة هى الغش وبعلم جميعِ العاملين بالمعهد بمن فيهم شيخه. وعلى الفور غادرتُ بابَ اللجنة إلى باب المعهد إلى منزلنا بعد 20 دقيقة من بدء الامتحان .

فى صباح اليوم التالى حضرتُ للمعهد فى التاسعة والنصف ودخلت معملَ العلوم وبعد عشرة دقائق سمعتُ جلبة خارجه..بعدها أطل أحد المدرسين الأوائل برأسه من الباب الموارب وهو يتساءل ويجيب فى نفس الوقت : هوه فيه حد هنا ..؟ ... أيوه دا الأستاذ بشير هنا.وانسحب لثوان ثم عاد ليقول: لو سمحت ياأستاذ بشير .. فقمت من مكانى خارجا إليه لأجد عددا من وكلاء المعهد والمدرسين الأوائل وبينهم شيخ المعهد الذى لم يكن قد رآنى من قبل ..فنظر لى وسأل مساعديه بسلوك مسرحى: هو الأستاذ بشير ليست له لجنة ..؟ فردّ أحدهم : لا .. له لجنة بس الظاهر إنه ما يعرفش. فقال شيخ المعهد : هيا يا أستاذ على لجنتك ..وما تتأخرش تانى. فقلت له : إذا سمحت لى يا فضيلة الشيخ .. أنا لا أرغب المشاركة فى المراقبة.. وأفضّل مهمة أخرى.فرد مستنكرا بعصبية : أيعنى هذا أنك ممتنع عن العمل ..؟ قلت له : لا يامولانا .. لست ممتنعا عن العمل بل عن المراقبة فقط وأودّ مهمة أخرى مثل أعمال الكونترول أو توزيع أوراق الإجابة والأسئلة على اللجان أو حتى كنس المعهد وتنظيفه أما المراقبة فأرجو إعفائى منها. ثم استأنفت حديثى قائلا : أليست هناك آية قرآنية تقول: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون..؟ هنا أنتم تسَوّون بينهم بينما دورُنا هو التمييز بينهم .. هو العكس مما يحدث.

تأزّم الموقف وصار استمرار الحوار مستحيلا..وفَضّا للمواجهة أشاح أحد الوكلاء للموجودين حوله بيده قائلا: خلاص. بعدها تحرّك الجمْعُ من أمام المعمل فى اتجاه اللجان. وعدتُ للمعمل.

طبعا كان من الممكن لشيخ المعهد أن يُحيلَنى للتحقيق بتهمة الامتناع عن المراقبة لكنه لم يستطع لأنى سأدلى بأقوال تفضح ما جرى فى لجنتى على الملأ وهو ما تلاشاه.

بعد عشرة دقائق حضر الساعى الخاص بشيخ المعهد وطلب منى الحضورَ إليه . وبعد دقائق ذهبتُ لحجرته فقابلنى بوجه مغاير ولهجة مختلفة عما كان من دقائق قائلا بلطف : أيوه يا أستاذ بشير اتفضل ؛ ثم عاد لمقعده مستأنفا حديثه : عندما كنت فى سنك كنت متحمسا مثلك تماما. وفى المعهد الذى كنت به جاءتْ نتيجتُه فى إحدى السنوات 14 % بينما بقية المعاهد تتراوح بين 80% و90% ؛ فقاطعته قائلا: يامولانا نتيجة الـ 14%.. ستصبحُ بالعمل والانضباط فى العام التالى 28 % وفى الثالث 56% وفى الرابع تحصل على المرتبة الأولى على معاهد مصر. إن مهمتنا أن نُخرّجَ الطلابَ مواطنين صالحين متسلحين بالعلم وبالمبادئ والأخلاق لكن بالأسلوب الراهن لن يكونوا متعلمين ولا مبادئ لهم ولا أخلاق . رد علىّ قائلا : علاج هذه الأوضاع يأتى بالتدريج وبالحكمة . فقلت له : وأين التدريج والحكمة فيما حدث فى لجنتى بالأمس..؟ أرجوك إعفنى من ذلك لأنى لآ أود أن أشارك فيه. ثم نظرتُ له منتظرا رده فقال: خلاص يا أستاذ.. بلاش المراقبة نشوف لك حاجة تانية . وبانتهاء اللقاء لم أدخل لجنة الامتحان مرة أخرى إلى أن غادرت المعهد فى منتصف عام 1971.

دعم المقاومة الفلسطينية ومتابعة الشباب لمصاعبها :

فى نهاية عام 1969 أقيم مؤتمر لدعم الثورة الفلسطينية فى قاعة الشبان المسلمين بشبين نظمَه اتحادُ طلاب فلسطين بالمنوفية ، وقبيْل المؤتمر بساعتين حضر المحاضر الفلسطينى من القاهرة بصحبة بعض الطلاب إلى منزلنا انتظارا لموعد المؤتمر. وكان صِدامٌ قد حدث فى اليوم السابق بين الجيش اللبنانى مع بعض المقاتلين الفلسطينيين فى أحد معسكراتهم بلبنان ووقعت إصابات بعضها شديد. كذلك كان العماد ( أى اللواء ) إيميل البستانى قد عُيّن قائدا للجيش اللبنانى قبل أيام قليلة .. ولحظة حضور الضيف الفلسطينى كنا نعدّ بعض الشعارات لإلقائها فى المؤتمر وكانت أمان ومهدية تستعدان مع آخرين لرفعها. كان أحدها يقول : [هل فيه عربى أو لبنانى // يعمل عملك يا بستانى..؟ - الأمريكان فى لبنان // ورا الستاير والحيطان. - الأمريكان فى لبنان // جوّه البنوك وفى الإعلام .- الأمريكان فى لبنان// همّا الحكام .. همّا السلطان]. هذا ولمْ نُطْلع الضيفَ على الشعارات وفضّلنا أن يسمعها فى المؤتمر .

خرجنا من منزلنا قبيل المؤتمر بقليل وتوجه الضيف نحو المنصة بينما جلسنا على المقاعد وسط الجمهور فى القاعة. بدأ المؤتمر ساخنا وتخللته شعارات قوية كان الجمهور يرددها فى حماس بالغ.

ولما بدأ الضيف كلمته وتحدث عن واقعة الصدام بين الفلسطينيين والجيش اللبنانى قامت إحدى شقيقتىّ برفع شعار ( هل فيه عربى أو لبنانى...) فضجت القاعة .. وتعالت هتافات أخرى من آخرين ، وفجأة تم قطع التيار الكهربائى عن مبنى الشبان المسلمين بكامله.

وعلى ما يبدو أن مَنْ قطع التيار تصوّر أنه بذلك قد فضّ المؤتمر وأن الجمهور سيغادر القاعة فورا إلى الشارع ، لكن ما حدث كان العكس ، فقد تولّت مهدية رفع بعض الشعارات ..كان الجمهور يرددها وراءها بأقوى مما كان الحال وقت سريان التيارالكهربائى؛ واستمر ذلك لمدة ربع ساعة .. وكلما مر الوقت كلما ازدادت سخونة الموقف . وعلى ما يبدو أن الظلام بما يشيعه من خوف .. يُزيدُ الناسَ ترابطا واقترابا من بعضهم وهو ما تجلى خلال انقطاع الكهرباء. بعدها عاد التيار واستُكْمِل المؤتمرُ وعدنا بالضيف لمنزلنا نتحاور في أحداث المؤتمر لبعض الوقت ثم غادرنا الضيف إلى القاهرة مودعا ومبتهجا .

ماذا يعنى الاستبداد ..؟ مؤتمر للمقاومة الفلسطينية بالماى.. من فم الذئب :

بعد نجاح خمسة من مرشحى حركة الشباب فى انتخابات لجنة العشرة بالاتحاد الاشتراكى بالماى .. صار الجو ممهدا لاستثمار نتائج مظاهرة 25 يونيو 68 وحالة النهوض والثقة المتزايدة فى عملنا بالقرية.

ففى أحد اللقاءات مع صالح صقر وسامى سلامة وحامد رجب من أعضاء اللجنة تداولنا الحديث بشأن الأنشطة التى تحتاجها القرية واقترح صالح إقامة بعض الندوات السياسية فأشرْتُ عليهم باستضافة أحد القادة الفلسطينيين فى ندوة نقيمها بقاعة السينما بالوحدة المجمعة ؛ فتساءل الثلاثة: وكيف ندعوهم .. وكيف نبرر هذه الدعوة أمام أجهزة الأمن وقادة الاتحاد الاشتراكى..؟ فقلت: الاتحاد الاشتراكى ليس مشكلة.. لكن المشكلة تكمن فى أجهزة الأمن. سألوا " هل نخاطبهم فى الموضوع..؟ أجبت : إذن فلن ننجز شيئا .فردّوا متسائلين: إذن هل نقيم الندوة من خلف ظهورهم..؟ قلت: لا يمكن لندوة علنية أن تقام من خلف ظهور الأمن .. لكن التحضيرات هى التى تكون فى طىّ الكتمان. وأكملت : سأتولى إحضار المحاضر الفلسطينى حتى هنا.. لكن يجب أن نستند على مبررات منطقية وقانونية ولائحية. وتوجهت بالسؤال لصالح : هل هناك فى لائحة النشاط بالاتحاد الاشتراكى بند للتوعية السياسية ..؟ قال : نعم . سألت : هل يتضمن ذلك القضية الفلسطينية..؟ قال: نعم. فقلت : إذن هذا هو المستند الأساسى والأهم فى الموضوع كله وتبقى الإجراءات والتفاصيل. بعدها سألت حامد وصالح: لو سُئلتما عن كيفية توجيه الدعوة .. ماذا ستقولان..؟ رد حامد : كتبنا لهم خطابا ندعوهم للقرية. سألت: من أخذ منكم الخطاب..؟ قال صالح: أحد الطلبة الفلسطينيين.سألتُ: ما اسمه..؟ احتار صالح فى الإجابة فقلت له: أثناء حضور ندوة فى الشبان المسلمين.وأكملت : وفى الحقيقة أعطيته لمجموعة من الطلاب يبلغ عددهم 5 أو 6 لكنى لا أعرف اسما محددا. سألتُ: متى جاءكم الرد ومن حدد الموعد..؟ قال سامى : بنفس الطريقة أثناء ندوة أخرى وبطريقة شفهية. سألت: ولماذا لمْ تُخْطرونا .أجاب صالح وحامد : لأنه لا توجد نصوص فى اللائحة تطلب منا ذلك. فأضفتُ لإجابتهم : وعموما نحن أخطَرْنا بخطابات ضابطَ النقطة والمحافظ. واستكملتُ الأسئلة:أين صورة الخطاب..؟ فصمت الثلاثة. لكنى أجبت : هذه صور الخطابين..وأضفت : وبها عبارة ندوة سياسية فى قاعة السينما .. وفقط.. على أن يكون إرسالها قبل الندوة بيوم واحد فقط لكى تصلهما بعد موعد الندوة أو أن يكون وقت منعها قد فات.

سألت: وهل أرسلتم دعوة للاتحاد الاشتراكى..؟ أجاب سامى : أخطرنا زميلنا عضو لجنة المركز وهو من الماى لإبلاغ زملائه شفاهة.

أما عن الدعوة داخل القرية فقد اقترحتُ عليهم أن تكون قبل الموعد بيومين وأن يقوم بها أكبر عدد من أعضاء لجنة العشرة مع تجنب الحديث عن أنها تخص فلسطين بل ندوة سياسية وفقط ، مع ضرورة إبلاغى بالندوة ضمن آخرين أمام أحد أو بعض أعضاء لجنة العشرة لكى يبدو الأمر طبيعيا. هذا ونوّهْت بأنه لايجب أن أظهر فى الصورة بأى شكل بل وأن أختفى عن القرية فى الأيام التى تسبق الندوة . لهذا قمت مع بعض الشباب- كان منهم على نجم وصبرى شعبان- بإعداد الشعارات وتوزيعها عليهم وأوضحت لهم كيفية وتوقيت إلقائها.وقد تم ذلك بعيدا عن أعضاء لجنة العشرة. ومن ناحية أخرى تمت دعوة الشيخ عبد التواب إمام مسجد سيدى عمر أفضل خطباء القرية لإلقاء كلمة الافتتاح. وهكذا أعددنا العدة كاملة ومحكمة .. لكن ما حدث قبل الندوة بساعة فكك مفاصلنا.

فقد كان مقررا أن يتولى حامد رجب مهمتين .. الأولى: تجهيز 2 كلوب لاستخدامهما إذا ما تم قطع التيار الكهربائى وقد أنجزها حامد ، أما الثانية : فكانت مهمة تأجير " حنطور الوحدة الصحية واستخدام ميكروفون " لإبلاغ أهالى القرية لحضور الندوة على أن يتم ذلك ظُهْر نفس اليوم وهو ما لم يتم إنجازه. فقد حضر المحاضر الفلسطينى ومرافقه المصرى من القاهرة بسيارة تاكسى إلى مقر الوحدة بالماى وكنت فى انتظارهما. وفوجئنا بألا أثرَ للجمهور .. فاستأذنت المحاضر والمرافق الذى كان صديقا قديما وذهبت لحامد رجب فى منزله فقال لى : لم أستطع تأجير الحنطور وبالتالى لم يتم إبلاغ الأهالى بالندوة ؛ فقلت له: يا أخى .. أجّر عربية يدْ وضَعْ عليها الميكروفون وأبلغ الناس.. ثم تركته وذهبت لأحد المنادين وأعطيته عشرة قروش ومعها نص النداء الموجه للأهالى وكان كالتالى : [ يا أهالى الماى.. الحاضر يُعْلم الغايب ..فيه ندوة دلوقت فى الوحدة المجمعة وفيها الفدائيين الفلسطينيين.. إشهِلوا روحوا علشان نستقبلهم ] ؛ ومن ناحية أخرى اتخذتُ طريقا غيرَ طريق المنادى وكلما صادفتُ مجموعةً من الأهالى فلاحين أو طلاب كنت أُبلغْهم بالندوة وقد استغرق الأمر منى حوالى ثلاثة أرباع الساعة. وبعودتى للوحدة كانت بشائر الجمهور قد هلّتْ وفى بحر نصف ساعة آخر لم يكن هناك موضع لقدم فى القاعة بل إن نوافذها اكتظت بالصبية .. وأصبح المشهد مثيرا للإعجاب.

لذلك بدَتْ علامات الاستغراب على وجه الضيف الفلسطينى ومرافقه المصرى ، بعدها استأذن المرافق مغادرا وبقيتْ السيارة والضيف حيث بدأت الندوة.

قام بتقديم الندوة صالح صقر وألقى كلمتها الأولى الشيخ عبد التواب بينما كانت مجموعة الشباب من رافعى الشعارات قد توزّعت على جنبات القاعة . وتصدّر وجهاء القرية الصف الأول ومعهم حسين عزت نائب الدائرة فى مجلس الأمة (البرلمان) وأعضاء لجنة العشرة، ولم يحضُر من خارج الماى سوى الصديق السيد رفعت من البتانون وحوالى 5 أو 6 طلاب فلسطينيين.

تحدث الشيخ عبد التواب فى كلمته عن الجهاد والشهداء وعن حتمية دعم المصريين لشعب فلسطين فى تحريرأرضه وهنا رفع أحد الحاضرين شعار [ مازن مازن يابو غزالة // فى ذمة سبحانه تعالى ] وكان الشهيد الفلسطينى مازن أبو غزالة الطالب بكلية الهندسة بشبين قد استُشهِد فى معركة طوباس الشهيرة بالضفة الغربية ( فى أعقاب نكسة 1967 يوم 9 أكتوبر تحديدا وهو يوم استشهاد المناضل جيفارا فى بوليفيا ). وأحضر زملاؤه من الطلاب الفلسطينيين صورته وعلقوها فى قاعة الندوة .. ولازالت تلك الصورة معلقة حتى الآن بمنزلنا منذ ذلك التاريخ . هذا وقد لقى الشعار استحسانا شديدا من الجمهور.

وتتالت الكلمات واحدة بعد الأخرى بعدها تحدث الضيف الفلسطينى ( الطيب عبد الرحيم) عن تاريخ المقاومة منذ الثلاثينات؛ خصوصا وأن والده كان واحدا من قادتها فى ذلك الوقت وعن شهدائها وإنجازاتها خلال السنوات القليلة الأخيرة أى منذ اول يناير 1965. كما أشار إلى استشهاد الفلسطينى مازن أبو غزالة طالب هندسة شبين الكوم .وحين تحدث عن الحرب الشعبية ارتفع شعار [ الحرب الشعبية حرّرت الجزاير // والحرب النظامية ضيّعت فلسطين ، سيبوا الفدائيين تحرر فلسطين // مش عاوزين وصاية عليكى يا فلسطين ]، ووجه الضيفُ تحيته للشعب المصرى وأبْدى تقديره لتضامنه مع المقاومة فارتفع شعار [ م الغيطان والأجران // ويّاكى يا فتح ع الميدان ] كما تحدث الضيف عن الوسيلة الناجعة لتحرير الأرض وعما يظهر بين الحين والآخر فى وسائل الإعلام الدولية عن حلول سلمية وساعتها ارتفع شعار [ لا رجعية ولا استعمار // الحل السلمى علينا عار] وتلاه شعار آخر [لا إقطاع ولا رجعية // لااستعمار ولا صهيونية ] ، وواصل الضيف حديثه المتشعب الشيّق بينما شعارات الجمهور تدعمه وقد تراوحت بين 18 ، 20 شعارا. والأهم من ذلك كانت استجابة الجمهور فى ترديده للشعارات بصوت أقرب للرعد. وهكذا حتى انتهت الندوة بعد ما يقارب الثلاثة ساعات متصلة لم يتوقف خلالها تفاعل الجمهور مع المتحدثين بشكل لا مثيل له يحدث لأول مرة.

فى مساء اليوم التالى للندوة أبلغنى صالح صقر أن أجهزة الأمن لم تعرف بخبر الندوة إلا ظهر اليوم التالى.. وهو ما يعنى أن التنظيم والتخطيط لها كان محكما لأقصى درجة ، وحديث أهالى القرية عنها لاينقطع . كذلك فمن خلال لجنة الاتحاد الاشتراكى بالمركز ذاع خبرها وما جرى فيها فى الاتحاد الاشتراكى .. بينما أجهزة الأمن فى حالة من الصمت المطبق.

وكما توقعْنا .. تم استدعاءُ صالح لفرع المباحث العامة بشبين باعتباره أمينا للجنة الاتحاد الاشتراكى بالقرية وأدار المؤتمر حيث جرى حوارٌ صاخب وحاد بينه وبين سامى خضير الذى فقد أعصابه تماما وأصبح كالثور الهائج – حسب تعبير صالح- وطرحَ عليه كلَ الأسئلة التى توقعناها.ولم يخرج منه بشئ بل إن صالح لم يهتز أو يتلعثم طيلة ساعة ونصف قضاها معه. وقبل مغادرته لمبنى المباحث قال له سامى خضير: أنا أعرف جيدا من الذى كان وراء ما حدث.

تأثيرات الندوة ونتائجها :

1-إحساس الشباب وجانب من الجمهور أن حركة الشباب تنتقل من نجاح لآخر.
2-خشية متصاعدة للقوى المعادية من حركة الشباب وغضب الأجهزة الأمنية من قدرة الماى على المواجهة والتخطيط.
3-ثقة متزايدة بالنفس لدى لجنة العشرة واختفاء المعارضة التى توقّعَها البعضُ داخلَها.
4-مزيد من التقوقع للعناصر الرجعية فى القرية ولمن نجحوا فى الانتخابات بالتزوير.
5-وأعتقد أنه تشكل لدى أجهزة الأمن يقين بعجزها عن إيقاف الحركة بالطرق السلمية والسياسية.

تقريران متضادان عن الندوة .. وعلى صبرى يطلب تحقيقا :

هذا وكان وصول تقريرين متعارضيْن عن الندوة إلى القيادة العليا الاتحاد الاشتراكى بالقاهرة سببا فى إجراء تحقيق فورى لمعرفة حقيقة ماحدث بندوة الماى (حيث كان التقرير الأول من وزارة الداخلية يدين الندوة وما جرى بها ومنظميها ؛ بينما تقرير الاتحاد الاشتراكى يؤيدها ولا يُدينها).. مع ملاحظة أن نائب الدائرة بالبرلمان كان شاهد عيان على ماحدث بها.

لذا قام على صبرى أمين عام الاتحاد الاشتراكى آنذاك بتكليف أمين الاتحاد بالمنوفية كمال الشاذلى بالتحقيق حيث اجتمع بعدد من أعضاء لجنة العشرة بالماى واستمع لهم وأسفرت النتيجة عن تأييد تقريرالاتحاد الاشتراكى وهو ما شكّل صفعة قوية لأجهزة الأمن وتحديدا للمباحث العامة، لكن التربّص بنا انفلت من عقاله وصار حاكما لأجهزة الأمن.

بعد حوالى شهروصلتنى من القاهرة عن طريق رسول عدة نسخ من مجلة الثورة الفلسطينية التى تصدرها منظمة " فتح " وعلى غلافها مانشيت بارز عن ندوة الماى وفى داخل العدد تحقيق صحفى عنها يغطى صفحتين ويتناول أحداثها بالتفصيل وشعاراتها التى رفعها الشباب.. وشكّل ذلك ضربة جديدة لأجهزة الأمن ومزيدا من التربص بنا ودعما إضافيا لحركة الشباب .

أحداث مدبَّرة بمركز شباب الماى فشل مسعاها :

حدثت مشكلة صغيرة بمركز شباب الماى اتخذ فيها مجلس الإدارة قرارا مُتهوّرا بفصل أحدِ أعضاء المجلس ( محمد الشبشيرى ) وكان معيدا بجامعة القاهرة، وعضوٍ بالجمعية العمومية ( حمدى سلمان). وأحدث القرارُ حالة من الغضب داخل أرْوِقة المركز باعتباره تعسفيا واحتقن الجو وتأزم الموقف بحثا عن حل عاجل.هذا وقد رأى بعض الأعضاء المتذمرين أن القرار تم اتخاذه بدعم مديرية الشباب ( الجهة الإدارية المختصة ) أو بمعنى أدق بدعم أجهزة الأمن . ولما كان أحد الحلول هو المطالبة بإجراء انتخابات جديدة طارئة لمجلس الإدارة، ولأن لوائح مراكز الشباب لا تسمح بذلك.. فقد استحْكَمَتْ المشكلة وتعقدتْ. وعليه لم تكن هناك سوى ثلاثة احتمالات نظرية لحل المشكلة:

أحدها: هو استسلام المتذمّرين من القرار للأمر الواقع واستئناف النشاط باعتبار الشبشيرى وسلمان مفصوليْن، وثانيها : هو استخدام العنف لإرغام مجلس الإدارة على العدول عن القرار والتراجع عن الفصل ، وثالثها :ابتكار حل سياسى ينفذه الشباب ويحرم القائمين بالفصل من ممارسة استبدادهم ويتيح لأعضاء الجمعية العمومية إدارة النشاط فى النادى برغم عدم إلغاء الفصل وإفشال هجمة الأمن على حركة الشباب والمركز.. وقد تمثلت أركان الاحتمال الأخيرفى الآتى:

1-خلق وضع مادى يبَرهن على تعسفية القرار ويفضحه.
2-الوقف العملى لدور مجلس الإدارة بالمركز وتسيير النشاط بعيدا عنه .
3-إخطار أجهزة الأمن والجهة الإدارية المختصة بالأمر رسميا ، وتحميلهم المسئولية عن تجاهلهم لصدام وشيك محتمل داخل المركز؛مع إطلاع الرأى العام بالقرية على الوضع.

وتنفيذا لذلك قام شباب المركز بالتحاور فيما بينهم وتوصلوا إلى أهمية إقامة دورة عاجلة فى كرة القدم تُدعى لها مجموعة من قرى المراكز المحيطة ، وهو ما جرى إعداده بشكل عاجل ؛ علاوة على إقامة عدد من المباريات بين فرق القرية .. على أن يظل المركز مشغولا بكل الأنشطة الأخرى فى نفس الوقت.

هذا وتمت دعوة مابين 15- 17 فريقا من القرى المحيطة بشبين الكوم وتحدد موعدٌ قريب لبدء الدورة ، وقبل أن يحِلّ موعدُها أقيم عدد من المباريات للأعمار الصغيرة بين أبناء القرية. وامتلأ المركز بعديد من الأعضاء خلال تلك الأيام إظهارا لرفض القرار وتنفيذا لهذا المقترح الذى اعتبرناه حلّا سياسيا.

وخلال الأيام الأولى للأزمة قمتُ بإرسال برقيتين للمحافظ ومدير الأمن أشيرُ فيهما " للأزمة المتفجرة بالمركز وأحذر من تطورها وتصاعدها لتتحول إلى صدام وعنف ، وأحَمّلُهم المسئولية عما قد يحدث إذا ما تم استمرار تجاهلهم لهذا الموضوع " .

هذا وقد مثلت البرقيتان نوعا من الحرص على منع الصدام قبل حدوثه ، وإسقاطا للحُجّة التى قد يتذرّع بها الأمن للتدخل ، ووضعَ الجهة الإدارية والأمن والمحافظة أمام مسئولياتها ، وقطعا للطريق عليهم جميعا فى اتخاذ قرارات تصعيدية ضد حركة الشباب.

حوار مع نائب الدائرة يضع النقاط على الحروف .. ويكشف التواطؤ :

بعد أيام معدودة من بدء دورة الكرة بين القرى، وفى يوم المباراة النهائية التى تَحدّد لها الخامسة مساء ؛ كنت فى شبين أعبُر "ميدان شرف" قادما من ناحية ديوان المحافظة حوالى الساعة الحادية عشرة صباحا وسمعت صوتا ينادينى ، تلفتُّ خلفى فوجدت شخصا لا تتضحُ ملامحه فى شباك الدورالأرضى لإحدى البنايات ذات الطابق الواحد يُنبّهُنى لمكانه .. عُدْتُ له فإذا به مكتب الأستاذ حسين عزت المحامى نائب الدائرة التى تمثل الماى إحدى قراها الكبيرة .

دخلتُ واستقبلنى النائب وسألنى عما يدور فى مركز الشباب بالماى. فقلت له : هل تعرف أنى لست عضوا بالمركز.. تماما مثلما ليست لى تذكرة انتخابية فى دائرة الماى ..؟ فقال : لا.. لا أعرف .. لكنى أسألك عما يجرى هناك بعيدا عن عضويتك بالمركز . وفى الحقيقة لم أتبين -من رده - ما إذا كان يتجاهل تلميحى أم أنه لم يفهمه. قلت له: بصفتك نائب الدائرة وجَبَ عليك أن تبادر بمعرفة ما يحدث ممن تعرفهم بالقرية . فقال: لقد ناديتُ عليك لهذا السبب. قلت له : يا أستاذ حسين هذه مجرد مصادفة وليست محاولة قصدية منك ، علاوة على أنها متأخرة ، وهذه الأمور يجب حلها قبل أن يحدث الصدام . فقال: المهم ماهو الوضع الآن ..؟ فلَخّصْت له الحالة فى جمل قصيرة وأبلغته أنى أرسلت برقيتن للمحافظ ومدير الأمن وأوضحت له نصهما. فصمتَ قليلا وقال: وما الحل فى رأيك..؟ قلت له : أنا شهادتى مجروحة .. فأنا محسوب على طرف من الأطراف ولو أردتَ معرفة الوضع على الطبيعة فما عليك إلا أن تذهب إلى الماى وتحضر المباراة النهائية المقامة اليوم فى الخامسة . فرد متسائلا: " هوه فيه نشاط ..؟ . أجبتُه النشاط لم يتوقف لحظة .. والأهم هو أنّ مَنْ يقوم به هم مَنْ تمّ فصلهم وهو يسير بوتيرة أعلى مما كان قبل أسابيع .. بينما من اتخذوا قرار الفصل لا يدخلون المركز ليس لأن أحدا منعهم ولكن خوفا من جمهور الشباب وربما لإحساسهم بأن قرارهم لم يكن موفقا فى فصل زملائهم دون أسباب لائحية أو قانونية .. وربما شعورا بالذنب أو بأن هناك من أملاه عليهم.

رمقنى حسين عزت بنظرة فاحصة ثم قال: " إنته عاوزنى أروح الماى فى الجوّ ده "..؟ قلت : نعم .. هذا حقك وقبلهُ واجبُك . فرد : لا أنزل الماى إلا بضمان شخصى منك. فقلت له : وأنا تحت أمرك.. متى تحب أن نذهب..؟ وبالمناسبة ستكتشف أن كلَ ما سمعتَه عن هذا الموضوع لا صلة له بالواقع والحقيقة. المهم أن النائب عاد بعد دقائق واعتذر عن مرافقتى .. وربما يكون أحد الجالسين معنا فى مكتبه قد أوْمَأ له بالرفض دون أن أتنبّه .

أقيمت المباراة النهائية للدورة ، وأدار اليوم الرياضى مجموعة الشباب المحتج على قرار الفصل بينما لم يحضرها واحد ممن اتخذوا ذلك القرار.هذا وقد ظل الوضع على تلك الحالة لفترة ليست بالقصيرة إلى أن حان موعد الانتخابات التالية لمجلس الإدارة.

وفى تقديرى أن الأمن افْتعَل هذه الأزمة لاستخدامها فى التدخل فى المركز وتوجيه ضربة لحركة الشباب ربما بإغلاق المركز.. حيث لا يمكن لمجلس إدارة أية مؤسسة أن يفصل عضوا به بل يكون من حقه مخاطبة المسئولين بالجهة الإدارية بالأمر وبالتالى إجراء التحقيق اللازم وعرضه على الجمعية العمومية (أى على مجموع الأعضاء فى المركز) لتتخذ قرارها بالموافقة أو الرفض ، وحتى لو كان من حق الجهة الإدارية اتخاذ قرار بفصل أحد أعضاء الجمعية العمومية فلا يمكن أن يكون من حقها فصل أحد أعضاء مجلس الإدارة دون تحقيق رسمى وهو ما لم يحدث. وعلى ما يبدو أن تجاهل الجهة الإدارية والمحافظة وأجهزة الأمن لما جرى كان بأمل أن يحدث الصدام بين طرفي الأزمة ومن ثم يُتخذُ ذلك الصدامُ ذريعةً للتدخل ؛ ولكننا فوتنا عليهم الفرصة؛ وباءَ مسعاهم بالخيبة.


ملاحظة هامة بخصوص مراكز الشباب :

تَعتَبِر أجهزة الأمن مراكزَ الشباب فى القرى تحديدا أماكن خطرة نظرا لأنها تضم أعدادا هائلة من الشباب وتعد بؤرة للنشاط المعادى إذا ما سيطرت عليها قوى سياسية مناوئة للدولة. ومن هنا ورغم الانتهاء من تجهيزات وتشطيبات مركز شباب قرية كمشيش فى ذلك الوقت ( سبعينات القن الماضى ) إلا أن الدولة أغلقته ولم تقم بافتتاحه أو السماح بالنشاط فيه لمدة تتجاوز ثمانى سنوات لأنها تدرك أن قيادات كمشيش الشبابية ستحصل على كل مقاعد مجلس إدارته فيما لوأجريت الانتخابات بشأنه وستُسَيّر النشاط فيه بطريقتها أيا كانت اللوائح.

وهو نفس ما حدث فى مركز شباب الماى وإن بطريقة مختلفة حيث تم حصر النشاط الرياضى فى أضيق نطاق ؛ فالمركزلا يتاح لأنشطة شباب القرية كما كان الحال طيلة السنوات السابقة ؛ بل وفى جزء من أرضه تم رفع لافتة باسم القوات المسلحة. وتقديرى أن سبب ذلك هو نفس السبب الأمنى الذى أفضى فى وقت سابق لعدم افتتاح مركز شباب كمشيش فى بداية سبعينات القرن الماضى.

رصيد التخلف.. والهجمة الأمنية المضادة وشواهدها :

وبشكل عام كانت تلك الأحداث هى بداية الهجوم الأمنى المضاد على حركة الشباب بالقرية.. الذى استثمر عددا من المشكلات التاريخية مثل:
1-التعصّب الجِهَوى ( الجغرافى ) بين الناحيتين البحرية والقبلية:
ولذلك التعصب جذورفى التاريخ؛ أحد شواهده وجود شارع رئيسى بالقرية يبدأ من الناحية الشرقية وينتهى فى الغربية اسمه " درب السور "، ورغم أن هذا " الدرب " يمثل الآن خطا وهميا بين الناحيتين إلا أن الحقيقة المُرّة أنه كان سورا حقيقيا من الطوب يفصلهما فى زمن سابق؛ ورغم زواله فيما بعد إلا أن آثاره النفسية والمعنوية مازالت عالقة فى النفوس.
2-تدنى الوعى السياسى وسيادة الروح الفردية عموما وغياب الجماعية فى العمل.
3-صلات عدد من وجهاء القرية وكُبراءِ عائلاتها بأجهزة الدولة الأمنية .

هذا وقد تمثلت الهجمة الأمنية المضادة فيما يلى :

•استهداف كل من على نجم ومحمد سعد سراج الدين وكلاهما حى يُرزق- وكانا طالبين بكلية الزراعة ولعبا دورا نشيطا فى حركة الشباب- بالضغط على والد الثانى الموظف بإحدى مستشفيات المدينة لإبعاد ابنه عن المشاركة فى الحركة ، وتهبيط على نجم – من رتبة ملازم مجند بالقوات المسلحة إلى رتبة عريف - وعزله داخل وحدته العسكرية عن زملائه طيلة مدة تجنيده فى خندق منفرد رغم وجود حلول أخرى تتجنب تلك المعاملة الإجرامية لجندى صغير فى جيش يستعد لحرب قادمة لتحرير سيناء.

•أحداث مركز الشباب التى لعب الأمن فيها دور المخطط، وكادت تُفضى إلى صدام شديد لولا حصافة الشباب التى أفسدت تدبير الأمن.

•النشاط المحموم لبعض الأفراد من أهالى القرية وعلى رأسهم فتحى الدسوقى عضو التنظيم الطليعى وفوزى شعبان فى محاولات لا تتوقف لتأليب أهالى القرية على الشباب. فضلاعن دور بعض أعضاء الجمعية الزراعية الذين استهدفتهم حركة الشباب ؛ وعدد من وجهاء القرية الذين أبعدتهم الحركة عن دائرة الضوء رغم أن الحركة لم تستهدف ذلك.
•عمليات التحريض اليومية من الأجهزة الأمنية ومعاونيها التى استثمرت رصيد التخلف والتعصب بالقرية خصوصا لعدد من لاعبى فريق الكرة ولبعض الأسر والعائلات.
•الشائعات التى استهدفت أسرتى والتى لم يُكتشف أغلبها إلا بعد إبعادى عن المحافظة؛ وعلى سبيل المثال وفى بدايات تفجُّر الحركة الطلابية بالقاهرة فى وقت لاحق سمعتُ بالمصادفة من أحد الأصدقاء القدامى- كانت له صلة ببعض ضباط الشرطة- سمعتُ شائعة تقول أن أمان صقر قد تم القبض عليها فى إحدى مظاهرات الجامعة أمس- كما حدد الضابط - وتم حلق شعرها..رغم أن أمان لم يكن قد قبِضَ عليها إلا فيما بعد ، فقد وجدنا الشائعة تملأ شوارع القرية. وحيث أن أمان كانت حاسرة الرأس ولا ترتدى إيشارب فقد أخبرتُها بالشائعة وطلبت منها ارتداء ملابسها فورا والذهاب للماى والتجَوّل فى شوارعها الرئيسية العودة فى الاتجاه المعاكس بنفس الطريقة ، وأن تمر على عدد من منازل الأقارب والجيران السابقين على أن تدير معهم أحاديث سريعة على أبوابها دون أن تدخل وأن تفعل نفس الشئ إذا ما تصادف وقابلتْ إحدى زميلاتها فى الطرقات.وبالفعل تمكنا فى بحر ساعات من إخماد الشائعة وكشفنا من أطلقوها وأوضحنا أن الشائعة التى تتردد فى مكانين متباعدين فى توقيت واحد لا يطلقها وينشرها إلا جهازٌ واسعُ الانتشار أو حزب له تواجدٌ فى الشارع.

لقد توجت تلك الهجمة االأمنية المضادة بحظر إقامتى بمحافظة المنوفية إضافة إلى كفر الشيخ وإبعادى عنهما فى 14 يونيو 1971 بقرارا صادر من رئيس الوزراء برقم 1065 ضمن عدد آخرالأشخاص من قرية كمشيش. ، ونُقِلت إداريا إلى محافظة أسيوط.

،،،،،،،،،،،،،،

وإلى أن نلتقى فى الحلقة القادمة بعد يومين مع الجزء الرابع ( رحلة إلى كمشيش ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة