الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب الأيام و رحلة عميد الأدب العربي طه حسين من الجهل إلى المعرفة

عبير سويكت

2017 / 12 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كتاب الأيام و رحلة عميد الأدب العربي طه حسين من الجهل إلى المعرفة

بقلم :عبير سويكت


كتاب الأيام الذي يتحدث عن ذكريات طه حسين منذ طفولته و التدرج المرحلي لحياته، دراسته في الأزهر والجامعة المصرية, وبداية كتاباته، سفره للدراسة في السوربون وقصة حبه وزواجه ، عودته لمصر وعمله أستاذا في الجامعة، و يحكي مشوار حياته بما يحمل في طياته من فرح و طرح، من فشل و نجاح، و جهد و معاناة، و كفاح و إصرار و عزيمة على قهر الصعاب.


كتاب الأيام نشر الجزء الأول منه بعد ثلاث سنوات من كتابته، و الجزء الأخير بعد عشر سنوات.
حيث كان أحد الصحفيين الذين عملوا في صحيفة (أخر لحظة) ، قد سأل طه حسين بعض الأسئلة و قام فيما بعد بنشرها في لبنان في كتاب مستقل أسماه (مذكرات طه حسين) ،دون أن يعلم طه حسين بذلك، و قام طه حسين فيما بعد بضم هذا الكتاب إلى كتابه (الأيام) قبل موته بعام.


و في الأجزاء الثلاثة لكتاب الأيام نجد أن طه حسين يقص نشأته منذ الطفولة و دراسته في الأزهر، ثم في الجزء الثاني يقص ما تعلمه في الأزهر و في الجامعة الأهلية بعد أن تخرج دكتورا و منح الدكتوراة، و نال المنحة الدراسية في باريس.
و بعد ذلك يصف رحلته في باريس، و الحرب العالمية التي أجربته على المكوث في مونبلييه Montpellier الواقعه جنوب فرنسا ، و من ثم رجوعه الي باريس العاصمة حيث نال الدكتوراة للمرة الثانية في جامعة السوربون عن رسالته ( الفلسفة الإجتماعية عن إبن خلدون) ، و كان قد سبق له و نال الدكتوراة في( ذكرى أبي العلاء)،و بالرغم من أن رسالته تلك كانت أول درجة دكتوراة منحتها الجامعة المصرية، و تعتبر في نفس الوقت اول كتاب قدم للجامعة و نال إعجاب الكثيرين إلا أن الضجة التي أحدثتها هذه الرسالة كانت أكبر حيث قوبلت باستهجان و غضب شديد في الأوساط الدينية ، بينما إتهم أحد أعضاء البرلمان المصري طه حسين بالمروق والزندقة، والخروج على مبادئ الدين الثابتة و الإلحاد و الكفر، و طالب بحرمان طه حسين من حقوق الجامعيين بحجة أنه تجرأ على تأليف كتاب فيه إلحاد وكفر واضح ، و لكن رئيس الجمعية التشريعية بالبرلمان آنذاك سعد زغلول تدخل و أقنع النائب بعدم السماع لهذه المطالب الظالمة، في الوقت الذي لم يكتفي فيه طه حسين بتدخل سعد زغلول و قام هو شخصياً بالرد على هؤلاء الفئات المضللة قائلا : أن كل ما يكتوبه عنه لم يجد فيه شيئا يستحق الرد عليه، و وصفهم بأنهم يتبعون طرق معوجة في الفهم و مناهج يستخدمنوها لتكفير الآخرين.


و في الجزء الثاني من الكتاب يتحدث عن رجوعه إلى مصر و تدرسيه في الجامعة... إلخ، و هكذا يتبع نظام التسلسل في السرد ، ثم يكتب إهداء الكتاب الأول لابنته مارجريت و يقع (طه حسين) ،علما بأنه في كتابه كان يستخدم ضمير المتكلم، و في الجزء الثاني أستخدم ضمير الغائب و أستمر على هذا النمط حتى الباب الأخير ثم إهدائه إلى إبنه ألبرت.


و الجزء الثالث من كتابه هو عبارة عن مذكرات ، و نجد أن طه حسين يشير إلى نفسه في هذه المذكرات بإستخدام كلمات عديدة (صاحبنا) تارة و (الفتي) تارة أخرى، و هذا الجزء هو أشبه ما يكون بعقد السيرة الذاتية، و الإعتراف بهوية الكاتب و السارد يأتي متأخراً في العقد الأخير، فكتاب الأيام بكامله عبارة عن سيرة ذاتية قريب من نوع (الرحلة)، فالكاتب يكتب رحلته من القرية إلى القاهرة ثم إلى باريس، و حياته في فرنسا، فالرحلة فن أدبي خاص من نوعه، فترى طه حسين يذكر العلماء الذين إلتقى بهم و تعلم على أيديهم، و هو يركز بشكل خاص على البعد التعليمي في فن الرحلة، حيث نجد هذا الكتاب يركز على تكوين السارد بطل الرحله (طه حسين).


و في نفس الوقت نجد أن كل جزء من أجزاء هذا الكتاب هو جزء مستقل كامل مكمل، فعلى سبيل المثال الجزء الأول تم نشره من غير أن يذكر كاتبه أنه الجزء الأول، أي الطريقة التي كتب به تمكن القارئ أن يقرأ كل جزء منه و يستمتع بقرائته بطريقة مستقلة دون حتى أن نقرأ ما حدث بعد عودة طه حسين إلى فرنسا.


و بعد عودته من فرنسا نجد أن طه حسين بدأ يعلم في الجامعة المصرية، و في نفس الوقت كتب في جرائد مختلفة، منها جريدة السياسة بشكل خاص ، و كان رئيس تحريرها آنذاك الكاتب الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل صاحب الرواية الأدبية المعرفة (زينب) التي صنفت بأنها أول محاولة جادة لوضع الرواية العربية في قالب يطابق المقاييس الأوربية العالمية.


و من المعروف أن الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل كان قد لعب دوراً سياسياً مهماً فكان لسان حال (حزب الدستوريين الأحرار) الذي أنشأته لجنة الثلاثين كمشروع دستور لمصر المستقلة يرأسه عدلي يكن و من أبرز أعضائه محمد حسنين هيكل،
مدحت يكن باشا، محمد محمود باشا، حسن عبد الرازق باشا، حافظ عفيفي، بينما كان كان في الجانب الآخر حزب الوفد أو كما يلقبونه (حزب الأغلبية) أو (الحزب الجماهيري الكبير) و كان مؤسسه سعد زغلول و رئيسه، بالإضافة إلى عبد العزيز فهمي، على شعراوي، أحمد لطفي السيد، مكرم عبيد، و فخر الدين المفتش و غيرهم من الأعضاء و كانوا بعد أن شكلوا حزبهم أصدروا وثيقة تقول :("نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول و.. في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى") ، فبعد الحرب العالمية الأولى و ثورة تسعة عشر (9/مارس /1919) التي كانت عبارة عن احتجاجات شعبية كبرى قادها حزب الوفد برئاسة سعد زغلول، و مجموعة كبيرة من السياسيين المصريين معبرين عن رغبة الشعب الرافضة لعملية التوغل البريطاني في شؤون مصر الداخلية و سيادتها، و فرضه الحماية و إلغاء الدستور ، و طغيان المصالح الأجنبية على اقتصاد الدولة، و إعلان الأحكام العرفية و غيرها من المتطلبات الجماهيرية، و بعد هذه الثورة و الحرب العالمية الأولى طالب المصريين بالاستقلال عن طريق إرسال وفد القوميين إلى إنجلترا برئاسة سعد زغلول، و لكن انقسم وفد القوميين إلى قسمين :(حزب الوفد) بقيادة سعد زغلول، و حزب الدستوريين الأحرار الذين توجسوا و خافوا من سعد زغلول معللين هذا التخوف (بأنهم رأوا فيه طاغيا يتصرف كديكتاتوري) فكان طلبهم بالرجوع إلى حياة دستورية في مصر.

و طه حسين بالرغم من الأقاويل التي كانت تتردد عن انتمائه لحزب الدستوريين الأحرار فقد أكد البعض أنه لم يك ينتمي لهم بل شاركهم فقط النضال فقد كان معارضا لسعد زغلول آنذاك.

و في الوقت الذي ألف فيه طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) و ما أحدثه من ضجة و جدل في الأوساط الدينية حتى عارض الأزهر نشر الكتاب، في ذاك الوقت ساند الدستوريين الأحرار طه حسين و عل رأسهم الشيخ علي عبد الرزاق الذي كان قد دفع المبالغ المالية المطلوبة حتى يواصل طه حسين دراسته في الجامعة الأهلية.

و في ذاك الوقت كان الشيخ علي عبد الرزاق قد نشر كتاب ألفه في سنة 1925 أسماه (الإسلام و أصول الحكم) عندما قرر مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية في تركيا عام 1920، و قوبل هذا القرار بمعارضة كبيرة، و اعتبروه محاولة لضرب أخر مسمار في نعش الأمة الإسلامية ،و أنها مؤامرة ضد الخلافة العثمانية بغرض تشويه صورتها و هدمها، لأنها تمكنت من أن تبسط نفوذها و تتمدد حتي القارة الأوروبية، و عارضت ما أسموه بالمشروع الصهيوني لإقامة دولة لليهود في فلسطين،و وصفوا مصطفي كمال أتاتورك بأنه صنيعة علمانيو الغرب و الصهيونية، و انه أداة لتنفيذ مخططات جمعية الاتحاد و الترقي التي تحركها الجماعات الصهيونية الماسونية، للقضاء على الخلافة العثمانية و نجاحها و إنجازاتها في شتي المجالات و وصفوه بعدو الإسلام و أنه لطالما جاهر باراءه المعادية للإسلام.

بينما كان آخرين يرون فيه بطل تركيا الحديثة القومي و مخلصها من البطش و الإضطهاد العثماني، و مؤسس دولة مدنية علمانية، و انه من صعد بتركيا الي مستوى الحضارة المعاصرة ،و اخرج البلاد من حكم الخلافة الإستبدادي القائم على توارث الحكم ضمن عائلة (ال عثمان) استناداً على شرعية دينية تعتبر الخليفة "ظل الله في الأرض".

و في ظل هذا الانشقاق ما بين مؤيد و رافض لقرار إلغاء الخلافة الذي أحدث ضجة كبيرة و اضطراب في الأمة الإسلامية فجنح الرؤساء لإيجاد حل لهذه الأزمة حيث كتب رشيد رضا في 1924 كتاب أسماه (الخلافة أو الإمامة العظمي)، عبر فيه عن آراءه ،و دافع عن الخلافة، و حاول أن يجمع بين متطلبات الخلافة و النظام الجمهوري، و طالب أن يصبح النواب المنتخبون أهل العقد و الأمر، فكان هذا ما أراد أن ينظره من خلال كتابه.

بينما الشيخ علي عبد الرزاق في كتابة (الإسلام و أصول الحكم)، وضح أن الخلافة ليست فرض، فكان رد فعل هيئة علماء الازهر عنيفة جداً أدت إلى إخراجه من زمرة العلماء،و شككوا في ملكية الكتاب و أن مؤلفه الحقيقي هو المستشرق الانجليزي ديفيد صموائيل مرجليوث و ليس الشيخ علي عبد الرازق،و اتهموا أسرته بالانتماء للمحفل الماسوني بالقاهرة، و أن شقيقه مصطفي عبد الرازق و شيخ الازهر كان يقبل أرض باريس عند الوصول إليها.

الأمر الذي تسبب في أزمة سياسية في البلد بين حزب الدستوريين الأحرار و حزب الوفد، مما دفع طه حسين لكتابات مقالات عنيفة في جريدة السياسة يدافع فيها عن علي عبد الرازق فكتب قائلاً :(لقد تالب رجال في الأزهر على الرجل، فاخرجوه من ذمرتهم، تعالوا نتحدث ضاحكين عن هذه القصة المضحكة، قصة كتابك و الحكم عليك و طردك من هذا الأزهر، و لا تكن أزهريا)،فكانت مقالته عنيفة جداً، بالرغم من أن طه حسين كان ملتزما في حياته و لكنه في نفس الوقت لم يك منعزلاً عن الحياة السياسية و الثقافية في بلده.


ثم بعد ذلك قام طه حسين بجمع جميع محاضرته و الدراسة التي تلقاه في الجامعة عن الشعر الجاهلي و أصالته ،و المنهج الذي سلكه في دراسته قائلًا :(من الضروري الإعتماد على نظرية الشك الديكاتري في أنه يجب عدم التسليم بآراء سابقيه القائمة على النقل دون إعمال العقل؛ بناءً على آراء جامدة مسلَّم بها تسليمًا مطلقًا، بل يجب استنهاضها وإحيائها كرة ثانية، و الشك في كل شئ طالما أنه لم يجد الحجج و البراهين التي تؤكد على الحقيقة، و على العاقل أن يتبع هذا النهج حتى في العلوم الدينية، و التجرد من الانتماء الديني و القومية في البحث فكان قوله :( “يجب حين نستقبلُ البحث عن الأدب العربي وتأريخه أَنْ ننسى قوميتنا وكلّ مشخصاتها، وننسى ديننا وكلّ ما يتصل به، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيءٍ إلا لمناهج البحث” المعركة شرط الجنوح أولًا إلى الإثبات ومن ثم إلى اليقين، وإن لم تسعفه أسباب البحث والفحص، فيعمد إلى الشك، ومن ثم إلى الإنكار).

و اعتماداً على هذا النهج كانت مقدمة كتابه( في الشعر الجاهلي) :(للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما ايضاً ، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون الى أن نرى فى هذه القصة نوعاً من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الاسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى)، فكانت هذه المقدمة هي سبب الأزمة الكبرى في قضية طه حسين، حيث قام بنشرها في الملحق الأسبوعي في جريدة السياسة في مايو 1926،فكانت هذه المقدمة كافية لإثارة الأزمة الكبري، في الوقت الذي كان فيه الجو متوترا في مصر آنذاك بين حزب الوفد و الدستوريين الأحرار، و بين القصر و الملك، مما أسفر عن أزمة سياسية على مستوى البلد.

فخرج طلاب الأزهر الشريف في مظاهرات عارمة كردة فعل ثائرة غضباً و احتجاجاً على كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي)، و توجهت تلك المظاهرة نحو بيت الأمة المقر الرئيسي لسعد زغلول زعيم الأمة آنذاك ، علماً بأنه من خريجي الأزهر، و تلميذ جمال الدين الأفغاني و الإمام محمد عبده، فما كان من سعد زغلول إلا أن أطل من شرفته ورد على ذاك الحشد العظيم قائلاً :(إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر فى هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلاً مجنوناً يهزى فى الطريق فهل يضير العقلاء شىء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذى شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟».

و لم يتوقف الأمر عند ذلك فقط، بل صدرت العديدة من الكتب في نقد هذا الكتاب، و لاحق هذا النقد ضجة إعلامية كبيرة على سبيل المثال :مجلة الفتح، الاتحاد، المنار) و غيرها من الصحف التي كانت عناوينها بالخط العريض (طه حسين ينتحر) ،(طه حسين ينكر جود الله تعالي و لا يتفق مع الدين)، (ماذا يريدون من نشر هذا الإلحاد).

و عندما تأزم الموقف الي هذا الحد، نصح عميد الجامعة طه حسين بالذهاب للإقامة في فرنسا حتي تهدأ الأمور، و بالفعل ذهب طه حسين إلى فرنسا و أقام فيها ستة أشهر في جبل Alpes بفرنسا، و كان طه حسين قد صمت لفترة طويلة، و لكنه بعد ذلك خرج عن صمته و قام باملاء هذا الجزء من كتابه علي سكرتيره في مدة ستة أيام دون أنقطاع، و جميع من كتبوا عنه أجمعوا على أنه كان يقوم بالاملاء دفعة واحدة، و كأنما يريد أن يتحرر من عئب بداخله، و كان يكره أن يسمع من جديد ما املاءه ،فكانت عبارة عن إملاء في دفعة واحدة، ثم نشرت هذه النصوص.

لكنه لم يذكر شيئاً عما حدث في سنة 1926،مع العلم بأن تلك الأزمة هي التي جعلته يريد أن يقص حياته و يبدأ السيرة الذاتية، و هكذا يمكن قراءة هذا الكتاب بعد معرفة هذا السياق الخاص.

فكان عنوان الكتاب (الأيام)، و هو عنوان قصير جداً و عجيب مما جعل الكثيرون يضيفون الي هذا العنوان (كتاب الأيام)، فهو لم يقول أنها أيام طه حسين أو أيام عميد الأدب العربي، فقد كان التعريف ابعد عن التدقيق لا يدل بدقة عن الأيام، و لكن يضج بها هاله شعرية مثل التي تضج بالقمر، و لكي نفهم هذا العنوان يتوجب علينا أن نقرأ الجملة الأولي فهو لا يحدد بالضبط، فهو لا يذكر لهذا اليوم إسم، و لكن إذا ركزنا على هاتين الكلمتين لوجدنا أنهما أصل كل سيرة ذاتية، فإذا حاولنا أن نكتب سيرتنا الذاتية رجعنا إلى الذاكرة، فالذاكراة الذاتية أولها النسيان لذلك هو يقول أنه لم يذكر لهذا اليوم إسم، و لا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر و السنة ، ثم يقترب شيئاً فشيئ من النسيان ثم الذكرة و هذا الانتقال يسمي في الأدب (الوظيفة الاستشهادية) (testimoniale du narrateur)،و نلاحظ أن هنالك تصاعد تدريجي يتمثل في (لا يذكر)، (يكاد يذكر)، ثم ذكرة بينة لا سبيل إلى الشك فيها،( يذكر أنه رآه) ، (أمس يذكر أن) ، فالجملة الأولي هي بمثابة (الرحم) قبل الولادة (phrase totalement clause) تتكون من أربعة فواصل، و السارد يستخدم إستراتيجية الولادة في السرد stratégie de naissance ،حيث نراه يعود إلى أقدم ذكرى و هي خروجه من الدار ،و هو يقص علينا كل ذلك و كأنها ولادة للذكري من النسيان و مراحلها إنغلاق الرحم، ثم الخروج من الدار و هذا يمثل الذكري الأولي الواضحة، فخروجه شبه رمزي كحال الولادة التي هي خروج من الرحم، و الدليل على ذلك أن السارد يذكر أن وجه تلقي هواء ثم يقول انه لم يتأكد من ذلك، و هذا يتبين لنا في جملة (النور و الظلمة) و نور هادئ لطيف عند خروجه من بيته.

إضافة إلى أن ترتيب الجمل على النحو التالي :(لا يذكر لهذا اليوم اسماً) جملة قصيرة، (و لا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر و السنة) جملة طويلة، (بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينيه) جملة طويلة ،(و إنما يقرب ذلك تقريباً) جملة قصيرة، و تكرر الجمل النافية عدا الأخيرة يجعلنا نشعر و كأننا نشهد (ولادة)، لذلك أصبح كتاب الأيام مهماً جداً حتي في سلك التعليم.

و قد تساءل التلاميذ عن هذا الوقت الذي ذكره طه حسين و أي فترة يمثل هذا الوقت بالظبط من حياته، فنصحوهم الأستاذة بأن يكتبوا إلى طه حسين مباشرة و يسألوه عن هذا الوقت ،و في نص نشره محمد الدسوقي بعنوان (رسائل إلى طه حسين في نوفمبر 1976، في العربي الصفحة 39، كان هذا النص بالكامل :

(يوم من عمر طه حسين)


و في العام الدراسي 69_70 قررت وزارة التربية في مصر الجزء الأول من الأيام على طلبة الشهادة الإعدادية، و طه حسين في هذا الكتاب يشير في أول جمله منه إلى يوم من أيام حياته، و قد أختلف المدرسون في تفسير هذا اليوم، فمنهم فمنهم من ذهب إلى أن المقصود به يوم يوم مولد العميد، و منهم من رأى أنه اليوم الذي بدأ فيه العميد يخطو إلى الشارع، و من ثم تلقي عشرات الرسائل من هؤلاء الطلاب، و كلها تطلب شرح هذا اليوم، و بيان المقصود به.

و لكثرة الرسائل أملي على العميد الكلمة التالية بعنوان (إجابة)، و طلب مني أن أحملها إلى المسئولين في الأهرام لنشرها.

(رسالة إلى طه حسين)

تلقيت رسائل عديدة من بعض شبابنا الذين يدرسون في المدارس الإعدادية، يسألوني فيها عن أول جملة من كتاب الأيام ،ذكرت فيها يوماً لا أعرف إسمه، و وقتا من هذا اليوم لم أحدده، و إنما ترددت في أمره أكان وقت الفجر أم وقت العشاء، و كثير من هؤلاء الشبان يقولون أن أساتذتهم لم يفسروا لهم هذا اليوم، و اغروهم بالكتابة إلى لابين لهم أكان هذا اليوم يوم مولدي، أم يوم أخر مع اني بينت هذا اليوم في السطور الأولي من هذا الكتاب و هو أول يوم خرجت فيه من الدار.

و لم يكن هؤلاء الشبان في حاجة إلى أن يفسر لهم هذا اليوم لأنه مذكور واضح كل الوضوح.

و الغريب أن بعض أساتذتهم قد اغروهم بسؤالي مع أنهم يستطيعون أن يبينوا هذا اليوم إلا أن يمنعهم من ذلك كسل أو تقصير أو قصور، فليقرا التلاميذ هذه الصفحة من الكتاب، فسيجدون فيها جواب سؤالهم واضحاً جلياً، و الله المستعان على استقامة التعليم في مدارسنا على اختلافها)

و كنت قد قرأت للعميد الصفحة الأولى من ذلك الكتاب قبل إملاء هذه الكلمة التي نشرت في الأهرام يوم العاشر من ديسمبر سنة 1969.


فكان هذا شرح عميد الأدب العربي لهذا اليوم الذي دار حوله الجدل و المقصود به.

ثم يذكر طه حسين المراحل المتقدمة من خروجه من البيت، و الاصطدام بعائق فكان هذا العائق العمودي هو ذالك السياج الذي لم يقدر على تخطيه إلى ما وراءه لأنه كان أصغر قائمة من أن يتخطى هذا السياج الذي لم يك بينه و بين الدار إلا خطوات قلائل، ثم يواصل طه حسين السرد في أنه كان غير قادر على تخطي قصب السياج الذي يمتد من شماله إلى ما لا نهاية، فكانت هذه عبارة عن الخطوات الأولى نحو المعرفه (les étapes importantes de la connaissance) ،ثم يتخيل له أن هذا السياج يمتد من يمينه إلى ما لا نهاية، و هذا يوضح أنه طفل غير عاقل ما زال يعيش في عالم الخيال(enfant dans l imaginaire).

فالسارد هذا الإنسان يتكلم عن أن ما لم يدركه هذا الطفل أن الدنيا تنتهي عند قناة عرفها عندما تقدم في السن، و أهم شئ في مقطع الأيام هو أن الطفل تأكد أن نهاية هذه الدنيا من هذه الناحية.

و يتضح لنا أن السارد يبذل جهداً حتى يتذكر، ثم يمر بمراحل متوسطة إلى إدراك حقيقة الأمور، و هي العائق الأول (حدود السياج)، و كل ذلك يعرض علينا مشروعاً يبين في الحلقة الأولى من كتابه الأيام و هي السيرة الذاتية المتمثلة في الرحلة من الجهل إلى المعرفة، حيث الإنتقال من عالم يسوده الخيال إلى عالم العقل و المعرفة، و تلك الرحلة تبدأ بعائق أول تليه اشياء كثيرة، فجميع هذه العوائق لعبت دوراً كبيراً في حياة طه حسين لأنه كان مختلف عن الأخرين فكان عليه أن يخترع حيل لتخطي هذه العوائق.
فنجد أن طه حسين كان يحب الجلوس من القرب من السياج لأنه كان يسمع قصص ساعدته على تخطي السياج و ازداد علماً، و تلك المراحل المتعددة في طريقة نحو العلم و المعرفة يحكيها كتاب الأيام الذي خصصه لذكر حياته، و في هذا الكتاب يحكي لنا كيف حفظ القرآن ثم نسيه ثم حفظه.

و كتاب الأيام عبارة عن مسيرة رجل أديب قص على الجميع ما بذل من جهد حتى أصبح ذاك الرجل العظيم و عميد الأدب العربي باعتماده على العقل و إبتعاده عن الخيال، و مسيرته من القرية إلى القاهرة، هذه المسيرة التي يخترعها على الجميع حتى تصبح مسيرة نموذجية من الجهل إلى المعرفة حتى يقتدي بها الأخرين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك